رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طل القمر.. نصائح سعاد حسنى لتجديد الخطاب الدينى

جريدة الدستور

كيف لهذا الوجه السينمائى الأسطورى أن يُنسى؟ إنها سعاد حسنى، الممثلة الاستثنائية فى تاريخ الشاشة الصغيرة. من حى بولاق جاءت وفى لندن ذهبت قبل أن تكمل الستين. لكنها قبل أن ترحل فى واقعة فاجعة وجدلية، صنعت مجدًا ثم اتكأت بخفة ودلع على عرشه، حتى لو بدت النهايات غير ذلك. ١٧ سنة مرت على ذكرى السندريلا سعاد حسنى، عندما سقطت من مبنى «ستوارت تاور» بلندن، فى ٢١ يونيو ٢٠٠١، ففقدت السينما المصرية فاتنتها ووجهها الأشهر فى القرن العشرين. «الدستور» تستعيد وتنقب فى أفلام نادرة لها، لكنها مهمة، وذات دلالة على كيف كانت تلعب دورها كفنانة كبيرة فى مجتمعها.

«غرباء» ناقش التدين الشكلى وفتاوى تحريم السياحة وكشف طريق النجاة من الخرافات
على كثرة أدوارها وأفلامها وتنوع موضوعاتها، هناك فيلم، تقريبًا لم تعرضه الشاشات المصرية، سواء الأرضية أو الفضائية، هو «غرباء»، من إنتاج عام ١٩٧٣، قصة وسيناريو وحوار رأفت الميهى وإخراج سعد عرفة.
الفيلم يعد الأول من نوعه فى تناوله موضوعا جديدا تماما على السينما المصرية، ويعتبر أيضا من الأفلام النادرة التى تنبّهت مبكرا لـ«أسلمة» المجتمع المصرى، واتجاهه نحو التدين الشكلى المظهرى دون جوهره، ويطرح أيضا الفكرة الأساسية لدى مؤلفه رأفت الميهى حول الصراع بين العلم والحداثة من جهة وبين القديم والخرافة من جهة أخرى.
فى هذا الفيلم جاءت أولى محاولات تجديد الخطاب الدينى، ففى المشهد الذى يجمع بين «نادية» وشقيقها «أحمد» (شكرى سرحان)، وهو يعلق آيات قرآنية على حوائط البيت، تصحو قلقة من صوت الطَرق، وتستغرب اختياره آيات بعينها: «وهو مفيش آيات قرآنية غير دى؟»، يرد مستنكرًا: «هو كمان القرآن فيه حلو وفيه وحش؟»، بدورها تقارعه الحجة: «بس فى حاجة عن الجنة عن النعيم مش كلها: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، ده إحنا ولا فى جهنم!». يتواصل الحوار ليسألها ثانية: «لما أنتِ خايفة من جهنم بتعصى ربنا ليه، بتلبسى كده ليه، مبتصليش ليه؟».
عدة قضايا شائكة ناقشها الفيلم وكانت له الريادة فى طرحها، من ضمنها قضية العمل فى السياحة وتحريم العمل بها، فعندما يصل لـ«نادية» خطاب قبولها فى العمل بأحد الفنادق، يرفض أخوها «أحمد» بحجة أنها ستعمل فى «خمارة»، وهو ما يراه حراما شرعًا، وهو ما سنراه فيما بعد فى أقل من عقد من الزمان من خلال الفتاوى المتشددة التى تحرم العمل فى السياحة.
كما طرح الفيلم قضية العلم ودوره والمساحة التى يشغلها فى المجتمعات المتخلفة مقارنة بالمجتمعات المتقدمة الحداثية، ففى مشهد يجمع بين «الدكتور فؤاد عبيد» وطلابه فى بيته يعرض عليهم من خلال شاشة عرض صورا لأهالى قبيلة «البشارية» وحياتهم التى لا تختلف كثيرا عن حياة الإنسان البدائى الأول، وصورا ثانية لوصول الإنسان للقمر.
وعندما يوجِّه «الدكتور فؤاد» السؤال لـ«أحمد» عن الفرق بينهما، يجيبه: «ربنا عاوز كده. ربنا ليه حكمة فى كده»، ليردف «فؤاد»: «الفرق هو أن القدر البسيط من العلم فى حياتنا لم يصل إليه»، فى إشارة للسؤال الذى طُرح منذ وصول الحملة الفرنسية لمصر والصدمة الحضارية التى خلفتها: لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟. أيضا هناك قضية الصراع بين العلم والدين، فـ«نادية» من داخلها لم تكن مؤمنة تماما بأفكار أستاذها، وهو ما يلاحظه عندما ترتعش ملامح وجهها، وشقيقها يهدد «فؤاد» بالجحيم فى الآخرة.
هنا يشير «الميهى» لتلك الثنائية التى تعيشها المجتمعات العربية، فرغم القدر القليل من العلم فى حياتها، إلا أن الخرافات تنازع هذا القدر، فنادية ترتدى «ما شاء الله» خوفًا من الحسد والعين، وهو ما يواجهها به «فؤاد».
من جهة أخرى، أشار الفيلم من طرفٍ خفى إلى التيار الصوفى وقدرته على الحد من انتشار الأفكار المتشددة ومقاومتها، فعلى النقيض من إمام المسجد المتزمت الذى يغذى «أحمد» بالأفكار المتطرفة، نجد «الشيخ مصطفى» ينصحه بأن يحب شقيقته ويتقرب منها بالمحبة، لا بالترهيب والتخويف. وبالفعل يحلق لحيته ويذهب إليها فى عملها، بل يصطحبها فى نزهة نيلية، لكنهما يصلان لطريق مسدود مع إصرار «أحمد» على اللجوء للدين فى عرضه بأن يذهب بها للشيخ، بينما «نادية» تشير له على المشردين فى الشارع: «الشيخ هايقدر يعمل إيه لدول ودول، إحنا محتاجين لكتب أكتر، لمكن أكتر، لفلوس أكتر، الشيخ ميقدرش يعمل حاجة ليّا ولا ليك ولا لأى حد، العالم اتقدم فى العلم وكل حاجة وإنت لسه واقف مطرحك».
تتنازع «نادية مصر» شخصيتا أخيها المتشدد «أحمد»، بكل ما يحمله من غلو تارة ووسطية تارة أخرى، فى إشارة لتغلغل الميل الدينى وإقحامه فى كل مجالات الحياة، وأستاذها «الدكتور فؤاد عبيد» الحداثى التنويرى العلمانى وكل ما يحمله هو الآخر من أفكار تدعو لإعمال العقل والأخذ بالعلم كشرط وحيد لمواكبة ركب الحضارة والتقدم بين الأمم.
وينتحر «فؤاد» فى المشهد الأخير للفيلم تاركًا لـ«نادية» وسط حيرتها وتخبطها، رسالة يائسة من التغيير وإن كانت تعوِّل على المستقبل.

خادمة تفلت من الإجهاض فى «مبكى العشاق».. أفغانية فى فيلم عالمى «ممنوع».. وصوت ضمير «الدرجة التالتة» أمام أحمد زكى
من الأفلام النادرة لسعاد حسنى، يبرز «مبكى العشاق» عن قصة ليوسف السباعى، سيناريو وحوار محمد عثمان ومن إخراج حسن الصيفى، وإنتاج عام ١٩٦٦، وشاركها البطولة جان السينما المصرية وقتها رشدى أباظة.
فى هذا الفيلم تلعب سعاد دور الخادمة لأول مرة بشخصية «سكينة» التى تعمل لدى مهندس البترول «محمود» والذى تتوفى زوجته «كريمة»، ولعبت دورها كضيفة شرف زهرة العلا، تاركة له طفلته الصغيرة «ليلى».
يظل «محمود» حبيس أحزانه على رحيل زوجته، رافضا العودة إلى مقر عمله، وعندما يزوره صديقه «خليل» ويناقشه فى ضرورة عودته لعمله، خاصة بعد وصول نتيجة التحاليل التى أثبتت وجود بترول فى المنطقة التى يعمل بها.
يرفض «محمود» ترك ابنته بمفردها، فيقدم له «خليل» الحل ويقنعه بترك ابنته فى رعاية «سكينة» حتى تنتهى «ليلى» من امتحاناتها وتلحق به.
وتقع عقدة الفيلم عندما يبدأ «محمود» فى رؤية جمال «سكينة» وفتنتها، وبعد عودته مخمورا ذات ليلة يعاشر سكينة جنسيا فتحمل منه، وهو الأمر الذى يرفضه خوفا من الفضيحة، وحتى عندما يطردها من بيته يؤنبه ضميره ويعيدها، إلا أنه يجبرها على إجهاض حملها فترضخ له.
هذا الحوار تسمعه طفلته «ليلى» فتحاول أن تلقى بنفسها من أعلى بَرِّيمة الحفر، إلا أن «محمود» ينقذها ويتزوج «سكينة» لينجبا العديد من الأطفال فى نهاية سعيدة للفيلم.
فى العام ١٩٨٥، شاركت السندريلا والفنان عبدالله غيث عددا من نجوم السينما العالمية بطولة فيلم «أفغانستان.. الله وأعداؤه»، للمخرج المغربى عبدالله المصباحى، الذى تناول الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وهو الفيلم الوحيد الذى لم نشاهده لــ«سعاد حسنى».
وعن الفيلم كتبت نِعم الباز، فى مقال لها عام ٢٠١٠: «مُنِع الفيلم الملىء بالفن الذى صوره عبقرى الصورة الراحل عبدالعزيز فهمى.. مُنِع لأسباب سياسية».
وتواصل حول أسباب اختيار عبدالله المصباحى «سعاد» لبطولة الفيلم: «سعاد كل شىء فيها عبقرى، ملامحها عبقرية تستطيع أن تعطى الإحساس بأنها مصرية وأفغانية وبالدور الذى تؤديه تقنع من أمامها بحرفية عالية».
وعن أسباب منع الفيلم، تؤكد: «قال المخرج عبدالله المصباحى وملامحه تنطق بالسعادة بعد صبر أكثر من ربع قرن: فى عهد الملك محمد السادس تغيرت السياسة تجاه أمريكا وروسيا وسوف يعرض الفيلم فى كل الدول العربية، بل فى العالم كله».
إلا أنها تختتم مقالها بحسرة على الفيلم الذى لم يعرض حتى اليوم: «لم أجد سوى مجموعة الصور وأفيش الإعلان عن الفيلم، مجموعة صور من مشاهد من الفيلم تتجلى فيها عبقرية سعاد آخر أفلامها الذى تم اختيارها وقتها للدور من بين نجمات من العالم كله، وفازت سعاد بالدور لامرأة أفغانية تقف ضد الذين يهددون باحتلال بلدها، وتقف أمام المحققين، وتصل إلى حد الوقوف تحت تهديد السلاح. ولكنها سعاد حسنى التى فقدناها ولكن لم نفتقدها وكما يقول المغاربة: سعاد لم تمت ولكنها تسيطر على وجدان محبيها».
فى فيلم «الدرجة الثالثة» عام ١٩٨٨، خرجت سعاد من جلدها تماما، لنراها نعناعة بائعة «كازوزة» فى مدرجات الدرجة الثالثة، امرأة بسيطة تكسب قوتها بقوة عمل يدها، ترتبط بقصة حب مع زميل المهنة سرور (أحمد زكى). ورغم بساطة «نعناعة» إلا أنها تعرف حقوقها جيدا، تنتصر لناسها من مشجعى الدرجة الثالثة الذين تعيش بينهم فى الحارة وفى النادى.
قد تبدو قصة الفيلم عن جمهور الدرجة الثالثة من مشجعى كرة القدم، إلا أن السيناريو الذى كتبه ماهر عواد وأخرجه شريف عرفة، يشير لفيلم سياسى من الدرجة الأولى، يناقش العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكيف أن السلطة عندما تستنفد طرقها الملتوية لكسب تأييد الدرجة الثالثة المحكومين تلجأ للحيلة القديمة باستقطاب من تستخدمهم لتمرير حكمها بكل ما فيه من جور وعسف.
فـ«جمعية محبى النادى» لا تستطيع الاستغناء عن مشجعى الدرجة الثالثة، لكنها فى الوقت نفسه لا تمنحهم حقوقهم سواء تخفيض سعر التذاكر أو توفير مظلات تحمى مدرجات الدرجة الثالثة من الشمس، حتى إن «سعدة» يموت من ضربة شمس أثناء تشجيعه للنادى.
ورغم أن أحمد زكى كان بطل الفيلم الرئيسى بينما «سعاد» مشاركة له فى مشاهد أقل، كان تأثيرها على أحداث الفيلم واضحًا، حتى وهى غائبة عن أى من مشاهده. كانت «نعناعة» صوت ضمير سرور طوال الوقت؛ تكشف له ألاعيب عوف وجمعيته، تنقذه دائما من سذاجته وتعيده مرة أخرى من مقصورة أعضاء الجمعية لمدرجات الدرجة الثالثة التى ينتمى إليها.
وفى هذا الفيلم ظهرت طاقات كوميدية لدى «السندريلا» لم يُلتفت إليها ولم تُستغل من قبل.