رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالعظيم عبدالحق.. الهارب من الأيام


لما تعرف إن بليغ حمدى بجلالة قدره.. جه عليه يوم ماكنشى بيغنى غير «تحت الشجر يا وهيبة»، وطالع نازل يقول «عملها ازاى ده».. الراجل ده ممسوس.. تعمل إيه؟.

هذه الحكاية أخبرنى بها محمد رشدى وأنا أسجل مذكراته عام ١٩٩٤ لأنشرها مسلسلة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون.. وأكدها لى فى حوار تالٍ المرحوم الإعلامى الكبير وجدى الحكيم.. أما الأبنودى، فكان له رأى ثالث «عظمة ده أكبر بكتير من تحت الشجر يا وهيبة.. ولو مش مصدق شوف سحب رمشه ودق الباب».. أما عمار الشريعى فهو المفتون ليل نهار بطريقة استخدامه المقامات الطربية فى «راصة القلل فى شكمتى البحرية» هل ستفعل مثلى وتعاند وتؤخر عمل اليوم ولن تذهب إلى زر التسجيل لتدير «فى قلبى غرام محيرنى، لعمنا طلب».. ولّا هتستغرب لما تعرف إن سيد مكاوى الفقى الأكبر غنى من ألحانه وهتروح تدور على اليوتيوب على أغنية اسمها «رسول السلامة».

من أحدثكم عنه عرفته ممثلًا يملك من أدوات فن التمثيل ما يجعل أمثال محمد رمضان يخرون صعقى.. لكن مشهدًا وحيدًا أنهى به حياته على الشاشة فى فيلم «الإرهاب والكباب».. يكفى لأن يقنعك أنه أحد براندات السينما المصرية أيضًا.. إنه يا سادة صاحب الحق الضائع.. عبدالعظيم عبدالحق.

سليل عائلة من الباشوات.. ووالده طرده من المنزل لأنه أراد أن يكون مطربًا
مثله مثل كل أطفال الصعيد.. عرف طريق الآلات الموسيقية فى المدرسة.. كانت مجرد مدرسة حكومية رغم أنه من أبناء الباشوات.. شقيقاه أحدهما وزير للعدل والآخر وزير للتموين والداخلية لسنوات فى عصر الملك.. يعنى باشا من ساسه لراسه.. لكنه يدرس فى مدرسة عادية.. عيناه مربوطتان فقط بمدرس الموسيقى.. وأصابعه تنتقل كل يوم من آلة إلى أخرى.. مرة «الساكسفون».. ومرة «الترومبيت» ومرة «الأوكورديون».. وفى أوقات الفراغ كل أنواع آلات الإيقاع وجميعها أكبر منه حجمًا.. ولما عرف الأب سليل باشوات أبوقرقاص هوس ابنه بالموسيقى «اتخض».. واداله علقة ورا التانية.. ثم قرر أن يرسله إلى آخر بلاد المسلمين فى طنطا ليحفظ القرآن على يد الشيخ «الكردانى».. وهذا الرجل هو الذى علمه أن الصوت يستطيع أن يصل إلى السماء فى «الجواب».. فيما هو «صوت الأرض» فى القرار.. وامتلك عبدالعظيم فى سن مبكرة جدًا ذلك السر.. فقرر أن يكون مطربًا مهما كلفه ذلك من عقوبات بدأت بالطرد فى الشارع والمبيت فى غيطان الدرة.. ولم تنتهِ بإجباره على دراسة الحقوق.. وحرمانه من رغبته فى السفر إلى الخارج ليتعلم الموسيقى.

فرصة المجىء للقاهرة جعلته يقترب أكتر من عالم الملاهى.. حتى صار مطربًا خاصًا للملكة نازلى زوجة الملك فؤاد.. إلا أنه سرعان ما أدرك أنه لا يصلح كمطرب وأنه «صانع للنغمات» فذهب ليدرس الموسيقى وهو فى سن الأربعين.. ليتخرج بعد أربع سنوات فى سنة قيام الثورة ليكون أول رفقاء عبدالحليم شبانة فى تلك الدفعة التى خرجت من المعهد إلى مبنى الإذاعة.. ويعمل هو فى عدة وظائف حكومية لم ترضه فاستقال وتفرغ للتلحين، خاصة بعد النجاح الأسطورى لأغنيته مع رشدى «تحت الشجر».

لحن لـ«قنديل» أغنية «سحب رمشه».. وحقق نجاحًا كبيرًا مع الأبنودى
قبل أن يهجر عبدالعظيم عبدالحق عالم أسرته الغارقة فى السياسة.. كان عليه أن ينسى أن شقيقه الوزير هو الذى ألغى تراخيص محلات الدعارة فى مصر.. وأنه الوحيد الذى غنى له عبدالوهاب دعمًا له فى الانتخابات كنائب للوفد عن دائرة السيدة زينب.. لكنه لم يستطع أن ينسى أن عبدالوهاب نفسه «استخبى» فى قصرهم فى أبوقرقاص هربًا من مطاردة الملك فاروق بعدما علم بمحبته لليلى مراد.. فهدد بقطع رقبته.

ابتعد عظمة عن عالم السياسة وقطع الرقاب.. لكنه لم ينسَ أنه ابن عائلة محافظة تعرف جيًدا يعنى إيه عيب.
يحكى الرجل فى حوار تليفزيونى نادر: «والدى كان عنده ٨٤ سنة.. وأخوه أكبر منه بخمس سنين.. يعنى عنده ٨٩ سنة.. ورغم كده كان لما يشوفه معدى قدام الدوار يقف ويرمى السيجارة اللى فى إيده.. لأنه عيب».
ذلك الرجل الذى يعرف العيب جيدًا رفض أن يلحن أغنية «عدوية».. عشان عيب.. إنما عيب ليه؟.. هذا ما يسرده لنا الخال عبدالرحمن الأبنودى وهو يضحك: عبدالعظيم كان عنده بت شغالة وبتعمل لنا الشاى فمرة بسألها اسمك إيه.. قالت عدوية.. قلتلها والله اسمك حلو.. ينفع غنوة.. والله لاكتبلك غنوة.. طبعا ما عملتش كده ساعتها يعنى.. إنما لقيتها بتزن معايا بعدها بكام يوم.. واتكتبت الغنوة فجريت بيها عليه.. يلا يا عظمة لحن.. يبص للورق ويبصلى.. إيه.. فيه إيه.. فيرد مش عارف كل ماجى أبتدى ألاقى صورة البت قدامى.. سيبتها وسيبت الأغنية لشهور وعمنا عظمة مش عايز يلحنها لأنه من وجهة نظره «عيب».. المهم بحكى لبليغ.. قالى سمعنى الغنوة، قلت الكلام من هنا.. وده شبط فيها من هنا.. وبينا على بيت عظمة اللى لقيناه جاى.. ويا دوب شافنى قام حاطط إيده فى جيبه ومطلع الورق وراميهولى وهو بيقول خد يا عم غنوة الشغالات بتاعتك دى، أنا مش هلحنها.. ووفر علينا عظمة بقناعاته الاعتذار اللى بليغ كان عايز يقدمهوله.. وطلعت عدوية الغنوة بصوت رشدى وظلت عدوية الخادمة فى منزله يغنى لها العالم كله وهو لا يعرف أنها «اسم النبى حارسك.. اسمك إيه».

نجاح عظمة لم يقتصر على صوت رشدى.. بل تخطاه إلى صوت أكثر رشاقة هو محمد قنديل الذى لحن له «سحب رمشه» من كلمات عبدالفتاح مصطفى الذى شكل معه ثنائيًا مبدعًا لسنوات لم يقطع نجاح عظمة مع الأبنودى أو غيره من شعراء تلك المرحلة أو التى سبقتها مثل بيرم التونسى أو فتحى قورة.
 ومع عبدالفتاح مصطفى وقنديل قدم عظمة واحدة من نوادره «ألفين صلاة عليك يا نبى»..
 ومع حورية حسن تلك الأعجوبة «راصة القلل».. وهى عبارة عن مشهد مصرى خالص لشاعر يخترع التفاصيل الصغيرة.. ولا ينقلها فقط:
«راصة القلل على شكمتى البحرية
لاعبت ضفايرى نسمة العصرية
راصة القلل والعطر فوقها مندى
وأنا لابسة فستانى الجديد الوردى
وعينى ع الرايح وع اللى معدى
وابعت سلامى لكل جارة شوية».

ومع قنديل.. يعود عظمة ليقدم أكثر من ٢٠ لحنًا ما بين الدينى والإنسانى والوطنى أيضًا ومن أشهرها: هنبنى السد، حل السواقى، يا مصراوية، هدى الخطاوى، سلام أمانة، سافروا الحبايب، حلوانى.. وأيضًا مع عبدالفتاح مصطفى يغنى للوحدة مع سوريا فى واحدة من أندر أغانى تلك المرحلة:
«يا مصرى يا سورى إملا الدنيا نور
قوم شمس العروبة.. عادت للظهور
حاضرنا وماضينا..
تمحى اللى يعادينا..
النور فى قلوبنا
وفى قلوبهم ضلام..
شعب وأمة واحدة
دايمًا للأمام».

آمن بمبادئ ثورة 23 يوليو رغم أصوله الإقطاعية
فى واحدة من أغرب أغنياته لثلاثى النغم.. وهم ثلاثة أصوات شبابية لا علاقة لهم بالثلاثى المرح.. ستكتشف مبكرًا أنه صاحب رؤية تعبيرية استمدها من سيد درويش الذى قابله وهو طفل فى الحادية عشرة من عمره وأسمعه كل ما يحفظه من أغنياته.. فى هذه الأغنية التى كتبها عبدالرحيم منصور يصور عمنا عظمة حركة «النحل» فى القفز إلى القرص إلى الطيران بالنغمات. اسمعوها كده:
«يا نحل يا بو العسل
طيْر بالغُنا والأمل
الشمس طلعت عليك
افرد جناح العمل
زيدْ فى الأغانى وطنْ
واوعى يا نحل توِن
من زهرة عدّى لزهرة
ومن شرابك حِنْ
ده الفجر فى طلعتك
والزهر فى سكتك
والشهد فى غنوتك
يا نحل يا بو العسل».

وهذه الأغنية كانت واحدة من مئات الأغانى التى خرجت أيام يوليو تدعو المصريين للعمل وأشهرها تلك الأغنية الممنوعة بلا أسباب واضحة منذ سنوات «هنبنى السد» وتلك التى كتبها فكهانى الأغنية المصرية مرسى جميل عزيز ومن غناء «المجموعة».
«هنبنى السد..
آدى يوم الجد.. هنبنى السد
وجد لجد.. هنبنى السد
بكنالنا ومالنا ده مش مال حد
هنبنى السد».
وقد يستغرب البعض أن يؤمن رجل مثل «عَظمة» من أسرة إقطاعية بمبادئ ثورة ٢٣ يوليو.. لكن هذه الغرابة ستزول عندما نعرف أن الإقطاع فى الصعيد لم يأخذ نفس سمات الدلتا.. ولم تحدث تلك المعاملات التى كنا نشاهدها فى الأفلام من كبار الأعيان للأجراء.. وهذا هو سر بقاء معظم عائلات الصعيد الكبرى فى أماكنها حتى هذه اللحظة. ولعدم اهتمام «عظمة» بالحياة فى كنف الملوك والأحرار لم يكن الأمر صعبًا عليه.. هو أقرب إلى تربية المشايخ لا الأعيان وكبار الإقطاعيين.. أليس هو التلميذ الأنجب للشيخ زكريا أحمد والشيخ محمود صبح؟.
وأعتقد أن ذلك هو الذى ساعده فى أن يكون من القلائل الذين لحنوا لسيد مكاوى فى بداياتهم من كلمات على سليمان:
«محمد نبينا سراجْ الأنام
شفيع البرايا فى يوم الزحام
رسول السلامة.. نبى الإنسانية
عليه الصلاة.. وأزكى السلام».

كارم محمود غنَّى «الصيادين» من ألحانه
معظم المطربين الذين نسميهم «شعبيين» غنوا من ألحان «عظمة».. وكان أولهم كارم محمود فى أول ألحانه «الصيادين»، وبالمناسبة كتب الأغنية مأمون الشناوى.. وغنى له إضافة إلى قنديل ورشدى، محرم فؤاد وسيد إسماعيل وسعاد محمد التى غنت له «فيه نار قوية» من كلمات الأبنودى و«يا مسهر عيونى» من كلمات فتحى قورة.
 و«بقى انت كده» من كلمات عبدالمنعم السباعى، ومن كلمات الأبنودى أيضًا «زغروطة».
«زيدوا الفرح ليلة
هنعمل هُلّيلة
ده فرح أخويا
زينة العيلة..
زيدوا الفرح أنا قلبى بيغنى
للغالية والغالى وللأحباب
مين كان يقول ع السعد مستنى
وانت لهنا جيته ف دقة باب
زغروطة..
زغروطة ويايا لسبع زغاريت
زغروطة تفرش.. فرحنا ع البيت».
وربما كانت هذه الأغنية من نوادر الأبنودى أيضًا:
«منديل فى لون الطرحة والفستان
كتبوا الكتاب والإيد بتحضن إيد
الشمعْ قاد.. قادت قلوبنا كمان
دى خطوتك فى بيتنا أجمل عيد».

ولن أحدثكم قطعًا عن صوت «سعاد محمد» وماذا فعل به هذا الصعيدى المخبوز فى فرن الموسيقى الشرقية.
هذه القدرة على التعامل مع الأصوات ذات القدرات الخاصة مثل سعاد محمد هى التى مكنت عبدالعظيم عبدالحق من القفز بسهولة إلى حنجرة محمد عبدالمطلب وعائشة حسن.. وبالمرة عباس البليدى الذى غنى له من كلمات على السوهاجى:
«ورد الأحبة..
حبة حبة.. يزيد جُماله
وللمحبة والأحبة وغنيناله».
ذلك الدويتو الذى صنعه الرجل فى أوائل الخمسينيات لعائشة حسن والبليدى.. لم يكن مجرد صدفة.. ولم يكن تجربة وعدت.. فعظمة هو أول ملحن مصرى يخترع مقدمة المسلسلات أو ما عرفناه فيما بعد باسم التترات.. وذلك بعد سنوات قليلة من إطلاق التليفزيون بثلاثية الهارب والضحية.. والساقية.

اعتزل الموسيقى عام ١٩٧٣ بسبب رفض «الإذاعة والتليفزيون» لحنًا له عن ملحمة أكتوبر
فى الوقت الذى كان يختبئ فيه عمنا عبدالعظيم عبدالحق فى مخازن فرقة على الكسار هربًا من أسرته التى لا تريد عمله فى الفن.. كان شقيقه الأكبر عبدالحميد نقيب المحامين وقتها يمشى فى الشارع يفكر فى طريقة لمساعدة كل هؤلاء الأطفال الحفاة.. فكان مشروع «القرش» الذى تحول إلى «القرض الحسن» ثم إلى «مشروع معونة الشتاء».
هذا النقيب الذى أصبح وزيرًا لثلاث حقائب هى «التموين والأوقاف والشئون الاجتماعية» لم يكن قاسيًا على عظمة مثل بقية أسرته التى خافت عليه.. فكان يسمعه يعزف بمفرده.. بل هو من جاء له ببعض الذين ساعدوه فى الانضمام لفرق التمثيل.. ولم يكن يعرف الرجل الذى أنشأ مدينة المهندسين أن شقيقه «الممسوس بالفن» سيشارك فى عشرات الأفلام أشهرها: أرض النفاق، خان الخليلى، السمان والخريف، المومياء، الرسالة، الأراجوز، سيد البلطى الذى أخرجه توفيق صالح.. والدرجة الثالثة مع سعاد حسنى أيضًا.. وفى التليفزيون الذى قدم من خلاله خمسمائة حلقة لمسلسل «عادات وتقاليد» كما قدم العديد من الأدوار أشهرها «الشهد والدموع» و«ليالى الحلمية» الذى قام فيه بدور العطار والد «إصلاح» التى أدت دورها ماجدة زكى.
«عَظمة».. عبدالعظيم عبدالحق.. سلسال الشجن.. لم يحصل على حقه.. ولم يغضب.. لكن الأغرب أن لجنة ما فى مبنى ماسبيرو عام ١٩٧٣ رفضت له لحنًا جاء به للمشاركة فى ملحمة أكتوبر.. فقرر الصعيدى العنيد اعتزال الموسيقى حتى رحل.. لكن الموسيقى قطعًا لن تستطيع أن تفعل.. ولا عزاء للأغبياء.. الموتى منهم.. والأحياء.