رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

باتريك باز: "صوّرت الموت كثيرًا.. حان الآن لأصوّر الحياة" (المصوّراتي - 15)

طفلة تمر بين دبابات
طفلة تمر بين دبابات الاحتلال الإسرائيلي في غزة خلال الانتفاض

«طوال 30 عامًا، سرت فى طرق الحروب حاملًا عدستى، ومسجلًا من خلالها مشاهد سفك الدماء التى مزّقت وطنى لبنان، نجوت وكاميرتى من جحيم النار فى كل جولة جديدة من الوحشية، التقطت عشرات الآلاف من الصور خلال عقود ثلاثة، لكن الشعور بالرضا مهنيًا كان دائمًا ممزوجًا بالإحباط الشخصى».. بهذه الكلمات صدّر المصوّر الفرنسى من أصل لبنانى باتريك باز أحد كتبه عن رحلته الطويلة مع الكاميرا، التى لازمته قرابة ٣٠ عامًا.

ولد «باز»، مصوّر الوكالة الفرنسية للأنباء فى بيروت ١٩٦٣، وكان فى الثانية عشرة من عمره حين اشتعلت الحرب اللبنانية، فأُجبر على النضوج تحت دوى القذائف، نظرًا لمعيشته على الشريط الحدودى الذى يفصل بين الأحياء المسيحية والمسلمة: «أثناء الحرب الأهلية ١٩٧٥ كنت بلعب فى شوارع بيروت، وألم الخرطوش مع صديق لى».

فى ذلك الوقت، كانت معه كاميرا قديمة «كونتافلكس موديل 1963»، فبدأ فى التقاط صور لأصدقائه على خط التماس، وخطوة بخطوة فتنه مصورو حرب فيتنام كتيم بيج وكاترين لوروا وفرانسواز ديمولدر.
يتذكّر «باتريك» موقف أسرته من التصوير: «الأهل فى أول الأمر ظنوا أن عشقى للكاميرا مجرد مَرح يزول مع الوقت، لكن استمر الأمر طويلًا معى، لأجد الدعم والمساندة من والدتى ووالدى الذى كان يعمل فى شركة الطيران الفرنسية ببيروت، وكنت أقضى طفولتى معه».

كانت أمنيته أن يصبح مهندس طيران، لكن الكاميرا أخذته من حلمه، ليشارك فى تغطية انفجار بباريس لمجلة «الوطن العربى» العراقية، وهو أول موضوع له، ليأتى الاجتياح الإسرائيلى لبيروت فى عام ١٩٨٢ ويغطيه لمجلة «الأسبوع العربى» اللبنانية.

عمل باتريك مراسلًا مستقلًا لـ«رويترز» و«جى بى بى سى» و«تايم»، و«نيوزويك» و«باريس ماتش»، قبل أن تستعين به وكالة الأنباء الفرنسية فى ١٩٨٩، بجانب جميع النزاعات والأزمات الرئيسية فى الشرق الأوسط، كتغطية الحرب فى البوسنة والصومال وأفغانستان.

غادر المصور اللبنانى بيروت، بعد انتهاء أزمة رهائن الحرب الأهلية، متوجهًا إلى باريس، وهناك فوجئ باتصال من AFP، أبلغوه خلاله بأن مهمته انتهت هناك وعليه التوجه إلى مكتب القدس لتغطية الانتفاضة الفلسطينية، إضافة إلى تغطية حرب الخليج ١٩٩٠ والصومال وجحيم سراييفو ١٩٩٣.

مصوّرو الحروب هم الشهود على لحظات فارقة بين الموت والحياة، وعدسة المصور وثقت تفاصيل لا تتكرر تظل شاهدة على قسوة الحروب والصراعات، لكنها أحيانًا تصوّر الأمل رغم الألم، يقول «باز»: «تحت كومة من الركام والرماد اكتشف مسعف الصليب الأحمر اللبنانى نبيل بيطار الرضيعة جويس جرمانوس فى ٢٢ مايو ١٩٨٥ وعائلتها ضحايا انفجار مروع فقدت جويس شقيقيها وعمتها وجدتها».

وثق «باتريك» تلك اللحظة قبل أن تُنقل الطفلة إلى المستشفى مجهولة الهوية، العلامة الوحيدة الفارقة كانت بيجامتها الزهرية اللون، بواسطتها استرجعتها عائلتها التى أصبحت اليوم عروسًا فى الحادية والعشرين من عمرها، حرص «باتريك» والمسعف على حضور حفل زفافها فى 2006.

يبحث باتريك باز، الفائز بثلاث جوائز من «جوائز بووى»، عن الحروب فى بلدان العالم ليوثقها للتاريخ، فعلى مدى ٣٠ عامًا غطى ١٥ حربًا فى لبنان وحرب الخليج وأفغانستان وسراييفو والعراق والبوسنة والصومال وتحرير الكويت وليبيا وفلسطين.

استطاع «باز» أن يوضح للعالم بشاعة الاحتلال من خلال رصد لحظة استشهاد الطفل محمد الدرة، إبان إشرافه على التليفزيون الفرنسى فى القدس، وهى اللحظة التى جابت العالم وكشفت عن مجازر إسرائيل فى الأراضى المحتلة.

يضحك باتريك عندما يتذكّر تغطيته لثورة ٢٥ يناير: «تعرّضت حياتى للخطر فى مصر إبان ثورة 2011، فأبناء مبارك كادوا يفتكون بى عندما شكّوا فىّ وقالوا إننى أمريكى أو من حزب الله وباعته حسن نصرالله، لكن عدى الأمر على خير ونجحنا فى تغطية أحداث الثورة بشكل متميز».

كان باز يرى ابنته أمام عينيه أثناء تغطيته الأحداث: «دائمًا أصوّر الحياة فى الحرب، وعندى بنت كانت تركب معى مرة السيارة وعندما سمعت الراديو يؤكد احتدام المعارك فى العراق ترجتنى ألا أذهب وأظل معها ووعدتها، إلا أن أنانيتى وحبى للكاميرا أخذانى منها، لأعود إلى ياسمين مجددًا بعد 30 عامًا كنت فيها على خط التماس أواجه وأصوّر الموت».

فى 2009، رصد المصوّر اللبنانى كثيرًا من اللقطات بالعراق فى كتابه «لا تلتقط صورتى.. العراقيون لا يبكون» عاكسًا من خلاله الواقع المؤلم والمرير منذ الاجتياح الأمريكى فى 2003، متمنيًا أن يكون أفلاطون على خطأ عندما قال: «وحدهم الموتى شهدوا نهاية الحرب»، أمّا الآن فهو متفرّغ للحياة، بعد أن ترك التصوير الحربي في 2014، مع أسرته بعد أن رصد الموت على مدى 3 عقود كاملة.