رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدستور والقراءة الطائفية للفن


تتميز الثقافة المصرية العامة بتعدد روافدها الثقافية فى إطار التوحد، فالحقب التاريخية المصرية منذ الفراعنة ثم الحقبة اليونانية التى تلتها الرومانية ثم القبطية وصولًا للحقبة الإسلامية المعاشة الآن، كل هذه الحقب هى مراحل تاريخية حملت ثقافة المصرى وصنعت حضارته وشكلت هويته، فكلها صناعة الإنسان المصرى أيًا كان شكله أو لونه أو دينه.
المصرى القديم كان يؤمن دينيًا بالديانة المصرية القديمة، وعندما جاءت المسيحية كانت مسيحية بهوى مصرى، حيث إن المسيحية عندما جاءت إلى مصر على يد مرقص الرسول كانت قد اعتمدت على تفعيل الواقع المصرى حينذاك، فالثالوث المصرى القديم تحول إلى الثالوث المسيحى، والكاهن المصرى أصبح كاهنًا مسيحيًا والمعبد الفرعونى تحول إلى كنيسة، المصريون أصبحوا مسيحيين، وعندما جاء الإسلام إلى مصر تأثر أيضًا بالهوى المصرى.
حيث إننا وجدنا الإمام الشافعى يغيّر بعض فتاواه الفقهية التى كانت فى العراق، وعلى مدى التاريخ تحولت الأغلبية العددية المصرية إلى الإسلام، فأصبح المصريون مسيحيين ومسلمين، ولكنهم جميعهم مصريون يحملون الشخصية الحضارية المصرية بكل حقبها التاريخية وعواملها الحضارية وخصائص هويتها المصرية، فالمصرى الفرعونى هو المصرى المسيحى وهو ذات المصرى المسلم، يتشاركان فى اللغة والعادات والتقاليد والثقافة والتراث ولا يختلفان سوى فى العقيدة الدينية التى عرفها المصرى القديم والذى عرف التوحيد قبل الزمان بزمان.
ولذا فالحضارة المصرية بثقافتها وفنونها وعمارتها وإبداعاتها هى صناعة المصرى، كما أن الفن المصرى مثلًا هو إبداع المصرى أيًا كان دينه، فالفن الفرعونى تأثر باليونانى والرومانى، والفن القبطى كان امتدادًا للفنون السابقة، كما أن الفن الإسلامى فى مصر هو إبداع المصرى الذى هو امتداد للتاريخ المصرى، لذا نجد فكرة المسلة الفرعونية التى تنتصب إلى أعلى للسماء هى التى أصبحت منارة الكنيسة وهى ذاتها فى مفهومها الفنى والحضارى هى المئذنة فى المسجد، وهذا يعنى أن اللغة والثقافة والفن المصرى لا تحد بدين ولا تحاصر فى عقيدة، هى صناعة وإبداع المصرى، وهى أيضًا ملك كل المصريين، ولكن وآه من لكن، هذه هى الطائفية المنغلقة التى تختلق الخصوصية وترفض العمومية، فالشخصية الحضارية المصرية المكونة عبر حقب التاريخ هى الشخصية التى تحملها كل المصريين الذين يتشاركون فى أكثر من ٩٨٪ فى جيناتهم المصرية، ولكن هذه الطائفية الممقوتة تتقوقع حول حقبة بذاتها، مدعية أنها هى صاحبة الحق الأصيل فى ملكية هذه الحقبة، فالمصرى المسيحى المنغلق والطائفى يتصور خطأ أنه هو وحده صاحب الحضارة الفرعونية والقبطية ولا علاقة له بالحقبة الإسلامية، كذلك المنغلق المسلم والسلفى يعتبر أن ما سبق الحقبة الإسلامية كفر بواح ووثنية بغيضة.
وبذلك يكونان صانعى الفرقة ومؤسسى التشرذم ومحبى التعنت الذى لا يكون أبدًا فى صالح مصر والمصريين، ولذلك نرى كثيرًا من الأقباط يتخيلون أن مصر ملك للمسيحيين فقط، وأن اللغة القبطية التى هى إحدى مراحل اللغة المصرية القديمة هى ملك لهم وحدهم، حتى إنه قد أصبح هناك مفهوم خاطئ وغريب لمن يتصور أن الأقباط هم المسيحيون وأن القبطية هى لغة الكنيسة والمسيحية والمسيحيين دون سواهم من المصريين، وبالطبع فالفن القبطى هو فن مسيحى وليس فنًا مصريًا وهو ملك لهم وحدهم، ناسين ومتناسين أن هذه هى مراحل للغة والفن صنعها المصرى، وهى ملك لكل مصرى ولا علاقة لذلك بالدين، لأن الفن القبطى ومدارسه من إبداع المصرى وليس إبداع الرسل.
والفن الإسلامى هو امتداد وإبداع المصرى ولم يقل به الإسلام، وإلا كان كل مسيحيى العالم يتحدثون اللغة القبطية ويحوزون إبداعات الفن القبطى كشىء مقدس ومن الدين، وعلى الجانب الإسلامى أيضًا كذلك، وعلى أرضية هذه الطائفية وجدنا جريدة الدستور وبمناسبة كأس العالم فى روسيا تنشر مجموعة لوحات للمنتخب المصرى على طريقة الفن القبطى بطريقته وبخصائصه الفنية، وكان دعاء «بركاتك يا عدرا» كنوع من التمنى للفريق بالنجاح وكتقليد شعبى مصرى أصيل يحترم القديسين والأولياء.
لكننا وجدنا المتاجرين بالدين والمولعين بالطائفية والمتخيلين الزعامة ومدعى البطولة التى يفتقدونها ولا يجدونها إلا فى دغدغة عواطف المسيحيين، يرفعون دعاوى معتبرين هذا ازدراء للمسيحية، فهل طائفية وجهل ومتاجرة هؤلاء ومحاولة تواجدهم على الساحة الإعلامية بمثل هذه الترهات، تكون ذات تأثير على المواطن العادى هنا وهناك؟ نعـم، ولذلك يجب ألا نعطى اهتمامًا لها، ولكن يجب توضيح وتثقيف الرأى العام بالشخصية الحضارية المصرية وبتواصل الفن المصرى بكل مراحله ومدارسه، وأنه فن صنعه المصريون وهو ملك للجميع ولا علاقة له بالأديان ولا بالمقدس ولا بالازدراء، فالفن لا يقرأ قراءة طائفية ولا علاقة له بهذا، الفن هو إبداع إنسانى متأثر بالمكان والزمان، كما أن الفن هو إنتاج للإنسان وللإنسانية يتجاوز العقائد ويتحدى الزمن، فهل الموسيقى الغربية مسيحية لا يسمعها غير المسيحيين؟، وهل الفن الإسلامى لا يتذوقه ولا يتأثر به غير المسلمين؟.. على الدستور كجريدة أن تلعب دورها المهم وتسير فى طريقها التنويرى والتثقيفى من أجل مصر وطن كل المصريين.