رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبوذر الغفارى.. «محامى الفقراء» يحاكم أصحاب الثروات

جريدة الدستور

- أحاديث أبى ذر عن الأغنياء الذين يكنزون الذهب والفضة دفعت الفقراء إلى الالتفاف حوله وهددت «دولة رجال الأعمال»
- واقعة تعدى عثمان على «محامى الفقراء» على رأس الأسباب التى دفعت مجموعة من المسلمين للثورة على الخليفة


سطور لا تنتهى وأطنان من الكلمات يستهلكها البشر فى وصف سيرة حياتهم، أو رحلة غيرهم فى دروب الحياة، والسؤال: هل يمكن أن تكفى ٣ جمل فقط فى وصف حياة إنسان؟. النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، اكتفى بذلك مع أبى ذر، فلخص حياته فى ٣ جمل قال فيها: «يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده». نستطيع أن نفهم لماذا عاش أبوذر وحيدًا حتى أفضى إلى ربه إذا علمنا أن قضية العدالة الاجتماعية كانت قضيته الكبرى التى آمن بها فى حياته. كل صحابى من صحابة رسول الله التقط خيطًا أثيرًا لديه من خيوط شخصية النبى وجعله محور إسلامه، اختار أبوبكر الحنان والعطف على الآخرين، واختار عمر الحسم، فى حين اختار أبوذر الدفاع عن الفقراء، ومطالبة الأغنياء بتنفيذ وصايا الكتاب الكريم فى رعايتهم والإنفاق عليهم، إلى حد أن وصفه البعض بـ«عدو الثروات». وقف أبوذر بقوة ضد مسألة كنز المال، وآمن بأن الإنسان يكفيه أن يحوز خبز يومه، وعليه أن ينفق ما زاد على ذلك.
أبوذر الغفارى كان رابع أربعة آمنوا بالإسلام. وما أكثر ما كان يردد: «لقد رأيتنى ربع الإسلام لم يسلم قبلى إلا النبى وأبوبكر وبلال». وهناك خلاف بين المؤرخين عند الإجابة عن سؤال: من سبق الآخر إلى الإسلام، أبوبكر أم أبوذر؟. وربما كان دخول الاثنين إلى الإسلام متزامنًا. أيًا كان الأمر فقد كان أبوذر واحدًا من أوائل المؤمنين، حين كان المسلمون يعدون على أصابع اليد الواحدة. وإذا كان غيره قد دخل إلى الإسلام دعوة، فقد دخله سعيًا وعدوًا خلف النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم. عاش بنفسية مقاتل، ودافع عما يؤمن به من أفكار من غير أن يخشى فى الله لومة لائم. لم يكن هناك من هو «أصدق لهجة» منه، حين وقف وحده يقاوم دولة «رجال الأعمال» التى أخذت فى التشكل فى خلافة عثمان بن عفان، فقرر الخليفة نفيه ليموت وحيدًا فى «الربذة»، ويتم «الوعد النبوى» له، فيمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده.

دخل الإسلام من «بوابة العدالة الاجتماعية».. وهو صاحب الوعد النبوى بالعيش والموت وحيدًا
ينتمى أبوذر (جندب بن جنادة) إلى قبيلة «غفار» وهى واحدة من القبائل التى تقع على الطريق ما بين مكة والشام، وكانت القوافل التى تتنقل بين مكة والشام تحت رحمتها، فبإمكانها أن تحميها، أو تقطع عليها الطريق وتنهب ما فيها. امتاز رجال غفار بالقوة والشراسة، وهى قوة سطعت تجلياتها فى تقدمهم الصفوف -بعد إسلامهم- فى كل الغزوات التى خاضها النبى صلى الله عليه وسلم. وارد جدا أن تكون مسـألة العلاقة بين الأغنياء والفقراء قد شغلت تفكير أبى ذر منذ مرحلة مبكرة من حياته، والأرجح أن أفكارًا وأحاديث عديدة دارت أمامه بين رجال «غفار» حول العدالة الاجتماعية، خصوصًا أن مشهد قوافل الأغنياء التى تتبختر فى الطريق بين مكة والشام لم يفارق أعينهم ليل نهار، وربما رسخ بعضها فى عقل وقلب «أبوذر» فجعله مهيأ كل التهيؤ لاستقبال رسالة الإسلام التى تعد العدالة الاجتماعية ركنًا ركينًا فيها. ما يحكيه «ابن كثير» عن الظرف الإنسانى الذى أسلم فيه أبوذر يمنحنا مؤشرات عدة عن ذلك.
يقول «ابن كثير»: «لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه اركب إلى هذا الوادى فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتنى، فانطلق الآخر حتى قدمه وسمع من كلامه ثم رجع إلى أبى ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتنى مما أردت». يبدو أبوذر شخصية متشككة لا تسلم عقلها بسهولة. فقد طلب من أخيه استطلاع أمر محمد صاحب الدعوة الجديدة التى ظهرت بمكة، وعندما لم يأته بما يشفى غليله إلى المعرفة قرر استطلاع الأمر بنفسه. ظل أبوذر عدة أيام يراقب المشهد فى مكة حتى رتب له على بن أبى طالب لقاءً مع النبى. «دخل أبوذر مع علىّ فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمرى، فقال: والذى بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأنها على طريق تجارتكم إلى الشام. فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه».
نحن أمام رجل يتمتع بـ«نفسية مقاتل»، وهى تركيبة شخصية امتاز بها عدد من الصحابة الأوائل الذين انضموا إلى ركب الدعوة فى اللحظات الأولى التى صدع فيها النبى برسالة الإسلام. تشابهات عديدة تجدها على هذا المستوى بين عبدالله بن مسعود الذى خرج يقرأ سورة الرحمن وسط المشركين فى جوف الكعبة، حين كانت الدعوة إلى الإسلام سرية، وأبى ذر الغفارى الذى خرج يصرخ بكلمة التوحيد فى الظرف نفسه. أبوذر بطبيعته كان مقاتلًا، هكذا صنعته تجربته بين أهله فى قبيلة غفار. فالنشأة والثقافة تعدان رافدين أساسيين من روافد تكوين الشخصية، والإنسان فى المجمل «ابن تجربته». وقبيلة غفار كانت قبيلة مقاتلة، لذلك كان من الطبيعى أن تهرول إلى الإسلام حين دعاها أبوذر إليه، إذ وجدت فى تجربة كفاح النبى مصرفًا إيجابيًا لاستثمار ما يتحلى به رجالها من شجاعة وثبات فى المواجهة. وقد أثبتت التجربة أن نساء «غفار» كن مقاتلات مثل رجالها.
يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «حدثنى سليمان بن سحيم عن أمية بنت أبى الصلت عن امرأة من بنى غفار قد سماها لى قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة من بنى غفار فقلنا يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا وهو يسير إلى خيبر فنداوى الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله».
وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر إلى التحرك نحو قبيلة غفار ودعوتهم إلى الإسلام، قائلًا: «إنى قد وُجهت إلى أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عنى قومك لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟. قال: فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسا فقال لى ما صنعت؟، قال: قلت صنعت إنى أسلمت وصدقت، قال: فما بى رغبة عن دينك فإنى قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت ما بى رغبة عن دينكما فإنى قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم المدينة، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، قال: فقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم، قال: وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله إخواننا نسلم على الذى أسلموا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله».

اتهم عثمان بدعم سعى بنى أمية لتأسيس دولة مال وأعمال.. فأهانه الخليفة وأمر بنفيه
مات النبى، صلى الله عليه وسلم، وخلفه أبوبكر، ومن بعده عمر، ومن بعده تولى عثمان أمر المسلمين. وفى وقت تراجعت فيه قيمة المال لحساب القيم الإيمانية الرفيعة فى عهد النبى والشيخين، اختلف الأمر لما تولى عثمان، فانطلق المال من عقاله، وارتفعت مراتب التجار، وتفتحت أبواب بيت الحكم أمامهم، وفى الوقت الذى كان «نفوذ المال» فيه يتمدد كانت قيم الدين الرفيعة، ومن أبرزها قيمة «العدالة الاجتماعية» تتراجع. وكان من الطبيعى فى ظل هذا التحول أن يجأر لسان «أبوذر» بالغضب. كيف لا وهو الذى دخل الإسلام من بوابة «العدالة الاجتماعية»؟. كان أبوذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغى له أن يكون فى ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شىء ينفقه فى سبيل الله أو يعده لكريم، ويأخذ بظاهر القرآن: (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم). فكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بكلامه، وغضب عليه الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم.
كان أبوذر يردد هذا الكلام فى الشام وهى تحت ولاية معاوية بن أبى سفيان. ومن المعلوم أن بنى أمية كانوا يمثلون جماعة رأس المال ورجال الأعمال (التجارة) داخل المجتمع العربى (قبل البعثة وبعدها). ومعاوية كما تعلم سياسى محنك، يميل إلى الحيلة قبل المواجهة المباشرة. وقد انتهج هذه السياسة مع أبى ذر فأراد أن يختبر مدى صدقه وإيمانه بما يردده من شعارات حول العدالة الاجتماعية، وهل يستهدف بها حصد المال أم يؤمن بها إيمانًا حقيقيًا؟. أرسل معاوية رسولًا يحمل ألف دينار إلى أبى ذر، فأنفقها الأخير على الفقراء. فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذى أرسله إليه فقال: اذهب إلى أبى ذر فقل له: أنقذ جسدى من عذاب معاوية فإنه أرسلنى إلى غيرك وإنى أخطأت بك. ففعل ذلك. فقال له أبوذر: يا بنى قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: «إن أبا ذر قد ضيّق علىّ، وقد كان كذا وكذا، للذى يقوله الفقراء». فكتب إليه عثمان: «إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها ولم يبق إلا أن تثب فلا تنكأ القرح وجهز أبا ذر إلىّ وابعث معه دليلًا وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. وبعث إليه بأبى ذر».
كان اللقاء بين الخليفة «عثمان» والثائر «أبوذر» عاصفا. فالخليفة كان الممثل الشرعى لدولة «المال ورجال الأعمال»، وكذلك كانت بطانته التى تحيط به، فى حين كان أبوذر الصوت الصارخ بمطالب الفقراء، والمعبر الأكبر عن أنينهم ومعاناتهم. ما إن دخل أبوذر إلى المدينة حتى صرخ قائلًا: «بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار (أى حرب ذات أهوال)». هكذا ودون مواربة ثم دخل على الخليفة، فسأله عثمان: «ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك (أى سلاطته)؟» فأخبره أبوذر بما رآه من سحق للفقراء وبلهنية يرتع فيها الأغنياء. فقال عثمان: يا أبا ذر علىّ أن أقضى ما علىّ وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد وما علىّ أن أجبرهم على الزهد. فقال أبوذر: لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ويصلوا القرابات. فقال كعب الأحبار، وكان حاضرًا: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبوذر فشجه. إنها نفسية المقاتل التى لا تهاب، فقد وقف شامخًا يقول ما يؤمن به أمام الخليفة وبطانته، بذهن حاضر ولفظ قاطع، ولما حاول واحد من بطانة الخليفة (كعب الأحبار) الدفاع عن الأغنياء، لم يتردد فى وضعه فى حجمه الطبيعى، لأنه كان يعلم أنه يريد ممالأة السلطان ونفاقه.
إنه لسان الصدق الذى لا يأبى إلا قول الحقيقة، والنفس الشفافة التى ترى المستقبل وتحولاته المبنية على أمراض الحاضر ببصر حديد. واللسان الصادق غالبا ما يتمتع صاحبه ببصيرة ثاقبة قادرة على الاستبصار، وكذلك كان أبوذر، لقد كان يردد قبل قيام دولة بنى أمية على يد معاوية أنه سمع رسول ﺍﷲ صلى ﺍﷲ ﻋﻠﻴﻪ وسلم يقول: «ﺇﺫﺍ كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد ﺍﷲ ﺩﻭﻻ، ﻭﻋﺒﺎﺩ ﺍﷲ خولا، ودين ﺍﷲ ﺩﻏﻼ». وعندما واجهه عثمان بذلك قال له: نعم!، سمعت رسول ﺍﷲ، صلى ﺍﷲ ﻋﻠﻴﻪ وسلم، يقول ذلك. ﻓﻘﺎل عثمان لمن حوله: أسمعتم رسول ﺍﷲ صلى ﺍﷲ ﻋﻠﻴﻪ وسلم يقول ذلك؟. ﻓﺒﻌﺙ ﺇﻟﻰ علىّ بن ﺃبى طالب، فأتاه، ﻓﻘﺎل: يا أبا ﺍﻟﺤﺴﻥ أسمعت رسول ﺍﷲ يقول ما حكاه أبوذر؟، وقص ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺨﺒﺭ. ﻓﻘﺎل على: نعم!. ﻗﺎل: وكيف تشهد؟. ﻗﺎل: لقول رسول ﺍﷲ: ما أظلت ﺍﻟﺨﻀﺭﺍﺀ ﻭﻻ أقلت ﺍﻟﻐﺒﺭﺍﺀ ﺫﺍ ﻟﻬﺠﺔ أصدق من أبى ﺫﺭ». من جديد يكشف الرسول الأعظم عن جوهر شخصية أبى ذر المتمثل فى «صدق اللسان»، وهو أمر لم يكن يعجب الخليفة. قد يقول قائل إن وجهة نظر «عثمان» رضى الله عنه فى العلاقة بين الأغنياء والفقراء مقنعة، فكل المطلوب منه أن يوجه الرعية إلى الإنفاق لكنه لا يستطيع أن يجبرهم على الزهد، وهو كلام صحيح، لكن يعيبه أنه يهدر السياق الذى نشأ فيه أبوذر، فما شهده عصر عثمان من تغول للأغنياء، واتساع الفجوة بينهم وبين الفقراء لم يشهده عصر النبى أو الشيخين، وبذلك تبدو حجته أكثر وجاهة وأشد اتساقًا مع الظرف.
بعد المواجهة الساخنة بين الخليفة والثائر، لم يمكث أبوذر بالمدينة ﺇﻻ أياما، حتى أرسل ﺇﻟﻴﻪ ﻋﺜﻤﺎﻥ ودار بينهما الحوار التالى:
عثمان: ﻭﺍﷲ لتخرجن ﻋﻨﻬﺎ (أى عن المدينة).
أبوذر: أتخرجنى من حرم رسول ﺍﷲ؟.
عثمان: نعم، وأنفك ﺭﺍﻏﻡ (أى وأنفك فى التراب).
أبوذر: ﻓﺈﻟﻰ مكة؟.
عثمان: ﻻ.
أبوذر: ﻓﺈﻟﻰ ﺍﻟﺒﺼﺭﺓ؟.
عثمان: لا.
أبوذر: ﻓﺈﻟﻰ ﺍﻟﻜﻭﻓﺔ؟.
عثمان: لا!، ﻭﻟﻜﻥ ﺇﻟﻰ الربذة التى خرجت منها حتى تموت بها.. يا مروان، أخرجه ولا تدع أحدًا يكلمه.
وهكذا مشى الثائر إلى منفاه بـ«الربذة» وحيدًا.

رفض التراجع عن قناعاته بضرورة تصحيح العلاقة المختلة بين الأغنياء والفقراء
إلى «الربذة» كان مآل أبوذر، بعد القرار الذى اتخذه «عثمان» بنفيه عقابًا له على تجرئه على أصحاب الثروات. وحيدًا سار غير آبه بشىء. إنها نبوءة محمد تتحقق. ربما استرجع فى طريقه ذلك الموقف الذى سمع فيه تلك الجمل العبقرية التى تلخص شخصيته المقاتلة، عندما كان مهاجرًا من مكة إلى المدينة خلف رسول الله. تأخر أبوذر، فهمس بعضهم للنبى: «يا رسول الله تخلف أبوذر. فقال: ذروه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم». ولم يكن لأبى ذر أن يتخلف وهو الحاضر دائمًا. وكل ما حدث أن الجمل الذى يقطع عليه الرحلة تعب وأبى السير، فما كان من المقاتل إلا أن حمل رحله وقطع المسافة المتبقية إلى المدينة سيرًا على قدميه، حتى وصل إلى النبى، وقد أجهده الجوع والعطش- لحظتها كان النبى يجلس مع أصحابه- فنظر الناس فقالوا: يا رسول الله هذا رجل على الطريق وحده، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر. فلما تأمله الناس قالوا: هو أبوذر. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويُبْعَث وحده».
فى «الربذة» قضى أبوذر ما تبقى له من سنوات عمره، يأبى التخلى عن قناعاته فى ضرورة تصحيح العلاقة المختلة بين الأغنياء والفقراء وردم الفجوة التى اتسعت بينهما فى عهد عثمان بن عفان. شعر المقاتل بالأجل يدنو فنادى ابنته وقال لها: يا بنية هل ترين أحدًا؟، قالت: لا. قال: فما جاءت ساعتى بعد. ثم أمرها فذبحت شاةً ثم طبختها ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنوننى فإنه سيشهدنى قوم صالحون فقولى لهم: يقسم عليكم أبوذر ألا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها قال لها: انظرى هل ترين أحدًا؟، قالت: نعم هؤلاء ركب. قال: استقبلى بى الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم مات، فخرجت ابنته فتلقتهم وقالت: رحمكم الله، اشهدوا أبا ذر. قالوا: وأين هو؟، فأشارت إليه، قالوا: نعم ونعمة عين!، لقد أكرمنا الله بذلك. وكان فيهم ابن مسعود فبكى وقال: صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (يموت وحده ويبعث وحده). فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. وقالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم ألا تركبوا حتى تأكلوا؛ ففعلوا وحملوا أهله معهم حتى أقدموهم مكة ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله وقال: يرحم الله أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة.
كلام عجيب ذلك الذى يختم به «ابن الأثير» قصة وفاة أبى ذر فى كتابه «الكامل فى التاريخ». دعا عثمان لأبى ذر بالرحمة وأن يغفر له نزوله الربذة. وكأنه نسى أنه هو الذى اتخذ قرار نفيه إليها. وقد ظلت واقعة التعدى على أبى ذر تلاحق عثمان، وكانت بندًا من ضمن عريضة الاتهام التى وجهها الثوار الذين تدفقوا إلى المدينة ضد عثمان، لينتهى الأمر إلى استشهاد الخليفة على أيديهم.