رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو.. ومصير الشبح البولندي!


 

حدث في بولندا، منذ سنة تقريبًا، أن اصطدمت سيارة رئيسة الوزراء السابقة، بياتا سيدلو، بشجرة، ونقلتها طائرة هليكوبتر، هي وسائقها وحارسها إلى مستشفى في العاصمة وارسو. والشيء نفسه، بسيناريو اختلف قليلًا، تكرّر مع رئيس الدولة الحالي، أندريه دودا، ومع وزير الدفاع السابق، أنتوني ماتشيريفيتش، الذي نقل عنه أحد من يوصفون بـ«النشطاء» أن الرئيس عبدالفتاح السيسي باع حاملتي الطائرات «ميسترال» إلى روسيا، بدولار أمريكي واحد!.

لو افترضنا حسن النية، يمكننا اتهام هذا «الناشط» بالاستسهال والاستهبال، لأنه لو ترك علبة «الكُلّة» التي لا تفارق يديه، ولجأ إلى أي محرك بحث، سيعرف، خلال دقيقتين أو أقل، أن «ماتشيريفيتش» عبيط أو بيستعبط أو لنقل «لاسع». وسيعرف أيضًا أن لديه عقدة من روسيا، تسببت له في «هلاوس» سمعية وبصرية، جعلته مثلًا، يتهم كل وزراء خارجية بولندا السابقين (نعم وزراء بولندا، التي كان وقتها وزيرًا لدفاعها) بأنهم عملاء للمخابرات الروسية. وفوق ذلك، كان مضرب المثل في «الهرتلة» وإطلاق الاتهامات غير المسئولة، وكثيرًا ما تهكم سياسيون وبرلمانيون بولنديون على تصريحاته، وطالبوا بإقالته أو على الأقل عدم تمثيله لبلده في أي محفل دولي تجنبًا للكوارث و«قلة القيمة»!.

ستيفان نيسيولووسكي، النائب البرلماني عن حزب «المنبر المدني» وصفه (في ٥ يوليو ٢٠١٦) تحت قبة البرلمان بأنه «سياسي أحمق»، وقال: «لصالح بولندا وحلف شمال الأطلسي والديمقراطية في أوروبا، لا يجب أن يمثل الوزير ماتشيريفيتش بولندا في قمة الناتو». وسبق أن كان وزير دفاع بولندا «العبيط»، محط سخرية العالم حين اتهم روسيا (مارس ٢٠١٦) باغتيال الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي، بعد مرور ٦ سنوات على مصرعه في حادث تحطم الطائرة الرئاسية البولندية (أبريل ٢٠١٠) الذي أسفر عن مصرع ٨٨ راكبًا، بينهم الرئيس المرحوم وزوجته ومسئولون بولنديون آخرون!.

 

..«أكتب الآن هذه السطور من العاصمة البولندية وارسو بناء على دعوة المعهد الأوروبي للديمقراطية احتفالًا بمرور ١٥ عامًا على إنشائه، ويحتفل هذا العام المعهد بالتعاون مع السفارة البريطانية في بولندا، وفي ضمن هذا الاحتفال يعرض فيلم بعنوان (من الهمس إلى الهدير) يتحدث عن ٥ ثورات شهدتها دول مختلفة منها أوكرانيا وإندونيسيا وفنزويلا وزيمبابوي ومصر. وقد شرفت بتسجيل بعض اللقطات في هذا الفيلم»!.

استعذ بالله من شيطانك الرجيم، قليل الأدب، لو وسوس لك بأنني كاتب الفقرة السابقة، التي لم أضف إليها غير علامة التعجب، بعد أن نقلتها، بالحرف، من مقال «ركيك» وتافه نشرته جريدة اليوم السابع في ٤ أكتوبر ٢٠١٣ لفتاة (أو سيدة) تفك الخط بالكاد (أي بالعافية) توصف أيضًا بأنها «ناشطة»، وعجزت «الماشطة» عن فعل أي شيء معها. وقبل أن تسأل عن سبب استعارة أو استعادة تلك الفقرة وما قبلها، سأجيب بأن شبح «بولندا»، مع أشباح أخرى شبيهة، كان يطاردني قبل ثورة ٣٠ يونيو. وبعد مرور خمس سنوات على ثورتنا المجيدة، ظهرت وقائع كثيرة وشواهد أكثر تؤكد أننا نجونا بفضل شعبنا العظيم وقواتنا المسلحة الباسلة، من مصير مظلم وأكثر سوادًا من السواد.

 

بولندا، كانت إحدى دول الكتلة الشيوعية، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي صارت موالية للغرب. ومن مفارقات القدر (أو مهازله) أن البلد الذي كان يحتضن حلف وارسو أصبح سنة ١٩٩٩ عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وطبقًا لمصادر عديدة، كان الجيش البولندي، خلال الحرب العالمية الثانية، ترتيبه الرابع بين قوات الحلفاء، بعد الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، وبريطانيا. وسنة ٢٠٠٩ احتلت القوات البولندية الترتيب الـ٢٠ بين أقوى القوات في العالم. أما الآن، في نهاية يونيو ٢٠١٨، فتحاول بولندا، بحوافز قوية، بينها استعدادها لإنفاق ٢ مليار دولار، إقناع الولايات المتحدة بإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية دائمة عندها، أو على الأقل بحث إمكانية نقل بعض قواتها من ألمانيا.

حاليًا، يوجد على الأراضي البولندية نحو ٣٥٠٠ جندي أمريكي و٨٧ دبابة من طراز «أبرامز» و٥٥٠ آلية مدرعة لنقل الجنود. وسبق أن أعلنت بولندا مرارًا عن رغبتها في أن يكون للقوات الأمريكية وجود دائم مع زيادة عددها. مثلًا، في ٣٠ سبتمبر الماضي، أعرب وزير الدفاع البولندي السابق «اللاسع» أنتوني ماتشيريفيتش، عن رغبة بلاده في استقبال فرقتين على الأقل من قوات الجيش الأمريكي على أراضيها. ووقتها كان الوزير «اللاسع» عائدًا لتوه من زيارة إلى الولايات المتحدة، كان هدفها الأساسي مناقشة تعزيز تواجد القوات الأمريكية في بولندا. وعلى النهج نفسه، سار توماس سيمونياك، وزير الدفاع البولندي الحالي.

حدث (ويحدث) ذلك، في الوقت الذي لم تعد فيه القواعد العسكرية الأمريكية مجدية، ومع حدوث ما يؤكد أن إرسال القوات من الولايات المتحدة إلى أوروبا أو الشرق الأوسط، حال حدوث نزاع، سيتم بالسرعة نفسها التي سيتم بها إرسال القوات من القواعد الألمانية أو قواعد أخرى خارج الولايات المتحدة. ومع ذلك، أكدت وزارة الدافع البولندية أنها ستشعر بقدر أكبر من الأمن في الوجود الأمريكي على أراضيها، وتزعم أن ذلك سيخدم عدة أهداف استراتيجية، أبرزها الدفاع عن «ممر سوفالكي»، وهو المنطقة الحدودية الضيقة التي تلتقي عندها بولندا مع كالينينجراد الروسية والحدود البيلاروسية. ويمكنك هنا أن تربط بسهولة بين مزاعم وزارة الدفاع البولندية وبين قيام الرئيس الأمريكي، بصراحة أو بوقاحة، بتهديد بعض دول منطقة الشرق الأوسط بأنها «لن تصمد ‏أسبوعًا دون الحماية الأمريكية»، قبل أن يبتزها ويطالبها بدفع مزيد من الأموال!.‏

الصفقة البولندية مربحة، بل مربحة جدًا، لأنه من المستبعد أن تقوم بولندا بأي شيء قد يدفع الولايات المتحدة إلى التورط في نزاع. كما أن روسيا ليس لديها ما تكسبه لو قامت بغزو دول البلطيق أو بولندا. وعليه، فإن الأرجح هو أن توافق الولايات المتحدة، على العرض البولندي السخي، الذي هو غالبًا «متفق عليه»، لتضرب عدة عصافير، أو لتحقق عدة مكاسب، أبرزها التأكيد على أحد الأهداف الأمريكية المعلَنة، وهو ردع روسيا، بالإضافة إلى إحكام أو فرض مزيد من السيطرة السياسية، قبل العسكرية، على بولندا وعلى أتباع آخرين.

 

غير ما قد تستنتجه، لو استبعدت حسن النية، من ترديد «الناشط»، سابق الإشارة إليه، للشائعة التي أطلقها وزير الدفاع البولندي الـ«لاسع»، بعد ثوان من إطلاقها. وغير ما ستستنتجه من الفقرة التي استعرناها أو استعدناها من مقال «الناشطة» التي أثبتت فشل «الماشطة». هل تريد مثالًا واضحًا على المكاسب الأمريكية التي حققتها سيطرتها سياسيًا وعسكريًا على بولندا؟!

الأرقام تقول إن الحرب العالمية الثانية مات فيها نحو ثلاثة ملايين بولندي من غير اليهود، كما قام النازيون بهدم العاصمة وارسو سنة ١٩٤٤ بعد انتفاضة فاشلة مات فيها وحدها أكثر من ٢٠٠ ألف مدني. كما أن المتحف التذكاري للمحرقة (الهولوكوست) بالولايات المتحدة ذكر بوضوح أن النازيين قتلوا قرابة ٢ مليون مدني بولندي من غير اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. بما يعني أن بولندا دفعت ثمنًا فادحًا للحرب، وبما يعطيها الحق في أن ترفض استخدام توصيفات مثل «معسكرات الموت البولندية»، أو أي إشارة إلى أن الدولة البولندية أو البولنديين يتحملون المسئولية عن المعسكرات التي أدارتها ألمانيا النازية بعد غزو بولندا سنة ١٩٣٩. ومع ذلك، كان (ولا يزال) هناك إصرار عجيب من الإسرائيليين والأمريكيين على تحميل بولندا مسئولية المحرقة. واستخدموا، تحقيقًا لهذا الهدف، عددًا ممن يوصفون بالمثقفين البولنديين بينهم أولجا توكارتشوك، Olga Tokarczuk، الحاصلة على جائزة «مان بوكر» لهذا العام، ليشككوا في الرواية الوطنية التي تقول إن بولندا كانت ضحية فقط.

أصدر البرلمان البولندي، قانونًا جديدًا، في ٦ فبراير الماضي، يعاقب بالسجن لمدة ثلاث سنوات «كل من يتهم علنًا الأمة البولندية، أو الدولة البولندية، بأنها مسئولة أو متواطئة في الجرائم النازية التي ارتكبها الرايخ الألماني الثالث». لكن هذا القانون أشعل خلافًا دبلوماسيًا بين الإسرائيليين وحكومة «وارسو»، وهاجمه رئيس الوزراء الإسرائيلي وزعم أنه محاولة لتغيير التاريخ وإنكار المحرقة. كما طالبت وزارة الخارجية الأمريكية بولندا بإعادة النظر في مشروع القانون، وأعربت عن قلقها من عواقبه على العلاقات بين وارسو وواشنطن وتل أبيب. وجاء الانتقاد الأبرز من الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، الذي هاجم القانون علنًا، في أبريل الماضي، في حضور نظيره البولندي، أندريه دودا، واتهم بولندا والبولنديين بأنهم شاركوا النازيين في تصفية اليهود خلال المحرقة.

لم أتحسس فرائص الرئيس البولندي، لكن ما يجعلني أجزم بأنها ارتعدت من انتقاد أو تهديد الرئيس الإسرائيلي، هو أنه قرر، فورًا، إحالة القانون إلى المحكمة الدستورية وصدر حكمها بتعليق العمل بالقانون، ويوم الأربعاء الماضي، ٢٧ يونيو، قامت الحكومة البولندية بتعديل القانون، ووصفت تلك الخطوة بأنها عملية «تصحيح». وبسرعة أو في عجالة وافق مجلس النواب على التعديل، وأحيل إلى مجلس الشيوخ. وبعد أن كان القانون الهادف إلى الحفاظ على «سمعة بولندا»، يعاقب بالسجن لمدة ثلاث سنوات كل من يدّعي أن بلاده متواطئة في جرائم ضد اليهود، تحولت الجريمة إلى مخالفة أو جنحة، وتم إلغاء عقوبة السجن!.

هذا التراجع ليس أكثر من مثال، بين عشرات أو مئات الأمثلة، على الصيغة التي يدير بها الأمريكيون عملاءهم أو وكلاءهم، كـ«مجنون إسطنبول»، و«العائلة الضالة» التي تحكم قطر بالوكالة، والحكومات البولندية المتعاقبة التي اعتادت إسناد حقيبة الدفاع إلى مجانين أو «لاسعين»، و..... و..... و..... وكنا قاب قوسين أو أدنى من الانضمام إلى هؤلاء، لولا ثورة ٣٠ يونيو المجيدة، التي نجونا بفضلها، بفضل شعبنا العظيم وقواتنا المسلحة الباسلة، من ذلك المصير المظلم، الأكثر سوادًا من السواد.