رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: عبد الله السناوى.. ضلالات كاتب فقد عقله


◄ لماذا يمارس الكاتب الكبير كل هذا التدليس ضد 30 يونيو؟

لم أمنع نفسى من الإشفاق الشديد على الكاتب الكبير عبدالله السناوى.
حاولت جاهدًا أن أنتهى من مقاله «النادمون على ٣٠ يونيو»- الذى نشرته جريدة «الشروق» الأربعاء ٥ يوليو ٢٠١٨- لكننى تعثرت فى مطبات كثيرة، فالكلمات تفقد معناها على سن قلمه، والعبارات متعثرة فى حبرها، والفقرات تعانى تسولًا كبيرًا للإحكام، والأسئلة التى تطارده ترهقه وترهقنا.
ما كتبه عبدالله السناوى يأتى تعبيرًا واضحًا عن كاتب محبط، يمكن أن نقول هذا بسهولة.
الواقع يقول إن الكاتب الذى كان يستعد لأن يكون واحدًا من رموز عصر ما بعد ٣٠ يونيو، إعلاميًا، وجد نفسه بلا دور، لأنه حاول أن يفرض رؤيته التى تجاوزها الزمن، فلم يسمع له أحد، وبدلًا من أن يقرأ المشهد جيدًا، ويعرف أن «قيمتك فى مصر الآن بقدر ما تعطى لا بقدر ما تأخذ»، واصل عناده، وبدأ فى إهالة التراب على ما جرى، لا لشىء إلا لأنه لم يحظ بمكان فيه.
يحمل عبدالله السناوى عقدة هيكل على كتفيه.
أليس هو تلميذه المقرب؟
أليس هو من ظل إلى جواره حتى لحظاته الأخيرة وهو على فراش المرض؟
أليس هو من شهد له هيكل بأنه تفوق على جميع تلاميذه؟
ما الذى يمنعه إذن من أن يكون هو تحديدًا وريثًا لهيكل، كاهنًا جديدًا فى معبد السلطة الجديدة؟
السلطة الجديدة ليست فى حاجة إلى كهنة ينشرون البخور حولها وهى تسير فى طريقها إلى ما تريد، كانت قد قررت أن تصارح الشعب بكل شىء، فلا حاجة لكاهن يدلس ويخدع ويزين ويغير الحقائق من أجل مكاسبه هو لا مكاسب الشعب ولا مكاسب من يحكم.
إذا أردت أن تعرف حقيقة ما يكتبه أحدهم، ليس عليك إلا أن تبحث عن دوافعه، وعن المساحة التى يقف فيها، وعن حالته النفسية أيضًا.. وعندما تقارب عبدالله السناوى من هذه المعايير الثلاثة، ستجده وقد فقد عقله تمامًا.
لن أتوقف كثيرًا عند ما قاله السناوى من أن «هناك من هو مستعد باليأس، أو بالغضب، أن ينفى عن ٣٠ يونيو طبيعتها كثورة شعبية طلبت الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ويحيلها إلى مجرد مؤامرة أو محض خديعة».
نحن هنا أمام كاتب يتماهى بشكل كامل مع توجهات الفصيل الإخوانى الإرهابى الذى تعامل مع ٣٠ يونيو من اللحظة الأولى على أنها لم تكن أبدًا ثورة شعب، بل ذهبت الجماعة الإرهابية للترويج إلى أن من خرجوا لم يزيدوا على ٦٠ ألفًا فقط، ولا تزال إلى الآن تصف ما جرى بأنه مؤامرة وخديعة، وأعتقد أن السناوى احتفظ ببعض من عقله- سيفقده بعد قليل- فلم يصف ما جرى بأنه انقلاب، كما تفعل الجماعة وإعلامها ومَنْ يُناصرها.
ولن أتوقف كثيرًا عند ما قاله السناوى من أنه: «لم تكن يناير مؤامرة بقدر ما كانت صراعًا مفتوحًا على المستقبل، توافرت أسبابه فى انسداد القنوات السياسية والاجتماعية وتهميش دور مصر فى عالمها العربى، فضلًا عن مشروع التوريث وزواج السلطة بالثروة وتفشى الفساد وارتفاع منسوب الدولة الأمنية»، وذلك لأن عبدالله السناوى بما يقوله هنا- بالنسبة لى- لم يغادر بعد مجلسه فى قهوة شارع يعقوب قبل يناير بسنوات طويلة، كان وقتها يقول هذا الكلام نصًا، ولم تستطع الأحداث المتعاقبة والحقائق التى تكشفت أن تغير وجهة نظره، أو تقول له إن ما كنت تردده عن أسباب الثورة الواجبة على مبارك ونظامه لم يكن صحيحًا.
فى سنوات مبارك الأخيرة قال الرئيس الأسبق إنه لا توريث للسلطة فى مصر، وجدتُ عبدالله السناوى وقتها يضحك بشدة، ويقول لى بعفويته: «هو مبارك عاوز مننا إيه، عاوز يقطع عيشنا، بقالنا سنين بنقول لن يمر سيناريو التوريث إلا على جثثنا، واليوم هو يقول: مفيش توريث، نعمل إيه إحنا نقول له لأ فيه توريث!».
كانت المعارضة المعلقة فى الهواء بلا جذور هى شرعية من يمثلهم عبدالله السناوى، وأعتقد أن يناير كانت مفاجأة له ولغيره، فهو لم يكن يختلف فى شىء عن النظام السياسى الذى كان يعتقد أن هذا الشعب لن تقوم له قائمة أبدًا.
تهويمات «السناوى» فى سنواته الأخيرة جعلته يتنكّر لما تكشف من حقائق عن يناير، وعمن خططوا لها وقادوها، وكانوا على وشك أن يقطفوا ثمارها كاملة باختطاف الوطن، لولا وقفة الشعب المصرى الذى قرر أن يقف فى وجه الجميع رغم معرفته بالخطر الذى ينتظره.
يحاول السناوى مدلسًا علينا اليوم بأن يصور أن ثورة ٣٠ يونيو هى ابنة ثورة ٢٥ يناير، وهو إفك كامل، يحلو لمن يقولون إنه لولا يناير ما كانت يونيو أن يرددوه على مسامعنا.
يقول: «لم يكن ممكنًا أن تحدث يونيو إذا لم يكن المجتمع المصرى قد تسيس فى يناير، واكتسب حقه فى التعبير عن نفسه بالتظاهر السلمى، فصل يونيو عن جذرها الأم هو بذاته مؤامرة على الثورة إذا صح حديث الخيانات».
وكما لم يفهم السناوى لماذا قامت ثورة يناير، يبدو أنه أيضًا لا يفهم لماذا قامت ثورة يونيو.
لم يخرج الشعب فى يونيو رافضًا جماعة الإخوان الإرهابية واختطافها مصر فقط، ولكن خرج ضد النخبة التى خانته وساهمت فى تسليم البلد للجماعة من الأساس، وأعتقد أن التاريخ لن يرحم هؤلاء الذين فرشوا البساط أمام الإخوان، معتقدين أنهم يمكن أن يجدوا لأنفسهم مكانًا على مائدتهم.
من اللحظة الأولى لدخول عبدالفتاح السيسى إلى قصر الاتحادية، وعبدالله السناوى- ومن يمثلهم- مهموم بشرعية الرئيس، ومشغول بشرعية الثورة، ولأنه يريد أن يكون مختلفًا دائمًا، حتى ولو كان على باطل، بدأ فى صك عبارات من عينة «نزيف شرعية الرئيس»، وكنت أتعجب: عن أى نزيف يتحدث الكاتب الناصرى والتجربة لا تزال فى بداياتها؟!.
كنت أتعجب أكثر لأن الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه قال أكثر من مرة إنه لا يهتم بأن يهتف له الناس، ولا أن تكون له شعبية طاغية فى الشارع وهو لا يقدم شيئًا حقيقيًا، كان يمكنه أن يريح نفسه تمامًا، ويقدم للشعب ما يريده حاصدًا إعجابه وتأييده، لكنه لم يكن ليرضى عن نفسه وهو يخدع الجميع، وكنت أتساءل دائمًا: هل يريد السناوى أن يخدع السيسى شعبه ليحافظ على شعبيته؟
هاجس الشرعية لا يزال يؤرق عبدالله السناوى فيما يبدو.
يحاول أن يصطنع لنفسه نظرية متهافتة عن شرعية ٣٠ يونيو.
يقول: شرعية يونيو تعرضت لضربتين قاصمتين من اتجاهين متعارضين، الأولى بالسياسات التى استدعت الماضى مجددًا وشيوع روح انتقامية من يناير، وتضييق المجال العام أمام حركة المجتمع، وتنحية السياسة، وتأميم الإعلام، وتبنى خيارات اجتماعية دفعت بمقتضاها الطبقة المتوسطة والفئات الأكثر عوزًا فواتير الإصلاح الاقتصادى دون أى عدل فى توزيع الأعباء.
كلام من ظاهره يبدو منمقًا تمامًا، لكنه فى حقيقته لا يعبر عما يحدث على الأرض، وقد تقبله وأنت جالس على مقهى شعبى تزجى وقتك مع أصدقائك، لكنه كلام لا يصلح لتقييم تجربة كاملة، أنجزت على الأرض فى سنوات قليلة ما عجزنا عن إنجازه فى سنوات طالت منذ عقود.
يتعامل عبدالله السناوى- والفصيل الذى يمثله- مع دولة ٣٠ يونيو على طريقة «فيها لأخفيها».
ولا أدرى أى مجال عام ضاق عليه هو، وهو يكتب بانتظام كل ما يريده دون أن يعترض طريقه أحد؟.
ولا أدرى أى تنحية للسياسة وهو يعرف أكثر من غيره أن الأحزاب والقوى المدنية لا تريد إلا مَكلمة تردد خلالها أى كلام دون أى فعل واضح؟
وأى فئات أكثر عوزًا يتحدث عنها وهو لا يعرفها جيدًا ولا يعرف ماذا تريد؟
وأى طبقة وسطى يتحدث عنها، وهذه الطبقة نفسها هى التى شاركت بفاعلية فى ثورة يونيو، وقررت أن ترسم طريقها، وهى تعرف أنها ستتحمل فاتورة باهظة جدًا ولم تتردد؟
الضربة الثانية التى طاشت من السناوى، ويقول إنها كانت ضربة قاصمة لشرعية الثورة تأتى من مشاعر الإحباط التى وصلت إلى ما يشبه الكآبة العامة فى البيئة المحتقنة، كان الندم أحد تجلياتها على المشاركة فى يونيو.
من أين حصل عبدالله السناوى على هذا التصور، لمن سمع من الناس حتى يصل إلى ما وصله من حكم ينافى كثيرًا من الحقائق؟
تعرف الدولة المصرية أكثر من غيرها الآن أن هناك صعوبات تعصر الناس بسبب إجراءات برنامج الإصلاح الاقتصادى، وتعرف أن أحوال الناس ليست على ما يرام، وتعرف أن هناك من يشكو، لكنها تعرف أيضًا أن هذه الشكوى ليست كفرًا بالثورة، ولا محاولة للتبرؤ منها.
لم يسمع السناوى ما يقوله كثيرون من أنه ورغم كل الصعاب التى تمر بها مصر إلا أنه إذا عاد بهم الزمن مرة أخرى، فسيخرجون إلى الميادين والشوارع لطرد الإخوان.
هذه هى خبرة الشعب المصرى الذى يعرف جيدًا الخطر الحقيقى من الخطر المزيف، ويعرف أيضًا أن هذه الثورة ما كان لها أن تنجح لولا مساندة الجيش لها، وهو نفس الجيش الذى رأى وبوضوح ودون مواربة أنه لو ترك البلد فى أيدى القوى المدنية فلن يسلم أبدًا، ولذا فهو يقوم بمسئولياته حتى الآن.
إشفاقى على عبدالله السناوى ليس بسبب محاولة تزييفه الوعى العام فقط، ولكن لجهله بما يحدث على الأرض، اقرأ له ما يقوله من أن «الأخطر أن هناك من تصور أن كسر الأجيال الجديدة يثبت الدولة، بينما هو يضرب فى جذرها وينذر بمجهول لا يعرف أحد متى وكيف يطل علينا بأخطاره».
هل يمكن أن يقول لنا السناوى عن أى أجيال يتحدث؟ وعن أى كسر لها يشير؟ وعمن يتصور أنه بكسر هذه الأجيال يمكن أن يثبت الدولة؟ سيشير إلى بعض الشباب الذين يقضون فترات عقوباتهم القانونية، معتبرًا أن هؤلاء هم الأجيال كلها، دون أن ينظر إلى ملايين الشباب الذين يشاركون بفاعلية الآن فى المجال العام، وفتحت لهم الدولة مجالات للتدريب والتمكين بأساليب علمية لا مكان فيها لتنظير فارغ.
يعتقد عبدالله السناوى أن الدول يمكن أن تدار بالكلام المنمق الجميل المرتب الذى لا تفهم منه شيئًا فى النهاية.
لا أستطيع أن أقول له إن ما يعتقده ليس صحيحًا تمامًا، فهو حر فيما يرى ويذهب إليه.
كل ما أستطيعه أن أواصل إشفاقى على كاتب كان يمكن أن يكون إضافة إلى الوطن لكنه يصر على أن يكون خَصمًا منه وخِصمًا له.