رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حفيد "الحكيم" يكشف حقيقة الأيقونات.. سرقوا أوسمته ولم يمنحوه معاش قلادة النيل

صورة من الحوار
صورة من الحوار

"العصا والحمار والبيريه" أيقونات شغلت جانبًا في حياة توفيق الحكيم وأدبه، ثم باتت جزءً من تراثه الفكري، وربما لولا وجود حفيده إسماعيل نبيل لاختفت العصا وطار البيريه- كما اختفت قلادتي النيل والجمهورية في ظروف غامضة- لكن الحفيد خصص ركنًا في بيته بمثابة متحف للآثار المادية لجده، ومنها بعض متعلقاته وملابسه، وصوره النادرة مع الأدباء والفنانين.

وحينما ذهبت "الدستور" للبحث في أيقونات الحكيم، وقف الحفيد يتذكر مآثر الجد، ويكشف أيضًا حقيقة الصفات التي عُرف بها كالبخل وعداوة المرأة، فضلًا عن ذكريات أخرى كسرقة تراثه واختفاء أوسمته.

- حفيد الحكيم: ثلاث عصى في دولاب جدي
في البداية يوضح إسماعيل نبيل رمزية تلك الأيقونات في أدب جده؛ يقول: "العصا" كانت دائمًا ترمز في أدبه إلى السلطة، والبيريه يرمز إلى الحكمة، والحمار يرمز إلى الشعب الكادح، ومن هنا جاء ارتباطه بالأيقونات الثلاثة، ثم استخدم هذه الأيقونات في حياته حتى اشتهر بها بعد ذلك، فمثلا استخدم العصا لأنه أراد أن يبدو وقورا وأكبر سنا كوكيل للنيابة، ولم تكن تلك بالطبع هي العصا الوحيدة التي استخدمها، فقد استخدم عصى أخرى خلال حياته، وكان في دولابه 3 عصى حين توفى، غير الكثير من العصى الأخرى، فالفكرة في الرمزية وليس في العصا نفسها.
ويضيف "إسماعيل": حكى جدي قصته مع عصاه في كتابه "عصا الحكيم" وتخليدًا لها أسماها "ابنه من الخشب"، فقال: "تلك هي عصا عرفتها أو قل حملتها منذ كنت وكيلا للنيابة في مدينه طنطا.. منذ ذلك التاريخ تلازمني كأنها جزء من ذراع.. تنتقل معي وتسير من مصير إلى مصير.. لا أبتغي بها بديلًا.. ولو كان من الذهب الإبريز.. هذه العصا البسيطة من الخشب الأبيض الزهيد.. لقد هرمت واعتلت.. ونخر فيها الداء.. ولكني أتناولها بالعلاج والخوف على حياتها يخلع قلبي.. حتى كثرت في جسدها المسامير.. إنها يجب أن تعيش.. لأني لا أستطيع أن أتصور يدي بدون يدها.. تلك التي عاشت معي خير سنوات العمر".
ويعلق "إسماعيل": هكذا أنصف "الحكيم" عصاه بل إنه صمت لتتكلم هي على لسانه في كتابه "عصا الحكيم"، ويضيف: أما "البيريه" فقد كان يشترى واحدًا، كلما سافر إلى فرنسا، ويفضل نوعا معينا، وأيضًا الكرافتة التي كان يشتريها مربوطة، وكان يرتدي البيريه خارج وداخل البيت، وفي أواخر أيامه كان يرتدي الطاقية البيضاء.


- سرقوا أوسمة جدي.. ولا كرامة لـ"الحكيم" في وطنه
يؤكد "إسماعيل" أنه سعى في أمر تخصيص متحف لأثار جده لكن لا حياة لمن تناديي؛ يقول: منذ توليت حقوق التأليف والنشر لتوفيق الحكيم أي من حوالي عشرين سنة، كلمت وزراء الثقافة واتحاد الكتاب، ولا أنكر أن الفضل يرجع للأستاذ محمد سلماوي في محاولته لتحقيق هذا الأمر، وللأسف لم يتحقق شيء، في الوقت الذي تعرض فيه مسرحيات توفيق الحكيم وتترجم في العالم كله، وقد عرضت مسرحية "السلطان الحائر" على المسرح الملكي في ستوكهولم بالسويد، بشكل غير مسبوق؛ لمدة سنة تقريبًا، وهذا مخالف لما اعتادوا عليه من عرض المسرحيات لمدة أسبوع أو اثنين أو شهر على الأكثر، فلا توجد جامعة في العالم تدرس أدب الشرق دون أن يكون ضمن دراستها مسرحية لتوفيق الحكيم، وفي 2008 كرمت جامعة مدريد بإسبانيا اسمه، وجلس معنا في الاحتفالية عميد كلية الآداب بالجامعة، وأخبرنا أنه حاصل على "دكتوراه في أدب الحكيم"، وقيل لنا إن تراث جدي صار تراثا إنسانيًا وليس ملكا لنا نحن المصريين وحسب، يحدث ذلك بينما لم يذكر الإعلام شيئا عنه، ومجمل القول إنه "لا كرامة لنبي في وطنه".
ويكشف مسألة سرقة أغلب مقتنيات الحكيم قائلًا: مثلًا أكبر قلادتين حصل عليهما توفيق الحكيم هما "قلادة النيل"، وكان أول من حصل عليها خارج الإطار المعد لها في البداية، و"قلادة الجمهورية"، وقد اختفت القلادتان في ظروف غامضة، وحتى إن اختفيتا فهناك معاش استثنائي لمن يحصل على القلادة، ولكن بالطبع لن نطالب به، ونحن نعيش بخيره حتى الآن من كتبه التي تنشر ومسرحياته التي تعرض في الخارج، ولكني حسبما أتذكر أمرًا بشأن القلادتين، أنه مرض في أوائل الثمانينيات، وترك المنزل حينها إلى المستشفى، ويقال إن هناك من جاءوا لتوضيب البيت وعمل نقاشة له، وعندما عاد لم يجدهما، وهذه تعد إحدى الروايات التي سمعتها، لكنها غير موثقة، وعمومًا تم نهب مقتنيات الحكيم سواء بحسن أو سوء نية.


- الدراما في حياة الحكيم.. ابنته "زينب" عكازه وسنده
يروي "إسماعيل" أن الدراما في حياة الحكيم كثيرة، منها ما هو معروف كعلاقته بابنه "إسماعيل" الذي ورث من الحكيم فنه، ولكن هذا الفن برز في الموسيقى، وتوفي عن عمر يناهز الثلاثين عامًا، فكانت صدمة للجميع بمن فيهم توفيق الحكيم، وبقيت أمي "زينب الحكيم" مع جدي ترعاه حتى آخر أيامه؛ تتركنا مع والدنا لترعاه وتهتم به، وتمكث معه في المستشفيات، كان شغلها الشاغل، وعكازه وسنده، وكان هو أيضًا سندها الذي تستمد منه قوتها.
ويضيف: أما الأمور غير المعروفة، فقد كان سعيدًا بصفة عدو المرأة، وظل غير متزوج حتى سن الخمسين؛ حين تزوج جدتي "سيادات"، وهذه القصة لها دراما وكوميديا، ففي البداية فرض عليها ألا تخرج معه ولا يظهر معها، لكنها كانت ترافقه في أسفاره لباريس ولندن وغيرها، ولكن في وقت متأخر وليس في بداية زواجهما، حيث كان أقصى طموحها أن يأخذها إلى جروبي، وظل زواجه سرًا غير منتشر، لأنه كان يمارس حياته بصورة طبيعية مع أصدقائه الكتاب والأدباء في صحيفة "أخبار اليوم"، حتى وصل خبر الزواج لمصطفى أمين؛ وقد ذكر "أمين" في كتابه "أسماء لا تموت" كيف اعترف "الحكيم بالزواج من سيدة مطلقة ولها ابنتان، وأن الزواج كان زواج عقل، الغرض الأول منه تأسيس بيت يصلح لحياة فنان.

ويستطرد "إسماعيل": وأعتقد أن مسألة كونه "عدو المرأة" كان مجرد تعبيرًا مجازيًا يقال عنه، أي أنها لازمة أدبية، وكان أيضًا لا يريد الإنجاب، لكن القدر لعب لعبته وأنجب خالي إسماعيل وأمي زينب، وأذكر أن أحد أسباب عدم رغبته في الإنجاب هو أن زوجته لديها بنتان من الزيجة الأولى، وكان لديه شعورا بأنهما أولاده بالفعل، وعلاقته بابنه إسماعيل لم تكن قوية، فكل منهما كان مشغولًا بفنه، ولكن عندما مات إسماعيل في هذا السن الصغير، بدأ الحكيم يشعر بأبوته وبنوة إسماعيل، وشعر بالتقصير في حقه، وبدأ يدخل في مرحلة من الاكتئاب، وبدأ يناجيه، فتبقت له زينب ولم تكن تعمل فكان شغلها الشاغل والدها، فكانت عكازه وسنده.
ويتابع: نعم قال الحكيم "أكره البرلمان والنساء لأن كلاهما ثرثار"، لكن حين التعمق في كتاباته إلى جانب معرفته الشخصية، نجد العكس، نجده محبًا للمرأة وفاهمًا لها، ويداعبها في مباريات ذهنية، وأعتقد أنه كان يجد لذة في هذا الأمر، فحبه للمرأة تمثل في حبه لوالدته ثم زوجته، مرورًا بابنته، وسوزي التي أحبها في باريس.
ويوضح "إسماعيل" أن الأمر نفسه ينطبق على مقولة "الحكيم بخيلا" فقد كانت مجرد دعابات، وهي "لزمة" أحبها وبدأ ينميها في مواقف مضحكة، لكنه في الواقع كان شخصا طبيعيًا، وليس بخيلا أبدًا، فمثلًا عندما كنت أشتري أدويته من صيدلية في جاردن سيتي تسمى "صيدلية الحكيم" وهي مجرد تسمية وليست ملكنا، كان يعطيني جنيهًا، وفي العيد الصغير عشر جنيهات، وفي العيد الكبير عشرون جنيهًا، ولا يوجد شيئًا نحبه إلا ويشتريه لنا، وفي النهاية طوع الحكيم هذه "اللزمات" في كتبه وأدبه.


- دور "سيادات" أكبر من دور "منصورة".. والألم العظيم يخلق الإنسان العظيم
وحول مؤلفات الحكيم، يقول "إسماعيل": "أعتبر أن نصف أدبه لم يكتشف حتى الآن، وهناك الكثير من أعماله لم تأخذ حقها مثل "مسرح المجتمع" و"مسرح الممنوع". ويضيف: لم يكن لدى "الحكيم" مؤلفا مفضلا عن الآخر، وأعتقد أنه كان سيكتب "أرني الله" أو "حوار مع الله" سواء مات ابنه إسماعيل أو لم يمت، لأن هذه مناجاة عبد إلى ربه، عبد مفكر فيلسوف يهيم في ملكوت الرحمن، ولكن تلاحقت الأمور وصار يكلم إسماعيل ويجري حوارات معه ويناجيه متأثرًا تأثرًا نفسيًا، فأمثال جدي حين يمرون بأوقات عصيبة ومحن يبدعون أكثر، وقد قال الحكيم "الألم العظيم يخلق الإنسان العظيم".
ويستدرك "إسماعيل": لكن لا شك أن ابنه ومن قبلها وفاة زوجته "سيادات" قد أثرت فيه كثيرًا لاسيما أنها الوحيدة التي فهمته واستطاعت التعامل معه وفصله عن الحياة المادية وأمورها الصغيرة، ووفرت له بيئة ومناخ مناسب لإبداعه، وقلما يذكر أحد دورها، فالناس يذكرون خادمته "منصورة"، لكنهم لا يشيرون كثيرًا إلى دور زوجته.
وأكد "إسماعيل" أن الحكيم لم يكن لديه صديق واحد مقرب، فكل الناس أصدقائه، ومنهم نجيب محفوظ وثروت أباظة ومحمد عبد الوهاب ويوسف إدريس، وكان في نفس الوقت يعتبر معلما لهم، وكان أيضًا لا يشعر أحدًا بالتفرقة، لذلك أحبه الجميع وكانوا يشتاقون إلى جلساته سواء في الإسكندرية في قهوة بترو، أو في حي الحسين مع نجيب محفوظ حين يجلس مع شلة الحرافيش، وكانت هناك لغة راقية تدور بين أفكارهم وفلسفاتهم.


- الأطفال في بيت الحكيم فكرة مرعبة.. عفاريت وهكسوس
وحول فكرة وجود أطفال في بيت "الحكيم"، يقول "إسماعيل": "حين أتينا لنعيش معه كانت فكرة مخيفة، بل مرعبة بالنسبة له، وكنت في ذلك الوقت آراه الجد النمطي، ذلك الرجل الكبير ذو الشعر الأبيض صاحب العصا الذي يلعب معنا، ولم نكن نفهم قيمته، كل ما نعلمه أنه مشهور، ولكننا كأطفال نعامله كجد ليس أكثر، وكنا كلما جئنا يقول "الهكسوس جم، الهكسوس رجعوا"، لأننا نغزو عالمه ولكن بدأت والدتي تفهمنا، وبدأ جدي ينفتح علينا قليلًا، ويخرج من صومعته، ويوقظنا من النوم للمدرسة لأنه كان يستيقظ باكرًا، وأول كتاب أعطاه لي كان اسمه "تعليم النشء"، وبه مجموعة مهارات كالكشافة، وحاول تنمية مواهبي، فكنت أحب كرة القدم، والكاراتيه وأحب بروسلي، لكنه اعترض على الكاراتيه باعتباره لعبة عنيفة، وعنف غير مبرر، مع أنه اتضح فيا بعد أن بروسلي شخصية فلسفية عميقة جدًا، فتلك المهارات القتالية كانوا يؤدونها بعمق فلسفي صيني متأملين الحياة والطبيعة".
ويضيف "إسماعيل": كنا عندما نحدث جلبة، يعلو صوته علينا قائلًا "أنت يا ولد يا عكروت بس"، وفي واقعة شهيرة ذهبت إليه في زيارة مع والدتي قبل أن نقيم معه، وأردت أن أريه حركة من حركات الكاراتيه التي تعلمتها، فعملت بيان لتلك الحركة فدفعته فأوقعته، فترتب على ذلك أن انخلع ذراعه.


- حكاية الحكيم مع حكام مصر
ويؤكد الحفيد أن حياة جده زاخرة بما فيها من مواقف أدبية وسياسية توضح أنه كاتب وفيلسوف حر لا يرتبط بعصر أو حاكم ولا يحسب على نظام حكم معين، يقول: إذا بدأنا بالعهد الملكي نجد أن الملك أعطى جدي الباكوية ثم سحبها منه، أما الرئيس عبد الناصر فقد أحبه في البداية وكرمه، وبعث إليه بنسخة من كتاب فلسفة الثورة، قائلًا: "إلى باعث روح الثورة"، فقد أيد "الحكيم" الثورة في البداية رغم أن عائلته من الإقطاعيين والباشوات الذين تم تأميم أراضيهم، ثم وقف ضد الثورة حين بدأت تحيد عن مبادئها، فكتب "السلطان الحائر" و"عودة الوعي".
أما عن علاقة الحكيم بالسادات، فيقول "إسماعيل": لقد بدأت بمعركة، ثم انتهت بحب وسلام، أما مبارك، رغم أنه لم يشهد من عهده سوى 5 أو 6 سنوات، إلا أنه لم يأمل فيه خيرًا، وكان يقول: "دا طيار شايف الأمور كلها من فوق"، وكان معروفًا على الجهة الأخرى أن مبارك لم يكن يحب الأدباء والمثقفين، وما فعله حين مات جدي هو أن أقام له جنازة عسكرية لم يحضرها لأنه كان في أفريقيا بذلك الوقت.
وعن ما يحدث الآن في مصر، يقول "إسماعيل": "أشعر بالتفاؤل، فلم أشهد في حياتي تحركًا للإدارة المصرية بمثل هذه الطريقة الصحيحة كما أشهده الآن؛ حيث وجود خطة اقتصادية واضحة، وخطط لمحاربة الفساد، وهذا ينبئ بمستقبل جيد لمصر التي تستحق مستقبلًا مشرقًا".


- رسالة إلى جدي
يقول "إسماعيل": لو وجهت رسالة لجدي توفيق الحكيم سأقول له فيها "إنني أفتخر أنني حفيدك، وأعتقد أنك حتى الآن لم تأخذ حقك كما يجب في بلدك، لكن العالم حتى الآن يستوعب أدبك وفلسفتك، لأن الزمن لن يجود بمثلها الآن، وأفتخر بكل مواقفك خلال حياتك، وأنك لم تدنس نفسك بالشللية والنفاق، ولم تكتب إلا ما أملاه عليك ضميرك"، وأعتقد أن عصرنا هذا لا يمكن أن يجود بأمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.