رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أولويات النبى فى بناء مجتمع إنسانى


كان على رأس أولويات وأهداف النبى، صلى الله عليه وسلم، بعد هجرته إلى المدينة العمل على بناء مجتمع إنسانى، لذا عمل على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لأنه يريد مجتمعًا إنسانيًا، ‏المجتمع فيه قبل الدولة، بعكس المتطرفين الذين يريدون الدولة قبل المجتمع.‏
علم النفس يقول إن هناك مواصفات محددة للإنسان الذى تنجذب إليه القلوب.. بأن يكون حنونًا.. رحيمًا.. سهلًا.. رقيقًا.. لينًا.. لطيفًا.. وهذه الصفات جميعها كانت فى شخص الرسول، صلى الله ‏عليه وسلم، «بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ».‏
ولم يجمع الله لأحد من البشر من صفاته إلا رسول الله: رءوف رحيم، «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»، هذا هو سر حب الصحابة له، فقد كان أجمل ‏نفسية عرفتها البشرية.‏
عندما وصل النبى إلى المدينة، وجد أهلها فى استقباله وقد لبسوا أفضل الثياب، وأعدوا أنشودة لاستقباله: «طلع البدر علينا.. من ثنيات الوداع»، فالفن الراقى ليس بحرام، وكان دخوله يوم الإثنين ‏‏١٢ ربيع الأول، وهى الليلة التى يكون فيها البدر مكتملًا.. وكان وجه النبى كالقمر، يقول أنس بن مالك: «دخل النبى المدينة يوم الإثنين فأضاء منها كل شىء ومات النبى بالمدينة يوم الإثنين فأظلم ‏منها كل شىء».‏
وتسابق الجميع على الإمساك بخطام ناقة النبى، وهو يبتسم بحب لكل الناس، وهم يعرفونه بأنفسهم، ويعرضون عليه أن يضيفوه.. دخل النبى وصاحبه أبوبكر معًا، وكما رافقه فى أصعب الأيام ‏وأشد اللحظات كان رفيقه فى لحظة استقباله، حتى ظن بعض الناس أنه هو النبى، وذلك من رقى نفس النبى السهلة المتواضعة.‏
ترك النبى الناقة حتى تستقر فى مكان، كان يقول: «دعوها فإنها مأمورة»، حتى لا يتسبب فى كسر خاطر أحد، وعندما نزل قال: «وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ»، وكرره ٣ ‏مرات، وهو الدعاء فى كل خطوة جديدة أو مشروع جديد.. فالدعاء باب التوفيق، والقرآن يقول: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّن َالْحَيَاةِ الدُّنْيَا»، أما باطن الحياة الدنيا عند الله وحده، فادع لنفسك.‏
أقام النبى فى ضيافة أبى أيوب الأنصارى وهو من قادة الأنصار، وأسرع أسعد بن زرارة فـأخذ ناقة النبى فجعلها فى حظيرته، وأقسم سعد بن عبادة أن طعام النبى سيرسله من بيته كل يوم، وأحد ‏الأنصار أتى للنبى بثوب من زى أهل المدينة، فارتداه، حتى يكون مثلهم فى زيهم، ليس مختلفًا، أو متميزًا عنهم.‏
بينما أخذت بنات من بنى النجار، يرددن: «يا حبذا محمدًا من جار»، فيرد عليهن النبى: «الله يعلم أن قلبى يحبكن»، فقد كان حبه للبنات ميلادًا جديدًا لجيل جديد للمرأة المسلمة بالمدينة، وقدم نموذجًا ‏لكل أب، كيف تحب بنتك وتجعلها تحبك، وهذه من سنة النبى».‏
منح النبى الحب للجميع، ووسعهم، لم يختر واحدًا ليستأثر بكل شىء، وسعة الحب دليل سعة النفس، وقد منحه ربنا كل هذا الحب، لأن الهدف الكبير هو بناء إنسان.‏
والنبى هو أكثر قلب محب للبشرية، حنون، لدرجة أنه فى الآخرة، الكل مشغول بنفسه، إلا هو مشغول بالناس، فى الهجرة كان آخر من يهاجر حتى يطمئن على سلامة الصحابة، ويوم القيامة هو ‏آخر من يعبر الصراط، وهو القائل: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه»، حبه هو الذى يجعلك تقلده، لأن القيم تحتاج إلى قدوة حتى تُرسخ.‏
عندما علم أن الأرض التى استقرت عليها ناقته، والتى اختارها ليبنى عليها المسجد، أنها ملك ولدين يتيمين من بنى النجار، أصر على شرائها، على عكس رغبة وليهما الذى كان يريد إهداءها له، ‏لكنه رفض بشدة، ودفع ثمنها. ‏
وبينما كان النبى فى ضيافة أبى أيوب الأنصارى، قص عليهم ضيفه قصة «تُبّع»، القوم الذين ذُكروا مرتين فى القرآن: «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ»، وذلك عندم مر ملك الحبشة بجيشه على المدينة ‏‏«يثرب»، فتعدى أحد جنوده على نخيل المدينة، فقتله رجل من بنى النجار، فأقسم «تُبّع» على أن يهدم المدينة ويسويها بالأرض.‏
لكن اليهود حذروه، وقالوا له: لا تفعل فتحل عليك عقوبة الرب.. فسألهم لماذا؟، قالوا له إنها مدينة نبى آخر الزمان.. نبى مهاجر تكون هى داره ومستقره.. وكان معه فى رحلته ٤٠ من حكماء ‏قومه.. فتأثر لكلامهم وامتلأ قلبه بأمنية مرافقة هذا النبى، فنزل «تُبّع» فى بيت الأحمر من بنى النجار وأقام عنده، وهذا الأخير كان جد أبى أيوب.‏
وكتب «تُبّع» قبل موته كتابًا، أوصى فيه بنى النجار بأن يوصلون الكتاب للنبى المنتظر، وظلوا يتوارثونها حتى وصل إلى أبى أيوب، فقرأه على النبى، وجاء فيه: «فإنى آمنت بك وبربك ورب كل ‏شىء، فإن أنا عشت وأدركت زمانك.. نصرتك، وإن لم أدركك فاشفع لى يوم القيامة ولا تنسانى فإنى أصل الأرحام، وقد بايعتك قبل مجيئك»، فسُر النبى لكلامه، لأن الإيمان الصادق يتجاوز الزمن.‏
النبى عندما هاجر إلى المدينة، ترك بناته بمكة، فأرسل زيد بن حارثة ومعه ٣٠٠ درهم، حتى يأتى بهن، وأولاد أبى بكر عائشة وعبدالله وأسماء، وكان دليلهم عبدالله بن أريقط، وهو غير مسلم، لأنه ‏كان يثق فيه، لأن العبرة بالأخلاق.‏
ولما سألت أسماء بنت أبى بكر، النبى: أمى بمكة كافرة، فهل أصلها؟، نزلت الآية: «وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا»، وكان عبدالرحمن بن أبى بكر لايزال فى مكة، ولم يكن قد أسلم بعد، فأرسل ‏لأبيه يريد نقودًا، لكنه رفض، فنزلت الآية: «وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام». ‏
أسلمت زوجة أبى بكر بعد أسبوع واحد من الهجرة، والنبى قال عنها: من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى «أم رومان»، فهى وإن تأخرت فى إسلامها لكنها سبقت من ‏سبقوها، فإنه ربما تتأخر فى التدين ثم يقدمك الله على من سبقوك بصدق نيتك.‏