رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صراع الجبابرة «2»


تحدثنا فى المقال السابق عن بعض ملامح الصراع الجبّار، الذى يدور على ساحة العلم والتكنولوجيا، بين العملاقين: الأمريكى المهيمن والصينى الصاعد، وكيف أنفقت أمريكا المليارات على أبحاث التكنولوجيا الفائقة، حتى تستمر محتفظة بالصدارة، وفى المقابل واجهت الصين واقع التقدم الأمريكى بخطة متعددة الأبعاد، والغايات، والوسائل، تستهدف تضييق الفجوة مع الغريم الأمريكى، ثم اللحاق به علميًا، وأخيرًا تحقيق التفوق عليه، على غرار ما فعلت وتفعل فى المجال الاقتصادى، الذى تكلل بنجاحٍ باهر.
بدأت هذه الخطة من الجذور، حيث أنجزت محو أميِّة مئات الملايين، وخططت لنشر مستوى رفيع من التعليم الأساسى، يهتم بإعداد جحافل من الكوادر العلمية المؤسسة تأسيسًا حديثًا، وبالذات فى العلوم الرئيسية، علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والمعلومات والبيولوجيا والفضاء والمواد الجديدة والطاقات الحديثة، وغيرها، ثم وضعت لنفسها هدفًا محددًا، عبر عنه كل المسئولين الصينيين الكبار، وفى مقدمتهم الرئيس «شى جين بينج»، ليس بتحقيق التقدم العلمى والتقنى فحسب، وإنما بامتلاك أسرار «قوة الابتكار فى العلوم والتكنولوجيا»، باعتبارها «القوة الإنتاجية الأولى»، اللازمة لـ«إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وتحقيق حلم الصين للنهضة العظيمة للأمة الصينية»، مع ملاحظة أن هذه «الشعارات» لا تُصك مثلما يحدث فى عالمنا المتأخر، كعبارات إنشائية للاستهلاك المحلى، وإنما تتحول إلى برامج وخطط متعددة الأزمان والمستويات، تنتهى بتحولها إلى أمر واقع، نرى تجسداته الملموسة عيانًا بيانًا.
وأولت الصين انتباهًا خاصًا لما سماه الرئيس الصينى «ثورة الروبوت»، التى «ستشكل سوقًا تبلغ بضعة تريليونات من الدولارات الأمريكية»، تجعل من صناعة الروبوتات «دُرة على تاج الصناعة»، حيث ستندمج «تقنيات معالجة البيانات الضخمة والحوسبة السحابية وشبكة الاتصالات النقّالة، وتندرج بسرعة إلى تقنية الروبوت، فتُعَجِّلُ خطى تقدمها، ويتطور فن الطباعة ثلاثية الأبعاد وتقنية الذكاء الاصطناعى بسرعة هائلة.. مما يدفع صناعة الطائرات بلا طيار والسيارات بلا سائق وتحقيق الروبوت الذى يخدم المنازل، حتى إن بعض الروبوتات قد يمتلك القدرة على التفكير الذاتى والدراسة الذاتية»، ومن ثم فالهدف «أن تكون الصين أكبر سوق للروبوت فى العالم، حسب توقعات الاتحاد الدولى للروبوت».
وهكذا فلم تمر إلا سنوات قلائل حتى غدا هذا الأمر حقيقة واقعة، فقد شاهدنا فى رحلة أخيرة إلى الصين الروبوتات «المُعلِّمة»، والروبوتات الطبية، والروبوتات الخادمة، وروبوتات المهام العسكرية (كاكتشاف وتفجير الألغام والكمائن الحربية)، ومُجسَّمات السفن التى تمخر عباب البحار بهذه التقنية، وأجهزة الترجمة الفورية من أى لغة إلى أى لغة، حديثًا وكتابةً، مما يلغى حواجز النطق ويُسَهِّلُ التواصل الإنسانى على كل المستويات.
كما أبدعت مصانع الطائرات بلا طيار فى تصاميمها وصناعتها من مختلف الأحجام والأبعاد، لتحقيق مئات المهام والوظائف، وكان آخر مفاجآتها، التى أثارت القلق فى الولايات المتحدة، الكشف عن صورة جديدة لطائرة دون طيار من نوع «الشبح»، طراز «جيه- ٢٠»، وأعلن الكولونيل «شين جين كى»، الناطق باسم «القوات الجوية الصينية»، دخولها الخدمة الفعلية فى الجيش الصينى، منذ فبراير الماضى، بعد نجاح مهامها التجريبية، فوق البحر، والتى تمت «تحت ظروف الحرب الفعلية».
«حرب فعلية» وإن كانت تدور على ساحة التفوق العلمى وتقنية المعلومات، فى ظل الاقتصاد الرقمى ومنتجاته، الذى ستتضاعف البيانات المتاحة بسبب تطوراته، قبل عام ٢٠٢٠، لتصل- كما يذكر د. محمود محيى الدين، نائب رئيس البنك الدولى- إلى ٤٠ زيتا بايت، أى ٤٠ ألف مليار مليار (رقم ٤٠ وأمامه ٢١ صفرًا)، وبما يعادل قدرة تخزين معلومات خمسة مليارات مكتبة من مكتبات الكونجرس.