رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لعنة حمزة.. أسرار فيلم الرسالة بعد السماح بعرضه فى السعودية لأول مرة

جريدة الدستور

بعد ٤٢ عامًا على رفض المملكة العربية السعودية ودول إسلامية أخرى عرضه، بسبب الجدل الفقهى حول مسألة «تصوير الصحابة» فى الأعمال الفنية، أعلنت «Front Row» الشركة العالمية المنتجة لفيلم- «الرسالة»، موافقة الجهات المختصة فى المملكة على عرضه بنسخته الجديدة فى صالات السينما بها. وذكرت الشركة المنتجة، أن الفيلم حظى بالموافقة المطلوبة فى السعودية، على أن يعرض فى السينمات هناك مع حلول عيد الفطر، معربة عن سعادتها بتحقيق حلم قديم بعرض الفيلم الذى يدور حول لحظة محورية فى تاريخ المنطقة وثقافتها.

«الدستور» تستعرض فى السطور التالية حكاية الفيلم الشهير الذى أخرجه المخرج العالمى مصطفى العقاد فى سبعينيات القرن الماضى بنسختين عربية وإنجليزية واستعرض فيهما حكاية السنوات الأولى من التاريخ الإسلامى، والمشكلات التى تعرض لها وهددت تنفيذه على أرض الواقع، بالإضافة إلى أشهر القصص والحكايات التى رواها أبطاله العرب والأجانب عن كواليسه.

الرياض هددت بمقاطعة المغرب بسببه.. والقذافى أشرك جيشه فى مشاهد «بدر وأُحد»
عندما بدأ المخرج السورى الراحل مصطفى العقاد التفكير فى تنفيذ فيلم «الرسالة» عام ١٩٧٦، كان هدفه يتمثل فى إنشاء جسر يقرب المسافة بين الغرب والمسلمين من خلال عمل فنى متكامل يتم إنتاجه بنسختين عربية وإنجليزية وفريق عمل من المصريين والعرب والأجانب معًا.
الفيلم الذى يعد واحدًا من روائع السينما العربية والعالمية ترجم إلى ١٢ لغة حية، ليجوب أنحاء العالم بحرية كاملة رغم ما واجهته رحلة صناعته من صعوبات رقابية وإنتاجية، كادت تعصف به مع رفضه من قبل بعض جهات الرقابة على المصنفات الفنية فى عدة دول عربية.
وجاء الرفض رغم التزام السيناريو بما تم الاتفاق عليه مع مؤسسة الأزهر الشريف بمصر والمجلس الشيعى الأعلى بلبنان، وبعد التأكد من صحة الروايات المذكورة فيه. بدأت مشاكل الفيلم الإنتاجية منذ صدور قرار وقف تصويره فى دولة المغرب، رغم إعلان الملك الحسن الثانى دعمه الفكرة فى البداية، إلا أن المملكة العربية السعودية كان لها رأى آخر، إذ رأت فى ظهور الصحابة ضمن أحداث الفيلم «تجاوزًا وخروجًا على الثوابت الدينية». ودفع هذا الرأى الملك السعودى خالد بن عبدالعزيز لإرسال رسالة عاجلة إلى الملك الحسن الثانى، يقول فيها إن «السعودية ستقاطع أعمال مؤتمر القمة الإسلامى الذى كان مقررًا عقده وقتها بالعاصمة المغربية إن أصر المغرب على دعم الفيلم». وإثر هذا الموقف، اضطر الملك المغربى إلى أن يطلب من طاقم التصوير البحث عن بلد آخر من أجل إتمام عملهم، كما تم قطع الكهرباء عن مكيفات التبريد فى الفندق الذى كان فريق العمل يقيم به ووضع أغطية نوم تالفة فى حجراتهم من أجل إجبارهم على الرحيل فى أسرع وقت.
وقتها، كانت بوادر الخلاف بين السعودية وليبيا قد بدأت فى الكشف عن فصولها، وربما كان هذا الخلاف هو ما أنقذ الفيلم من الذهاب إلى مجاهل النسيان، إذ سارع الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى إلى عرض المساعدة والدعم لاستكمال تصوير العمل فى صحراء ليبيا. وأمر «القذافى» بمشاركة أفراد القوات المسلحة الليبية فى تصوير معركتى «بدر» و«أُحد»، وكان من نتيجة ذلك أن خرج الفيلم للنور بعد ١٢ شهرًا من العمل.

أنتونى كوين طلب تجسيد دور «أسد الله» بدلًا من أبوسفيان
فى أحد حواراته، قال المخرج مصطفى العقاد، إن الفيلم تعمد إبراز واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا وتوقيرًا، بل الأكثر إثارة للجدل فى التاريخ الإسلامى المبكر، وهى شخصية حمزة بن عبدالمطلب عم الرسول، وأن تروى عنه حكايات عدِّة فى الشجاعة التى تُصاحبها شخصيته الصارمة ونظراته التى كانت تُخيف أعتى الواقفين أمامه من قبائل العرب وأكثرهم بسالة. تبدأ أحداث «الرسالة» فى مكة، وقت نزول الوحى، وبداية الصراع والتآمر على المؤمنين بالدين الجديد، وصولًا إلى صدمة «قريش» عندما أشهر حمزة- عاشق الخمر وصائد الأسود كما عرفه أهل مكة- إسلامه ليصبح الرجل الأسطورى فى تاريخ المسلمين وينال بينهم لقب «أسد الله». عُرف عن «حمزة» قبيل إسلامه أنه كان شجاعًا كريمًا سمحًا، وكان من أعز أهل قريش وأقواهم شكيمة، كما أسلم فى العام الثانى من بعثة ابن أخيه وشهد معه معركتى «بدر»، و«أُحد» التى شهدت مقتله بعد أن قَتَلَ ٣١ رجلًا من قريش، إذ نال منه «وحشى بن حرب الحبشى» غلامُ «جبير بن مطعم»، ثم بقرت هند بنت عتبة بطنَه وأخرجت كبده وأخذت تلوكها لتعرف فيما بعد بـ«آكلة الكبد». ولأداء هذا الدور المعقد، احتاج «العقاد» إلى اختيار رجلين لا رجل واحد ليقوما بأداء شخصية هذا الرجل الأسطورى، وكلاهما سيمثل لعقود قادمة الصورة الذهنية لدى العالم عن ذلك المقاتل الذى رصدت قريش الكثير مقابل رأسه.
فى البداية، لم يكن الممثل الأمريكى المكسيكى الأصل أنتونى كوين مرشحًا لأداء دور «حمزة» عندما عرض عليه «العقاد» الأمر مع كاتب السيناريو الأيرلندى هارى كريج، إذ عرضا عليه فى البداية تجسيد شخصية «أبوسفيان» وهو الدور الذى سيؤديه الممثل المصرى حمدى غيث فى السيناريو العربى. لكن أنتونى كوين حين قرأ السيناريو أعجبه دور حمزة، وأمعن فى تفاصيل الشخصية بتقاطيعها الدرامية التى تشكل محورًا رئيسيًا فى نسيج الفيلم، ثم طلب تأديتها فكان له ما أراد. وقال «كوين»- فيما بعد- إنه كان يبحر فى عوالم تلك الشخصية القوية المثيرة للإعجاب، وسعى لفهم دوافع ومرجعيات سلوكها بيئيًا واجتماعيًا ودينيًا.

عبدالله غيث: النجم العالمى طلب تمثيل مشاهدى أولًا ليتعلم
على خلاف النسخة الأجنبية، كان اختيار الممثل الذى سيجسد دور «أسد الله» فى النسخة العربية أكثر صعوبة، فالعقاد كان يدرك أنه سيواجه مئات الملايين من المسلمين بصورة الصحابى التى سيمتد تأثيرها إلى الأبد.
وبدأ ترشيح النجم المصرى عبدالله غيث للدور عبر تواصله مع أحد أصدقائه من المنتجين، الذى أخبره بوجود مخرج عربى- أمريكى يحضر لفيلم جديد، كان فى البداية يحمل عنوان «محمد رسول الله».
لكن «غيث» لم يأخذ الموضوع بجدية، لأن معظم مشاركات الممثلين المصريين فى الأفلام العالمية فى ذلك الوقت لم تكن تليق بمكانتهم الفنية.
فيما بعد، التقى «غيث» رجلًا سوريًا أخبره بأنه ضمن فريق الإنتاج الذى يحضر للفيلم المذكور منذ ٦ أعوام كاملة، وأكد له ترشيحه لأداء شخصية «حمزة بن عبدالمطلب»، وإن كان الترشيح ليس نهائيًا.
كما أخبره بوجود لجنة تقييم فى لندن تعرض عليها صور الفنانين وهم يرتدون ملابس الشخصية، فوافق عبدالله غيث على إرسال صورته وفقًا لرؤيته الخاصة التى شرحها بقوله: «الفن ليس فيه أسماء، كما أن مارلون براندو رضخ لاختبار مشابه قبل تأديته لدوره فى فيلم (الأب الروحى)، كما أن الفن ليس فيه غرور أو كبرياء، والأهم أن يكون شكلى ملائمًا للدور»، وهو ما تحقق بالفعل إثر اختياره أداء الشخصية.
وروى «غيث» حكاية أول يوم تصوير: «فوجئت بسكرتير العظيم أنتونى كوين يقول لى: الفنان يُريد أن يتحدث معك، وذهبت لأجده يُخبرنى أنه يُريد أن أبدأ أنا أولًا بالتمثيل كى يتعلم منى كيف يكون الشخص العربى. ومن شدة خوفى قرأت الفاتحة أكثر من ١٠٠ مرة، ولا أعلم من أين أتتنى هذه السكينة التى بدت علىّ فى أول مشاهدى فأديته على أكمل وجه. وقتها أشاد كوين بأدائى، وقال بعد تأدية مشهده: «عبدالله غيث أفضل منى».
وربما لا يختلف من شاهد نسختى الفيلم على عظمة أداء كل من «غيث» و«كوين»، إلا أن الممثل المصرى الذى تشبع طيلة حياته بالثقافة العربية والإسلامية كان مرجعًا لنظيره الأمريكى.
وقال الفنان العالمى عمر الشريف خلال أحد اللقاءات التليفزيونية: «أنتونى كوين ممثل كويس، لكن عبدالله غيث كان هايل فى الفيلم، وأنتونى كان بيخلى عبدالله غيث يمثّل الأول ثم يقوم هو بتمثيل الدور من بعده».
وأضاف النجم العالمى: «كان بيتفرج عليه، وياخد منه»، وهذا ما أيّده «كوين» نفسه الذى قال عن تصوير مشهد الوضوء إنه كان يُتابع باهتمام ويراقب بتركيز شديد أداء «غيث» ويقف معجبًا ومندهشًا وهو يتابعه.
كما وصفت النجمة اليونانية إيرين باباسالتى، التى قدّمت دور «هند بنت عتبة» فى النسخة الإنجليزية، عبدالله غيث، بأنه «فنان عالمى على مستوى عالٍ»، وتجلى هذا فى مشهد إعلان «حمزة» إسلامه واتباعه دين محمد، الذى قدّمه ببراعة وهدوء ورصانة، ثم انفعالاته القوية وتباهيه كأقوى أبناء قبيلته، وهو المشهد الذى شهد المقولة الشهيرة: «ردها علىّ إن استطعت» التى صرخ بها فى وجه «أبوجهل» بعدما صفعه على وجهه.

تكلفته تخطت ١٧ مليون دولار..وموسيقاه حصدت «الأوسكار»
إنتاجيًا، تخطت التكلفة التى تحملها المخرج مصطفى العقاد بصفته منتج الفيلم أيضًا مبلغ ١٧ مليون دولار، ذهب معظمها فى الديكورات الطبيعية والملابس والإكسسوارات وأماكن التصوير، بالإضافة إلى كم هائل من المجاميع والمعارك واسعة النطاق.
واستخدم «العقاد» فى تصوير العمل كاميرات حديثة وقتها عالية الجودة، لكنها لم تخل من الرقع العرضية وبعض الهالات الحادة والقليل من الضوء التى يمكن التغاضى عنها نظرًا لإمكانيات كاميرات التصوير فى سبعينيات القرن الماضى.
وأظهر الفيلم أن «العقاد» كان متمكّنًا بشدة من فنّ تصوير المعارك، ومتصرّفًا جيدا فى موارده رغم ضخامتها، ما جعل من المشاهد الحربيّة تشكيلًا بصريًّا مُدهشًا يرتقى بمشاهدها إلى مصاف الحروب المقدّسة التى تخُاض دفاعًا عن الدين وتكريسًا للعدالة ورفعًا من الإنسانيّة، فكأنه بهذه المعارك يخوض معركته الثقافيّة الشخصية.
كتب سيناريو فيلم «الرسالة» ٤ من كبار الكتاب العرب، هم محمد على ماهر وعبدالرحمن الشرقاوى وتوفيق الحكيم وعبدالحميد جودة السحار، واشترك معهم الكاتب الأيرلندى هارى كريج فى نسختى الفيلم العربية والإنجليزية.
كما حصل الملحن الأمريكى موريس جار على جائزة «الأوسكار» لأفضل موسيقى تصويرية أصلية عن موسيقى الفيلم، التى رسّخت بجانب الديكور والمساحات الواسعة التى عرضها «العقاد» فى مشاهده للمتلقى الغربى استكمال الصورة الذهنية لشبه الجزيرة العربية فى القرن السابع الميلادى، لذا صارت بدورها جزءًا من أيقونية الفيلم فى السينما العالمية.