رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا بارك الله فى قوم ضاع الحق بينهم


القانون عنوان قوة الدولة، وتطبيقه على الجميع، دون تفرقة أو استثناء، هو المؤشر الحقيقى على تحقيق العدالة بين الناس، وهو الطريق إلى رضاء المواطن وشعوره بأنه ينتمى إلى أمةٍ، لا فضل فيها لعربى على أعجمى، ولا لأبيض على أسود، ولا لقوى على ضعيف، إلا بمقدار احترام القانون والانصياع لأحكامه.
يزداد الرضا داخل هذا المواطن، ويقوى انتماؤه لبلاده ويتأصل ولاؤه لها، بمقدار اختفاء (إنت مش عارف أنا مين؟!)، الجملة الشهيرة التى سادت بلادنا لزمن طويل، فخلّقت فيها نوازع الضغينة بين أبناء الوطن الواحد، يوم شعر المواطن بأنه يعيش وسط مجتمع طبقى، يأكل القوى فيهم الضعيف، ويُضيع القادر منهم حق من فقد أسباب المنعة.. وذلك وبال يهدد بزوال الأمم، أو يؤدى إلى خرابها، طالما سرى اليقين بداخل البعض بأن للقانون ربًا يحميه، وعلى الضعيف أن يبحث عن ظهير يقويه.. ولذا، فلا عجب أن نرى فى المجتمعات المتحضرة قانونًا يسودها، ويُظل أهلها بأحكامه، فكانت متقدمة قوية، لأن الكل رضى عن البلد الذى يتساوى فيه الجميع فى الحقوق والواجبات، ويخضع الكبير فيه للقانون قبل الصغير، فكان هو عنوان العدل والحرية المسئولة، فعمل الكل بجد وإخلاص، من أجل البلد الذى تساوى فيه الجميع.
وإذا أردنا لمصرنا خيرًا، فإن أول ما نوليه عنايتنا واهتمامنا، هو كيفية تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، وألا يتخذ بعضنا من وظيفته أو مسئوليته حصنًا يتدرع به، وعصًا يبطش بها خلق الله فى أرضه، وأن نفهم معنى تمتع البعض بحصانات دستورية أو قانونية، وما هى حدود هذه الحصانات ومجالات تطبيقها، وعند أى نقطة يجب أن يخلع المسئول عن نفسه رداء هذه الحصانة، ويكون فى لحظة ما، مواطنًا عاديًا، يجوز عليه ما يجوز على أى مواطن آخر فى الشارع، دونما تباهٍ بالوظيفة، أو تحصن بالمنصب من تطبيق القانون عليه إذا عنّ ما يستوجب ذلك، إذا لم أقل، أن يتخلى هؤلاء عن قوانينهم التى خلقوها لأنفسهم، يُسيئون بها للهيئات التى ينتمون إليها، قبل أن (ينكدوا) بها على عباد الله، فى كل مكان وأوان.. ساعتها، يمكننا القول بأن مصر تمضى، وعلى كل المسارات، إلى حيث يُراد لها، من القوة والمنعة بأبنائها، ومن الرفعة والتقدم بأياديهم، وقت أن يفخروا بأنهم جميعًا أبناء بلد واحد، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، دون أن تستأثر فئة لنفسها بأسباب السيادة الواهية.
فى الأيام القليلة الماضية، كنت شاهدًا على واقعة فى أحد شوارع القاهرة، ورأيت أخرى على أحد مواقع التواصل الاجتماعى، دللتا معًا لى، على أنه ما زال بيننا من لم يؤمن بعد بأننا (أولاد تسعة)، خرجنا من ذات الأرض، ونشأنا فوق ترابها، يُظلنا قانونها، لا فرق بيننا إلا بمقدار خروجنا على القانون أو الانقياد لأحكامه، لأنه هو السيد المُطاع على هذه الأرض، وليست الوظيفة أو المنصب مدعاة للتمايز، بين فرد وآخر فى تطبيق القانون، فى زمن تؤكد فيه قيادة هذه البلاد أن المصريين سواءٌ، وأنها، بهم ولهم جميعًا، تبنى مصر الحديثة، وأن القانون هو المظلة التى يحتمى بها المجتمع، يأخذ على يد الظالم، ويُعلى من شأن الضعيف، فيقتص له، ما يجلب به حقه، ويحفظ عليه كرامته.
بعد أذان ظهر أحد أيام الأسبوع الفائت، أجبرت زحمة المرور بأحد شوارع منطقة المهندسين سائقًا على أن يميل فى سيره باتجاه اليسار، حيث كانت تسير أخرى.. لم يصطدم بها، بل ضيق عليها المسافة باتجاه رصيف الشارع، فتوقفت فجأة، بينما سيارة ثالثة كانت تسير خلفها، تفادت الاصطدام بها من الخلف، نتيجة توقفها المفاجئ.. إلى هنا لا مشكلة، ولم يتضرر أحد من الآخر.. لكن باب السيارة الثانية انفتح عن رجل يرتدى بدلة أنيقة، وقد لمع شعر رأسه فى ضوء شمس الظهيرة، ووضع يده عند خاصرته، وأمر قائدى السيارتين، عن يمينه وخلفه، بأن يُخرج كل منهما (رخصه).. فلما أبديا دهشتيهما من طلب هذا الآمر، إذا به يقول بصوت عالٍ، كأنما يريد إسماع من بالشارع: (أنا رئيس المحكمة.. وبأقولكم هاتوا الرخص)، وبما أن الطلب غير منطقى، فقد صمتا ونظرا إليه فى استغراب لأمره.. فإذا به ينادى شرطى مرور، كان متواجدًا بالمكان: (إنت يا بنى.. تعالى هات لى الرخص من الناس دى).. لم أقدر على متابعة مشاهد هذه المسرحية الهزلية، وغادرت المكان لأن دمًا كان قد بدأ يغلى فى رأسى، من سوء المشهد، ومن التعالى على خلق الله، واستغلال شخص لمنصبه فى فرض ما ليس من حقه، على مواطنين، يُفترض أنهما محميان بالقانون، من عبث العابثين، ومن كل من يمكن أن يُروّع شخصًا فى أمنه النفسى.
المشهد الثانى، وقعت أحداثه فى مدينة المحلة الكبرى، عندما أوقف شخص سيارته بشكل عرقل حركة المرور فى أحد الشوارع، وعندما جاء ضابط المرور لينفذ القانون بأن (يكلبش) السيارة المخالفة، إذا بشخص يصيح: (لا تلمس السيارة.. أنا المستشار فلان.. وأحذرك أن تلمس السيارة)!!.. لكن ضابط الشرطة المحترم، الذى تربى فى كليته ودراسته الشُرطية على تحقيق الأمن والحفاظ على سلامة المواطن، أصر على (كلبشة) السيارة، دون أن يحتك بالسيد المستشار، الذى رأى نفسه فوق القانون، وفوق قواعد المرور وأحكامه، دون أن يفكر سيادته بأنه القائم على العدل بين الناس، وأنه أولى من أى شخص باحترام القانون، وأنه يجب أن يكون المثل والقدوة لغيره، إذ كيف تنهى عن أمر وأنت فاعله؟!.
نحن نوقر رجال القضاء، ونقدر دورهم الرائع فى الحفاظ على منظومة العدل بين الناس، ونثمن لكل المحترمين من أصحاب المناصب، وكل من يعطيهم الدستور والقانون حصانة، ما يؤدونه تجاه بلدهم، لكن مع كل من لم يدرك المرامى النبيلة من وراء هذا التمايز، فإن الأمر جد خطير، ويحتاج وقفة تُعيد الأمور إلى نصابها، وتضع كل إنسان عند قدره وحجمه، وأمام مسئولياته الاجتماعية، وأن أى حصانة هى من حق صاحبها، فى إطار حماية وظيفته، ودون خدش لاحترامها وقدرها.. لكن إذا ما كان هذا (المواطن)، صاحب المنصب والحصانة، بين الناس فى الشارع، فهنا هو مواطن عادى، إذا لم يكن هو العنوان الأمثل لقدسية القانون وواجبات احترامه وتوقيره، فأولى بالقانون أن ينتصر لنفسه منه، وبهذا نصون للقانون هيبته ومنعته وسيادته بين الناس، ونمنع عنه غائلة المتطاولين عليه، فلا بارك الله فى قوم ضاع الحق بينهم، تحت أى دعوى من الدعاوى.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.