رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاستقامة الأخلاقية.. وثقافة «الستر»


ماذا تطلب من الدنيا؟ ماذا تطلبين من الدنيا؟.. الجواب النموذجى للغالبية من رجال، ونساء مجتمعاتنا، هى «لا أطلب إلا الستر». لكن ماذا يعنى «الستر»؟ إن الشىء «المستور»، هو الشىء «المحجوب»، «المخفى».. «المستخبى».. لا تراه عين.. ولا تسمعه أذن. الشىء «المستور»، شىء لا يعرف أحد عنه شيئًا.. نحن نقول «الليل ستّار».. بمعنى أن الليل بظلامه، وعتمته، يخفى «الأسرار».. و«العيوب».. و«الملامح».. و«الحركات». و«كل شىء» يفضحه، ويكشفه، ويظهره الصبح أو النهار.
وكلمة «الساتر» تعنى الحاجب، الذى نستخدمه حتى لا يرانا الآخرون، فى مواقف نعتبرها غير لائقة.. فى مجتمعاتنا، تحتل قيمة «الستر» مكانة عظمى فى تعامل الناس مع الحياة. إذا سألنا امرأة، أو رجلًا، عن الأحوال، والصحة والشغل، والعيال، والفلوس، فيكون الرد: «مستورة». وفى جميع المواقف نسمع «استرها يا رب». وأقصى الطموح، والأمنيات، والأحلام، هو «الستر».. من البداية، وحتى النهاية.. رأيى الشخصى أن مقولة «لا أطلب إلا الستر»، هى أحد العوائق الأساسية المعطلة للتقـدم، واقتحام تجارب الحياة دون خوف، والمخاطرة لاكتشاف المجهول، والجديد، والمبتكر.

إن الحضارات تصنع نفسها، ليس بـ«الستر».. ولكن بـ«كشف المستور».. والإبداع الخالد، ذى المكانة العالية فى الشكل والمضمون، ليس الإبداع الذى «يستر» التناقضات، والكذب، والزيف، والقهر، والظلم، لكنه الإبداع، الذى «يفضح» كل هذه الأمور.. والأفكار الرائدة التى تبقى فى ذاكرة الشعوب، وعلى صفحات التاريخ، هى التى تثور، وتتمرد، على «الستر» فى السياسة، والأخلاق، والثقافة، والاقتصاد، والموروثات المكبلة للتحرر.
إن البشر، وكذلك المجتمعات، التى لا «تطلب إلا الستر».. تحتوى فى أجسادها على الكثير، والعديد من الأمراض الحضارية المتوطنة، والأورام الأخلاقية المنتفخة، والدمامل الثقافية المزمنة. ولذلك، فهى تخاف «الكشف».. وترتعب من «الفضح».. ولا شىء يربكها، ويلخبط كيانها، ويزعج منامها، قدر «الوضوح»، و«الصدق»، و«الفضيحة». إذن «الفضائح»، ليست إلا «الحقيقة الغائبة»، التى يفشل الناس فى تجنبها.
إن الرجل الذى لديه الكثير من الفساد الأخلاقى، والخوف من الناس، نجده دائمًا فى حاجة إلى «الستر».. وأفضل أنواع «الستر»، أو التخفى، التى تضحك على العقول بجدارة، هو «الستر» باسم الأديان.. و«التخفى» باسم شرع ربنا.. أو كلام الله، أو حكمته.. والمرأة أيضًا، التى لديها الكثير، والعديد، من الفساد الأخلاقى، والخوف من الناس، تحتاج دائمًا، إلى «ستارة» مادية، أو معنوية، لإخفاء ما تخشى كشفه.

والمجتمعات، كلما زاد فسادها، وازدواجها، وتناقضها، وكذبها، وظلمها، وقهرها- زاد ميلها إلى «الستر» و«التخفى».. و«التغطية».. إن «الستر» موقف الضعيف.. الخائف.. العاجز.. الذى يشعر بالإحباط، والدونية، والعبودية.
و«الكشف» أو «الفضح».. موقف القوى.. الشجاع.. القادر، الذى يشعر بالتحقق والتفوق والحرية. إن القضاء على كل أنواع الفساد الأخلاقى يستحيل دون التمسك بـ«فضح» مظاهره، وجرائمه، وتورطاته، ولجوئه إلى «التستر».. إن الأفراد وكذلك المجتمعات، المستقيمة أخلاقيًا، ليست لديهم «أسرار» تستوجب «الستر»، و«التخفى».. إن «الشفافية»، التى نطالب بها، ليست إلا حربًا موجهة ضد ثقافة «التستر»، وحضارة «التغطية».. نحن نقول دائمًا: «البداية من أول السطر». وأنا أقول: «البداية من أول الستر».. هناك مقولة صوفية تقول: «اللهم افضحنا ولا تسترنا، حتى يتبين الغث من السمين».
من بستان قصائدى:
أود الرحيل.. عن هذه المدن الأسمنتية الصاخبة
حيث التدين مظاهر شكلية.. والحب فضيحة مدوية
وحيث الحرية عصفورة محنطة.. تُعرض لإبهار الأفواج السياحية.