رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا بكى علي الشريف "عبد الناصر" رغم سجنه؟

علي الشريف
علي الشريف

بكري" حارس المدرسة الهارب من الثأر في الصعيد٬ المعلم "برغوت" اللص الشريف الذي يبغي العدل في الأرض٬ "عبد الجبار" السجان عبد المأمور الآكل على كل الموائد٬ خدام أكل عيشه كما يعلن دائما٬ "رزق" تاجر المخدرات المذعور من مراكز القوى٬ الشيخ "أحمد" الأزهري المغرد خارج السرب٬ و"دياب" الشهير بـ"علي الشريف" والذي تحل اليوم ذكرى ميلاده الـ84، تميز الشريف بصوته الأجش وملامحه الغليظة٬ إلا أن جميع من عرفه عن قرب يؤكد على طيبته ورقة قلبه.

ــ يا ما أنتوا ممتعين نفسكم يا أهل البندر
لا يمكنك بأي حال من الأحوال٬ أن تتخيل شخصية "دياب" التي تشربها الشريف حتى النخاع٬ أحد غيره يقوم بها ولا أن تصلك كما فعل هو، دياب عاشق الأرض البسيط والذي قد تصل بساطته لحد السذاجة٬ لكنك تحبه كواحد من أهلك أو جيرانك وأصدقائك٬ كما هو على "عبله"٬ ولا ننسى مشهده وهو يقول: "هي السكة مولعة كده ليه" ويخلع نعليه٬ ولا جملته الأشهر في السينما المصرية٬ بعد أن نال مبتغاه وحصل على سندوتش طعمية: "يا ما أنتوا ممتعين نفسكم يا أهل البندر".
دياب المخلص لكل ما حوله سواء أهل قريته وأرضه٬ أو حتى غريمه الدائم في حصة الري "عبد الهادي"٬ فما أن تقع الجاموسة في الساقية٬ حتى يهب "دياب" لمساعدة عبد الهادي في إنقاذها٬ وهما اللذان كان في عراك عنيف قبل لحظات، دياب الذي ما يكاد يخرج من السجن٬ حتى يرتمي في حضن حقله أرضه معشوقته٬ وعلى العكس تمامًا من "محمد أفندي" الذي لا يبالي بشيء جاء "دياب" ليمثل كل ما نعرفه٬ عن وطننا وبلدنا٬ عن معنى أن تكون الأرض العرض الوطن.
ــ "بكري" الحكيم الهارب من أقداره
على كثرة الأفلام التي قدمها الفنان عادل إمام٬ إلا أن فيلم "الإنسان يعيش مرة واحدة" واحد من أفلام قليلة يمكن أن نعتبرها من علامات السينما المصرية، قام "الشريف" بدور "بكري" حارس المدرسة الصعيدي٬ الهارب من الثأر الذي خلفه في بلده٬ يتحلى بحكمة راسخة عاقلة٬ فلم يكن هروبه من الثأر بغرض النجاة من حياته٬ بقدر ما هو موقف ضد العادات السيئة البغيضة كعادة الثأر٬ حتى يغلق دائرة الدم ولو مؤقتا، "بكري" الذي ترك ورائه ولده ولم يره٬ يتحول لكائن رقيق هش ما أن يلقاه للمرة الأولى٬ يستعيد كل ما كان قد فقده طيلة 25 عامًا٬ بيته٬ أهله وأصحابه ووطنه٬ كل هذه الأشياء التي كان قد فارقها وهو يهرب من أقداره، يغالب "بكري" قدره ويواجهه ولا يقبل أن يستكمل الفرار فلا بلد آخر يعرفه غير هنا: أو كما قال: إحنا مكناش بنتولد في بلادنا عشان نموت في بلاد غريبة.

ــ مملكة المعلم "برغوت" اللص الشريف
هناك مجرم قد تتعاطف معه أو حتى تتجاوز عن أخطائه إذ ما كانت لم تؤدي لأذى كبير٬ ربما تلتمس العذر لحرامي صغير اضطرته الظروف للسرقة حتى يسد جوعه٬ لكن من يقتل أو يغتصب أو يخطف طفلا٬ فهذا ما لا يقبله أي إنسان، لذا كان من الطبيعي أن نعجب بشخصية المعلم "برغوت" في فيلم "آخر الرجال المحترمين"٬ ورغم دوره القصير الذي لم يتعدى ثلاثة مشاهد٬ إلا أن "الشريف" خطف الكاميرا من نجم كبير كنور الشريف٬ خصوصًا ذاك المشهد الذي يدير فيه شئون أهل العزبة٬ ويزجر أفرادها من سرقة موظف ويأمر بإعادة حافظة نقوده إليه٬ بل يمتلك من الحكمة والوعي بأن يعيد حقيبة أخرى سرقها أحد رجاله من قاضي٬ ولم يكتفي بهذا فقط بل طلب من أحد مساعديه كتابة خطاب اعتذار للقاضي ناصحًا إياه: اكتب اعتذار للقاضي وقل له: "إذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل" رجع القضايا ده لصاحبها٬ مش عايزين نعطل قضايا الناس أكتر ما هي متعطلة" رفعت الجلسة وكل واحد يشوف مزاجه، في إشارة لطول فترات التقاضي الذي يعاني منها المصريون، المعلم برغوت كسب تعاطف المشاهد واحترامه٬ فقد كان على النقيض من "طحيمر العفش" يرفض خطف الأطفال ويقدر حرقة أهاليهم عليهم٬ ويذهب لأبعد من ذلك بأن يساعد في إعادة أحد هؤلاء الأطفال لذويه٬ رافضًا حتى أن يأخذ "الحلاوة".
ــ الشيخ أحمد" الأزهري" الذي غرد خارج السرب
في كتابه "وجوه لا تنسى" يشير الناقد الفني محمود عبد الشكور إلى أن أول لقاء جمع بين يوسف شاهين والفنان علي الشريف٬ كان في مكتب المؤلف حسن فؤاد، والذي كتب سيناريو فيلم "الأرض"٬ وبحسب "عبد الشكور" فإن أول جملة قالها "شاهين": "أهلا دياب" ليلتقي بعدها "الشريف" مع "شاهين" في أكثر من عمل٬ كان من ضمنها فيلم "العصفور" إنتاج 1972.
وفيه قدم "الشريف" واحدا من أبرز أدواره الفنية، الشيخ أحمد ذلك النموذج المغاير تمامًا للأزهريين٬ فهو يرقص ويغني٬ يقرأ سارتر وكانط٬ حتى أنه لا يجد غضاضة في إعلان سخطه تجاه جدوى الوجود والحياة: "قولي عمركش حسيت إنك ميت؟ ما هي كده أحمد لا السما قابلاه ولا الأرض عايزاه".
ورغم أنه اعتقل مع الشيوعيين في الستينيات٬ إلا أنه بكى لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر بحرقة من افتقد السند٬ ولم يكن المشهد الذي أداه في "العصفور" أثناء سماعه خطاب تنحي "عبد الناصر" إثر هزيمة 1967 تمثيليًا بالمرة٬ كانت دموعه حقيقية جدًا٬ تهتز لها كل ذرة في جسده٬ دموع من أخلص لوطنه ووجوع بهزيمته٬ وليس كمن سجد شكرًا على هذه الهزيمة.
تجاوز الشيخ أحمد "علي الشريف" خلافه الشخصي مع عبد الناصر ونظامه٬ وخرج في المظاهرات التي طالبت "عبد الناصر" بمواجهة مسئوليته وتصحيح خطيئة الهزيمة٬ خرج الشيخ أحمد بكامل إرادته وبقناعة تامة هاتفا: هانحارب.
ــ "رزق" تاجر المخدرات تحدى مراكز القوى
3 مشاهد لا غير ظهر فيها علي الشريف٬ أمام سندريلا السينما العربية سعاد حسني٬ في فيلم "على من نطلق الرصاص"٬ الذي يتناول الفساد الذى استشرى في الاتحاد الاشتراكي٬ وكيف شغل رشدي عبد القادر بيه رئاسة مجلس إدارة أحد شركات المقاولات٬ وعندما تتهدم المساكن التي بنته الشركة٬ يقدم المهندس سامي كبش فداء٬ مستخدما سلطته ونفوذه٬ وشهادة الزور من مرؤوسيه٬ حتى أن واحدا منهم وفي أقواله أمام جهات التحقيق يصف رشدي بيه بأنه: "رشدي بيه رئيس جمعية بناء المساجد في مصر القديمة٬ ماسبش حارة إلا وبنى على راسها جامع"، وعندما يسجن سامي وقبل أن يكشف فساد رشدي٬ يتم قتله في زنزانته٬ يلفظ أنفاسه الأخيرة على ذراع رزق الذي لا يخشى سطوة رشدي ويتقدم للنيابة ليشهد بأن الأخير قتل سامي٬ وتكون شهادته سببًا في القبض على رشدي بيه أحد مراكز القوى.

ــ عبد الجبار الآكل على كل الموائد
ومن ينسى دوره في فيلم "الأفوكاتو"٬ الشاويش عبد الجبار٬ من يخدم الجميع٬ ويأكل على كل الموائد٬ تجده حاضرًا ملبيًا إشارة المحامي حسن سبانخ٬ ومن قبله تاجر المخدرات حسونة٬ وحتى سليم أبو زيد، لا مبدأ له ولا جهة أو قضية يقف معها٬ إنما شعاره "أنا خدام أكل عيشي يا متر" ذاك الرد الذي قاله لحسن سبانخ وهو يراه في بيت سليم أبو زيد٬ وقبلها في مشهد آخر في خدمة حسونة بيه، لم يشعر أيا من متابعي الفيلم لحظة واحدة أن من يظهر على الشاشة هو علي الشريف٬ إنما هو السجان عبد الجبار من مقدرته الفذة في تجسيد ملامح الشخصية بكل تفاصيلها٬ بل وتفوق أيضًا هذه المرة على نفسه٬ حتى أصبح عبد الجبار وجملته جزءًا من ذاكرة السينما المصرية.