رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحمة لا ذبيحة


يعيش المسيحيون المصريون عصرًا يقال عنهم فيه إنهم «أقلية»، وأرفض ذلك التوصيف جملةً وتفصيلًا، لأنى أرفض أى تصنيف، ولكن وبواقعية وحيادية.. أعداد المسيحيين فى بلادنا أقل من ‏أعداد المسلمين، وهذا ما يفسر فكرة ذلك التوصيف والقول بأنهم أقلية عددية، وذلك أمر يغضب الكثيرين ويغضب كل من يؤمن بمبدأ المساواة بين الناس ويحترم فكرة وثقافة المواطنة من الطرفين، ‏الكثرة العددية تعطى للبعض إحساسا زائفا بالقوة.. وعادة ما يصاحب ذلك الإحساس الزائف نوع من الجبروت والغلو الذى قد يمارس ويستدعى بدوره غبنًا يشع قبحًا تأنفه البصائر والأنفس التى لم ‏يمسها السوء. ‏
يظن بعض المسلمين أنهم يعيشون عصر قوتهم، وهذا ما يدفعهم أحيانا لممارسات فيها شىء من الاستقواء على العنصر الثانى فى الأمة المصرية، هكذا يسمونهم، و«العنصر الثانى» يقصد به ‏البعض المسيحيين.. رغم أننا عنصر واحد لا عنصران فى أمة تعرف فى التاريخ والحاضر والمستقبل باسم «الأمة المصرية» والعنصر الوحيد المكون لها هو العنصر المصرى أو «القبطى»، لأن ‏كلمة قبطى تعنى «المصرى القديم»، وبالتالى يكون هنالك أقباط مسلمون وأقباط مسيحيون. ‏
يحزن المسيحيون فى بلادى من ذلك الاستقواء الذى يمارسه البعض عليهم بغشم أكيد.. ويغضبون أحيانا ويرون فى لبنان نموذجًا، حيث يعيش المسيحيون هنالك عصرهم- كما يظن البعض- ‏ويختارون رئيسا مسيحيا لبلادهم فى ظل فيدرالية تقوم على فكرة التقسيم الطائفى، والذى يبدو موزونًا ومثاليًا، لكن إن أصابه أى خلل أو اختلال- وكثيرا ما يحدث ذلك- لأنه نوع من التوازن المصنوع ‏إن هزته ريشة وزنها لا يذكر- ينفرط ذلك العقد غير الملضوم بل الملضم، وتغلق لبنان فى لحظة وتدخل فى حروب دموية عبثية واغتيالات تذكيها تلك الطائفية المجملة فى صورة اتحاد فيدرالى، ‏والسؤال الآن: متى يعيش مسيحيو مصر عصرهم؟.. وهذا حق لهم.. ولا فضل لأحد فيه عليهم ولا شكر تستوجبه أية مساندة أو محبة تصدر لهم.. فهو واجب أكيد على كل مواطن تجاه غيره من ‏المواطنين، أيا كانت ديانتهم وما يدينون به أو حتى كانوا لا يدينون.. المسيحيون مواطنون من الدرجة الأولى لهم حقوق كاملة شأنهم شأن المسلمين، ولا فضل لمسلم على مسيحى إلا بامتثاله للقانون، ‏وأن تكون صحيفته الجنائية بيضاء أمام الدولة وقانونها الوضعى، ونعود ونتساءل: ماذا يمكن أن يحدث لو: ‏
صار المسيحى رئيسًا للجمهورية المصرية وتولى مناصب هامة فى الجيش والشرطة وكل الوظائف والمناصب التى تعرف بكونها حساسة وسيادية، وصار المسيحى فى يوم ما راضيا كل الرضا ‏عن نفسه وواقعه، ولم نعد نسمع عن غبن هنا أو إقصاء هناك أو عنصرية تمارس عليهم أو اضطهاد من أى نوع، هل سيعيش المسيحيون حينئذ عصر قوتهم، وبالتالى هل سيمارسون استقواء ما على ‏المختلفين معهم فى الدين أو المعتقد أو التوجه؟. ‏
لماذا نطرح هذا السؤال الآن؟ ولماذا ندخل فى فقه الافتراض هذا؟ تلك التساؤلات طبيعية، ولها وجاهتها والإجابة عنها ستكون أيضا أكثر وجاهة، بل ستطرح الإجابات المحتملة أسئلة غاية فى ‏الأهمية سأترك الإجابة عنها للزمن البعيد، لا القريب، وعلى النحو التالى:‏
إن كان المسيحيون يعيشون الآن فى عصر قوتهم.. هل كان مصير جريدة «الدستور» هو نفس مصير صحيفة شارلى إبدو الفرنسية؟!، وهل كان مصير «أحمد الصبروتى» الرسام الشاب هو ‏نفس مصير المخرج السينمائى الهولندى «تيو فان جوخ»، الذى أطلق عليه الرصاص فى نوفمبر من عام ٢٠٠٤ وهو على دراجته، وذُبح فى الشارع ذبحًا داعشى الطابع والهوى أعقب انفجارات ‏هائلة فى الدار البيضاء ومدريد عام ٢٠٠٣ بعد رسمه آيات قرآنية على جسد امرأة فى فيلم عنوانه «الخضوع» مدته ١١ دقيقة فى أغسطس من نفس العام؟، هل تستحق تلك الدقائق الـ١١ ذبح إنسان ‏وترويع غيره؟، هل من الممكن أن يقتل ويروع ويرهب المسيحى فى يوم ما أبناء وطنه لأنه غيور على دينه رافعا شعار «فداك أبى وأمى يا الله» مثلما فعل الأصوليون المسلمون الغضبى بعد ‏رسومات الرسام الدنماركى والتى اعتبروها إساءة بالغة لنبى الإسلام أو كانت بالفعل كذلك؟.‏
هل الغيرة على الدين أو على الله أو على النبى تستدعى القتل والترويع والترهيب وبالتالى أفعال الإرهاب والتعصب المقيت فكرًا أو سلوكًا من أى طرف ضد الآخر؟.. أسئلة تطرحها اللحظة ‏الآنية.. والجدل الذى أثارته رسومات الفنان «أحمد الصبروتى» مؤخرا والتى استرعت غضب وإثارة حفيظة بعض مسيحيى مصر، وطالب البعض منهم بمحاكمة ومحاسبة الرسام بتهمة ازدراء ‏الدين المسيحى!!.. والإساءة للمسيح ورفعت بالفعل قضايا ضد الرسام وأُرهب ورُوع فأغلق صفحته على موقع التواصل الاجتماعى الفيسبوك وكسر قلمه وجفت ريشته بعد أن أرهبت وروعت ‏فخافت وآثرت السلامة بعد استشعار الخوف وكفت حتى عن أى رسم مباح طالما أن البعض يصنف الفنون وفقًا لأهوائه ومعتقداته، ويرى منها ما هو مباح ويرى فيها ما هو غير مباح يستوجب ‏عقوبة السجن ويستحق عليه أنواعا شتى من الترويع والترهيب والإقصاء، هل حقًا المتعصبون إخوة فى كل الأديان والنحل والمعتقدات؟!.‏
هل التعصب والتطرف الفكرى والسلوكى واحد ويستخدم نفس الأساليب ويتوق لنفس الأهداف؟.. هل حرية الرأى والتعبير والإبداع والخيال أمور ما زالت موضع تساؤل ويختلف الناس حول كونها ‏حقا أصيلا أم باطلا؟ وهل هى مطلقة أم مقيدة؟ وكنا نظنها أمورا محسومة بل بديهيات؟! هل الله هو من يحمينا أم نعتقد نحن، مسلمين ومسيحيين، أنه جل فى علاه يحتاج إلينا ويطلب منا حمايته أو ‏نصرة دينه؟! الله يحمينا جميعًا أم أننا نحن من نحميه؟! وهل الأديان حقًا فى انتظار من ينصرها؟ هل الدين ضعيف وهش؟ أم أن المعتقدات والأديان لا تموت ولا تقهر؟ وأن النصر الحقيقى يكون ‏فى انتصار الفرد على نفسه وانتصاره لغيره فى كربه وشدته، هل باسم الدين يروع الآمن ويخرس من له صوت أو من يمسك فى يديه بريشة أو قلم؟ هل الخيال حرام؟ هل أعمال العقل وهل تجديد ‏الفكر جريمة؟.. هل من يطلب بركة من العدرا يقابل من أبنائها بسخط وكراهية وترويع؟!.‏
أليست العذراء للناس جميعا؟ ويطلب الناس جميعًا البركة منها؟.. هل تبارك العذراء من يرهب غيره ويتعصب؟! أم تبارك من يتوق إليها وإلى بركتها؟!.. هل يريد الله رحمة منا بغيرنا، أم يريد ‏منا ذبيحة؟.. الهولوكوست الصهيونى قام مذ أن قام على ثقافة المظلومية بعد أن تحولت المظلومية فى ذاتها لثقافة ورسخ لها!!.. حتى وإن كانت تلك المظلوميات على حق فممارساتها كلها باطل فى ‏باطل، الصهاينة تذرعوا وما زالوا يتذرعون بالمحرقة والهولوكوست لذبح الفلسطينيين فى مجازر لا تنتهى، وأربأ بمسيحيى بلادى أن يكون لهم مانيفستو قادم قائم على مظلومية ما قد يتكئ ويتذرع بها ‏المتعصب ليبرر تعصبه أو ترهيبه أو غبنه لغيره تماما كما غبن هو من قبل فيرضى لغيره ما لم يحبه لنفسه مخلصًا تاره منه.. وكأن الذبيحة قدر لا بد أن ينتظر أحدا من الخلق رغم أنهم جميعا أبناء ‏الله غافلا هو عن حقيقة مفادها أن المخلص الذى ينتظره الكل لن يرضيه الذبح ولن يرضيه الغبن ولن يرضيه الترهيب أو الترويع باسمه أو نصرةً له أو لدينه ولن يسعده حتمًا التعصب، كما لن ‏يرضى نبى الإسلام صاحب المقولة الشهيرة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» «ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن» بمن فجر وخرب وذبح.. غيرةً عليه أو على رسالته.‏
المسيح ومحمد لا يريدان ذبيحة، المسيح ومحمد أُرسلا من أجل الرحمة، لا من أجل أن يغار عليهما أتباعهما فيضلوا الطريق.. وحتمًا لا يريدان ذبيحة، ولا نريدها نحن أيضا، ولن نرتضيها، يقرها ‏أى قانون آت فى دولة علمانية يسودها القانون فقط لا المعتقد، ودون أية حساسيات مفرطة قد تظهر على السطح عند هذا أو ذلك، وتحترم فى نفس الوقت تلك الدولة عقائد الغير، لذلك صار تحققها ‏وشيكًا على الأرض بل صار حتميًا.. حتمته وتحتمه كافة المعطيات بل تؤكده يوما بعد يوم، فالعلمانية أمن قومى للبلاد وقاطنيها، وليست نوعا من الترف أو الرفاهة كما يعتقد البعض.‏