رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حسين بيكار.. الملتحف بالوطنية والمحبة


فى ٢ يناير ١٩١٣ وُلد بحى الأنفوشى بالإسكندرية الطفل حسين أمين إبراهيم بيكار المعروف باسم «حسين بيكار»، وفى ١٦ نوفمبر ٢٠٠٢ رحل عن عالمنا بعد أن أثرى حياتنا بالعديد من الفنون والإلهامات الفكرية. كانت حياته رحلة فن مبدعة حتى صار صاحب مدرسة للفن الصحفى وصحافة الأطفال بصفة خاصة. ولوحاته الزيتية تشهد بأستاذيته فى التكوين والتلوين وقوة التعبير، وهو ناقد فنى شاعرى الأسلوب.

فى عام ١٩٢٨ التحق بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالقاهرة، ودرس على أيدى الأساتذة الأجانب ثم على يدى الفنان المبدع أحمد صبرى بعد عودته من فرنسا، وتخرج ضمن أول دفعة. وبينما اتجه كل خريجى مدرسة الفنون إلى التدريس، قرر بيكار أن يتخذ من الرسم موردًا لرزقه. أسهم فى تأسيس متحف الشمع بالقاهرة مقابل عشرين قرشًا فى الأسبوع، ثم عمل فى المعرض الزراعى الصناعى، حيث كان يبيع لوحاته مقابل عشرة قروش للوحة الواحدة.

وفى عام ١٩٣٤ حصل على شهادة الأهلية لتعليم الرسم، وحتى عام ١٩٣٨ عمل مدرسًا للرسم بالتعليم العام، حيث تنقل من دمنهور إلى القاهرة وأخيرًا إلى قنا. وفى قنا استلهم أشكالًا من الطبيعة فى الوجه القبلى والآثار الموجودة فى الأقصر. فى عام ١٩٣٨ اُنتدب لتدريس التربية الفنية بالمغرب، حيث عمل بالتدريس بالمعهد الخليفى بمدينة تطوان. ثم حصل بعد ثلاث سنوات على وسام الاعتزاز من الحكومة الخليفية بالمغرب. فى صيف ١٩٤١ قام بعدة رحلات إلى أوروبا وعاد إلى القاهرة عام ١٩٤٢ ليعمل معيدًا بكلية الفنون الجميلة معاونًا لأستاذه أحمد صبرى رئيس قسم الدراسات الحرة. وبعد أن بلغ أستاذه السن القانونية تولى رئاسة القسم، وظل يشغل هذا المنصب حتى استدعاه الأستاذ على أمين فى أحد أيام عام ١٩٥٩، وقال له: «ليس من مبادئنا تعدد الزوجات لذلك أنت مطالب بتطليق إحدى زوجتيك، وأنا أريدك أن تطلق زوجتك الحكومية فورًا وتتفرغ للصحافة.. إن مكانك هنا فى (أخبار اليوم)». ثم أعطاه الأستاذ على أمين مهلة أسبوعًا للتفكير، وبعد ثلاثة أيام طلبه الأستاذ على أمين وقدم له ورقة مذيلة بإمضائه، وقال له: «اكتب كل شروطك!»، وبهذا الأسلوب استطاع الأستاذ على أمين أن يسلبه إرادته حتى إنه فى اليوم التالى كان قد كتب استقالته ووضعها فوق مكتب عميد كلية الفنون الجميلة.
ما إن التحق بالصحافة حتى أدخل أسلوب التحقيق الصحفى المرسوم إلى المجلات المصرية، وقد أصدرت له دار المعارف سبعة كتب مصورة للأطفال (١٩٦٤-١٩٧٢). فى عام ١٩٥٨ اُختير ضمن أربعة فنانين من مصر حُفرت رسومهم يدويًا على الكريستال بمصنع «ستيبن» بالولايات المتحدة الأمريكية. وفى الستينيات اختارته وزارة الثقافة لعمل فيلم تسجيلى عن معبد «أبوسمبل» عندما انتشر التهديد بإمكانية فقده إلى الأبد بسبب بحيرة ناصر التى تكونت بعد إقامة السد العالى. استمر هذا العمل مدة ثلاث سنوات، شارك خلالها فى كتابة السيناريو، كما قام برسم ٨٣ لوحة ملونة لفيلم «العجيبة الثامنة» توضح تاريخ أبوسمبل منذ بنائه إلى يوم نقله فوق الجبل فى النوبة عام ١٩٧٠.

وصلت أبعاد بعض لوحاته إلى أربعة أمتار عرضًا ومتر ارتفاعًا، حيث استطاع أن يعبر عن هذا العصر الفرعونى بريشة تمتزج فيها الواقعية بالبساطة المذهلة، كما شارك فى قيادة الحركة الفنية وتوجيهها بعضويته فى لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب حتى إلغائه، ثم أصبح مقررًا للجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى للثقافة حتى استقالته فى يناير ١٩٨٢. كان عضوًا بالمجالس القومية المتخصصة، وكان يجيد الإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى لغته العربية.
من اللوحات التى مازلت أحتفظ بها له، وقد نشرتها مجلة «آخر ساعة» على صفحة غلافها الأمامى فى ٣٠ سبتمبر ١٩٨١، لوحة الدستور، حيث سجل بها الكلمات الذهبية الآتية: «طول عمرك يا مصر. عايش فيكى القرآن مع الإنجيل.. طول عمرك رافعة رايات السلام، ومولعة القناديل.. يا أرض الحب. ياللى بارك ترابك موسى وعيسى والخليل.. لا يوم عرفتى الغل. ولا التشكيك ولا التضليل.. ولا يوم عرفتى الفتنة.. ولا التخريب.. ولا التقتيل.. الجرس والمدنة خوات.. والتسابيح مع التراتيل.. رافعين إيديهم للسما.. وبكل الحب والتهليل.. بيقولوا الرب واحد.. والوطن واحد.. والوحدة ما لها بديل». ما أشد احتياجنا لهذه الكلمات الصادقة فى هذه الأيام القاسية. وبعدد جريدة «الأخبار» الصادر فى ١٨ أكتوبر ١٩٩٦ كتب بالعامية للذين يحتفلون بأعياد ميلادهم دون أن يدركوا الحقيقة، فقال: «ولّعولُه الشمع ف عيد ميلاده عشان يحتفى.. بسنين ولت وراحت، وسنين راح تختفى.. ولما شاف الشمع بنفخة واحدة بينطفى.. قال عجبى على ابن آدم لا بيشبع ولا بيكتفى».
إنه بالحقيقة فنان أصيل أثمرت إبداعاته حديقة غناء تسعد عيون المصريين.. تحية لروحه الطاهرة.