رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا سرق الأغنياء لعبة الفقراء؟


ما لا يستطيع أن ينطق به البشر قد يفصح عنه القدر، ويبدو أن القدر قد شاء أن يسخر من هذه المهزلة التى تدار بها أمور أكثر اللعبات شعبية فى العالم وهى كرة القدم، خاصة فى بطولتها ‏العالمية المعروفة بـ«المونديال»، فرغم أن كرة القدم هى لعبة الفقراء، إلا أن الواقع الآن يشير إلى أن تقرير مصير كرة القدم عموما والمونديال على وجه الخصوص أصبح فى يد أصحاب المال ‏والسياسة فقط.. وليس مهما أن يرضى هؤلاء الفقراء أو يغضبوا، فهم لا يملكون من أمر الكرة شيئا.‏

هل هناك سخرية أكثر من أن يوافق الاتحاد الدولى لكرة القدم «فيفا» بعد تلقيه رشاوى بالمليارات، على إقامة مونديال ٢٠٢٢ فى قطر، وهى دويلة «مينى»، مساحتها ١١ ألفا و٤٣٧ كيلومترًا ‏مربعًا فقط، ثم يوافق بعدها على إقامة المونديال التالى فى عام ٢٠٢٦ فى ثلاث من أكبر دول العالم مساحة وهى الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، أى على أكثر من ٢٤ مليون كيلومتر مربع هى ‏مساحة قارة أمريكا الشمالية.‏
التناقض كبير ومحير وهناك حالات أخرى كثيرة توضحه بجلاء، ففى عام ٢٠٠٤ حصل الملف المصرى لتنظيم كأس العالم على الصفر الشهير، رغم أن مصر كانت تملك فرقا كروية كثيرة ‏ولديها منشآت رياضية عدة، وفى المقابل فإن قطر فى العام ٢٠١٠ فازت بأعلى الأصوات فى تصويت فيفا لتنظيم مونديال ٢٠٢٢ رغم أنها لم تكن تملك سوى استاد واحد، وقليل من الفرق والقليل ‏من الجماهير، إضافة إلى مناخ لا يصلح لإقامة المباريات ولا لاستمتاع الجمهور بأجواء البطولة الصيفية، لكنها كانت تملك كثيرا من الأموال التى أغدقت بها كرشاوى بالمليارات ففازت على الملف ‏المنافس وكان للولايات المتحدة الأمريكية، صحيح أن رشاوى قطر كانت السبب فى الإطاحة بجوزيف بلاتر، رئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم، وميشيل بلاتينى، رئيس الاتحاد الأوروبى، وآخرين إلا ‏أنها ستنظم المونديال.‏
بريطانيا التى خسرت شرف استضافة مونديال ٢٠١٨ وتم إسناد تنظيمه إلى روسيا، اتهمت جوزيف بلاتر ومعاونيه بتلقى رشاوى لإنجاح الملف الروسى، وقالت إنه قام بالاجتماع مع شخصيات ‏روسية مطلوبة من الشرطة الدولية «الإنتربول» قبل عملية التصويت لاختيار البلد المنظم.‏
أما بخصوص مونديال ٢٠٢٦، الذى سيقام على مساحة قارة بأكملها، حيث الأندية والجمهور، والأهم من هذا النفوذ السياسى الهائل الذى دفع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لأن يهدد صراحة أى ‏دولة تتجرأ وتصوت ضد مشروع الدول الثلاث بقطع المساعدات عنها، وذلك نتيجة لخوفه من الملف المغربى حيث تقدمت المغرب بطلب التنظيم للمرة الخامسة، لكنها لم تفز هذه المرة بسبب التهديد ‏الأمريكى.‏
حكاية أخرى من حكايات الرشاوى وسيرة الأغنياء على المونديال، أثيرت فى مونديال ٢٠٠٦ التى استضافتها ألمانيا حيث حملت القرعة التى أجراها فيفا الكثير من عدم العدالة لمنتخبات على ‏حساب أخرى، وقام وقتها النجم الكروى مارادونا بفضح فيفا بقصة التلاعب بالقرعة لصالح بعض الفرق العالمية لضمان مشاركتها وتأهلها، الأمر الذى جعل أنصار بلاتر يشنون حربا عليه.‏
الحكايات كثيرة وبعضها أيضا يتعلق بالتلاعب فى نتائج المباريات تحت سمع وبصر فيفا، وكل هذه الحكايات تشير وتؤكد أن الأغنياء سرقوا كرة القدم من الفقراء، وأداروا شئونها لصالحهم ‏ليزدادوا ثراء، فكثير من السياسيين وزعماء الدول يرغبون فى استضافة المونديال لزيادة شعبيتهم أو لصرف الأنظار عن إخفاقاتهم، أو حتى لإرضاء جنون العظمة لديهم، وهم مستعدون للدفع ‏لأباطرة فيفا الذين يبيعون كل شىء لمن يقدر على الدفع.‏
وزمان كانت إقامة مباريات المونديال تمثل حالة من البهجة فى كل البيوت، ولكنها فى زمن الرشاوى أصبحت تثير حالة من الإحباط، خاصة فى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث نجحت ‏دويلة قطر فى أن تحرم الملايين من سكانها من مشاهدة المونديال، إلا من خلال قنوات بى إن سبورت القطرية، التى أهدرت الأموال بشكل جنونى من أجل وهم السيطرة، ونجحت بالفعل فى احتكار ‏إذاعة بطولات كرة القدم الكبرى وعلى رأسها المونديال، وهو ما أثار استياء مئات الملايين الذين لا يهتم بهم فيفا.‏
والمثير أن المنطقة الوحيدة التى يتم فيها احتكار بث البطولات بتلك الطريقة هى منطقتنا، فالدول الأوروبية جميعها ضغطت فى عام ٢٠١٢ لوضع بند يتيح لكل دولة أوروبية بث المباريات، التى ‏ترى أنها ذات أهمية قومية على قنوات مفتوحة، وبضغط من إنجلترا وبلجيكا تحديدًا وضعت لائحة تنص على بث جميع مباريات كأس العالم وكأس الأمم الأوروبية على قناة واحدة مفتوحة على ‏الأقل، وخسر الاتحاد الأوروبى لكرة القدم استئنافه أمام محكمة العدل الأوروبية على هذا القرار ليصبح حكمًا نهائيًا، ومن حق «الاتحاد الأوروبى لكرة القدم» بيع الحقوق لأى قناة مشفرة، لكن فى ‏الوقت نفسه ضمن للمواطن البسيط أنه يمكنه مشاهدة البطولة عبر قناة مفتوحة على الأقل.‏
وتحكم السياسة فى الكرة مازال مستمرا، فقبل مونديال موسكو أعلنت شركة «نايك» الرياضية الأمريكية رفضها تزويد لاعبى المنتخب الإيرانى بالأحذية، وذلك تماهيا مع موقف الرئيس ترامب ‏من إيران وإلغائه الاتفاق النووى معها، مع أن نفس الشركة كانت قد زودت لاعبى المنتخب الإيرانى بالأحذية فى نهائيات كأس العالم عام ٢٠١٤ فى البرازيل، رغم وجود عقوبات اقتصادية كانت ‏تفرضها إدارة أوباما آنذاك على إيران.‏
كل شىء إذن بات مباحا و«مباعا» فى عالم فيفا، حيث أصبح جمع المليارات – فيما يبدو- أهم من نشر اللعبة وتنظيمها وزيادة شعبيتها، ولذلك فإن من يملك المال والنفوذ السياسى هو صاحب ‏الكلمة الأولى والأخيرة فى عالم الكرة، ومن حقه أن يأمر وينهى ويتلاعب بكل شىء، بغرور لا يعرف أى روح رياضية، أما الفقراء الذين تتعلق قلوبهم بالساحرة المستديرة فلهم الله، لأن قادة فيفا لا ‏يحبونهم ولا ينظرون إليهم.‏