رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عزيز عثمان.. شهيد فرجينيا


بالمختصر المفيد.. نُص أبناء جيلى فى فترة الشباب أحبوا تحية كاريوكا.. وشاهدوا فيلمها «شباب امرأة» مئات المرات.. ونصفهم تقريبًا يحقدون على شكرى سرحان.. ‏وهم يتمنون من داخلهم أن يكونوا فى مكانه فى نفس الفيلم.. ولأننى لم أكتف بذلك.. رحت أبحث عن كل أفلام تحية كاريوكا عندما أصبح عندى فيديو.‏

لم أعرف جهاز الفيديو كاسيت فى قريتى.. أو المدينة الأولى التى عشت بها.. لكننى أدمنته عندما جئت إلى القاهرة.. واشتريت أول جهاز من قريب لى عاد به من ‏الخارج.. وأصبحت مهمة شراء الأفلام من شارع الشواربى عادة شبه يومية.. وحينما استقر بى الحال فى شقة بسيطة فى بولاق الدكرور.. أكرمنى الله بمحل تأجير ‏شرايط فيديو أسفل منزلى.. كل يوم يعطينى ثلاثة أفلام.. واحد أجنبى واتنين عربى، أحدهما من الأبيض والأسود.. وغالبًا ما تكون بطلته تحية كاريوكا.‏

عشرات المرات شاهدت فيها فيلم «لعبة الست».. ولم يلفت «بلاليكا» نظرى.. ولم أضحك مثل أصدقائى على سخرية أغنيته الأشهر «الغراب يا وقعة سودة جوزوه أحلى ‏يمامة».. كنت مشغولًا بفكرة ذلك العاشق الذى يبكى بدموعه من أجل امرأة جعلته لعبتها.. بل يزيد الطين بلة بأن ينتحر من أجلها.‏

لكننى وبعد سنوات طويلة جدًا.. اكتشفت أن بلاليكا هذا كان يسخر من العريس الذى «جوزوه أحلى يمامة».. هوه شخصيًا بملامحه هذه وفى سنه هذه.. زوجوه من أجمل ‏جميلات السينما المصرية فى تاريخها كله الملقبة بفرجينيا السينما.. فى إشارة إلى دورها فى «الناصر صلاح الدين».. والأهم أنه صاحب واحدة من أجمل وأعذب ‏الأغنيات الشعبية فى تاريخنا الحديث «تحت الشباك ولمحتك يا جدع».‏


نجيب الريحانى رشحه لدور «بلاليكا» فى فيلم مع تحية كاريوكا
اسمه عزيز محمد عثمان.. وقبل أن تسرح مثلى.. أجيبك بأنه هو نفسه ابن رائد التلحين فى مصر الحديثة محمد أفندى عثمان.. فحسب كل أساتذة الموسيقى فى بلادنا.. هناك ثلاثة من الأسماء ‏الكبيرة كان لها الفضل فى وضع قواعد الموسيقى المصرية فى شكلها الحديث فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هم عبده الحامولى ومحمد المسلوب ومحمد عثمان.. وهو صاحب ‏الأدوار الشهيرة.. «قد ما أحبك زعلان منك.. وعشنا وشفنا.. وملا الكاسات.. وأيضًا «كيد العواذل».‏

ومما ينسبه النقاد لمحمد عثمان أنه أول من أدخل «الكورس» فى الأغنية المصرية.. كما أنه صاحب ما يعرف بالهنك والرنك فى الغناء، ومعناه ببساطة ذلك الحوار المسلطن الذى يحدث بين ‏المطرب والكورال.. وورث الابن عزيز من والده قدراته الصوتية الهائلة.. وحلم بأن يصبح مثله.. لكن ذلك لم يحدث.. رغم إصراره على أن يسلك كل الدروب التى تمكنه من ذلك.. فراح يقدم ‏مجموعة من الأغنيات الفردية ظنًا منه أنه سينافس عبدالوهاب.. لكن الجماهير والنقاد كانوا له بالمرصاد، لدرجة أن الإذاعة المصرية أجرت استفتاء حول صوته عام ١٩٣٥ وكانت النتيجة فادحة ‏على طريقة السخرية من الأصوات فى برامج المواهب حاليًا.. بل وصل الأمر إلى أن طرحت مجلة «البعكوكة» فى السنة ذاتها مسابقة للراغبين فى السخرية من صوته.. فماذا يفعل الرجل؟.‏
هرب عزيز عثمان من الإذاعة وانتقادات الصحافة إلى عالم الملاهى وبالتحديد إلى ملهى بديعة، وهناك التقى زوجها نجيب الريحانى الذى أعجبته طريقته فى الغناء فرشحه للمشاركة فى فيلمه مع ‏تحية كاريوكا مؤديًا دور «بلاليكا» الذى كان وش السعد عليه.‏

حاول الغناء على طريقة عبدالوهاب لكنه فشل فعاد إلى التمثيل
قبل أن يكتب بديع خيرى رفيق رحلة سيد درويش وصاحب أغنيات الحرفيين الشهيرة.. هز الهلال يا سيد.. واقرا يا سى قفاعه.. وشد الحزام.. كان قد أصبح واحدًا من أشهر أسطوات الكتابة ‏للسينما.. لدرجة أنه كتب فى العام نفسه سيناريو وحوار ١٣ فيلمًا أى بمعدل فيلم كل شهر.. وعندما كتب سيناريو «لعبة الست».. كان من البديهى أن يكتب أغنياته ومن بينها الأغنية الساخرة «بطلوا ‏ده واسمعوا ده».. وأيضًا «تحت الشباك ولمحتك يا جدع».. وكلتاهما لحنهما محمود الشريف الذى تميز بتلحين الأغنيات الشعبية لكارم محمود وعبدالغنى السيد ومحمد عبدالمطلب.. وغيرهم.. ورغم ‏شعبية موسيقى الشريف إلا أن عشقه لمقام «نهاوند» جعل من أغنية مثل «تحت الشباك» نوعًا مدهشًا من الموسيقى الشعبية الشيك.. لذلك لا تستغرب أن يعيد غناءها عشرات المطربين من أجيال ‏مختلفة.. فقد غنتها فاطمة سرحان وأضافت إليها موالًا تمهيدًا كعادة مطربى الموالد.. وغنتها عزة بلبع عندما ظهر الفيديو كليب واستضافت الممثل المنتصر بالله ليكون شريكًا لها فى الفيديو، ومنذ ‏عشر سنوات تقريبًا غناها فضل شاكر فى أحد البرامج الشهيرة فأعاد تعريف الناس بها.. ومنذ عامين جاء الممثل محمد عادل ليعيد توزيعها وتقديمها بشكل حديث شبابى فى مسلسل «الطوفان» ‏ليتساءل شباب الإنترنت والألفية الجديدة عن صاحب الأغنية الأصل وعن حكايته وأغنياته.. وكلما اكتشفوا إحداها استزادوا وكأنهم يحنون إلى العيش فى زمن تلك الأغنيات.. زمن الأبيض والأسود..‏
‏«تحت الشباك ولمحتك يا جدع
وطالتنى شباك.. من عينك يا جدع
إذا عديت.. قُصاد البيت
أبوس رجليك
تبص لفوق
وتطفى الشوق
أمانة عليك..‏
بص واتكلم.. من فضلك يا جدع
يا سلام سلم.. على وسطك يا جدع..‏
خدَّك تفاح.. دوقنى يا جدع..‏
رمشك دباح.. ما تحوشه يا جدع».‏
ولأن الجدع.. و«بالمناسبة هى كلمة تعنى ذلك الرجل الذى يمشى أمام الزفة وراقصاتها ليحميهن.. يعنى نُصْ فتوة».. أقول لأن الجدع عزيز عثمان لم يقصد أن يكون صاحب ذلك اللون من الغناء ‏الساخر.. حاول مجددًا أن يغنى على طريقة عبدالوهاب لكنه فشل فعاد إلى «المضمون» وإلى السينما ليواصل سخريته ونجاحه معًا:‏
‏«عيون حبيبى
خضر وخضرضر.. ضرضر
وخدود حبيبى..‏
حمر وحمرمر.. مرمر
وشعور حبيبى..‏
صفر وصفرفر.. فرفر


علاقته بـ«أهل الملك» لم تمنعه من مصاحبة «حرافيش السينما»‏
الكورال: فرفر.. يا حبيبى فرفر».‏
هذه الأغنية التى استعار فيها عزيز عثمان طريقة والده فى «الهنك والرنك» ما بينه وبين الكورال سمحت له أن يستعرض إمكانات صوته حتى فى طيات أغنية خفيفة الدم متغزلا فى الحبيب ‏بطريقة ساخرة..‏
‏«نهار ما أشوفه
فايت عليا..‏
أقول يا ريتنى
قبقاب فى رجله
ولما إيده تلمس إيديا..‏
سكينة حامية تدبحلى عجله..‏
نهار ما شفته.. تِعبان قرصنى
رقدنى جمعة
ولما بوسته ميل
وعاصنى.. من بقه دمعة».‏

نجح عثمان فى أن يصبح رقمًا مهمًا فى عالم السينما.. مرة إلى جوار تحية كاريوكا.. ومرة إلى جوار ثلاثى الرحيمية قبلى الذين غنى معهم:‏
‏«فرفش يا كبير واتهنى
واعملك.. شنة ورنة
إزاى تختار
العيشة النار.. ‏
ومعاك مفتاح الجنة».‏

وجاءت السينما بمفتاح الجنة لبلاليكا.. وأصبح له شنة ورنة.. وتكشف فاطمة اليوسف.. صاحبة روزاليوسف فى مذكراتها أنها كانت فى ضيافة دولة رئيس وزراء مصر محمد محمود وكان معهم ‏عزيز عثمان.. وكأنه أحد أفراد الأسرة.. تلك العلاقة التى جمعت عزيز بأهل الملك والسلطان فى البلاد.. لم تمنعه من مصاحبة الريجيسيرات والحرافيش من عمال وعشاق السينما، وعن طريقهم ‏دخل إلى البيت الذى كان سببًا فى عشقه الذى أودى بحياته.‏

تزوج من ليلى محمد فوزى وكانت تناديه بـ«أونكل عزيز»‏
فى الوقت الذى كان عزيز عثمان يصعد فيه إلى القمة.. كانت واحدة من أحفاد أميرات تركيا تعانى من إفلاس والدها نتيجة للحرب العالمية التى حولت حياة الكثيرين من القمة إلى القاع.. وحسب ‏مصطفى أمين يمكنك اعتبارها أميرة سابقة.. ولدت فى تركيا لأب مصرى كان تاجرًا للقماش وأم تركية.. هى حفيدة قيصر لى باشا أحد قادة الجيش التركى أثناء الحكم العثمانى.. حينما وصلت إلى ‏السادسة عشرة لفت جمالها أنظار الجميع.. لكن الحياة القاسية التى حولتها من أميرة تسكن فى قصر بالعباسية إلى مجرد فتاة لأب بائس تعيش فى شقة حقيرة فى حى شبرا.. جعلتها تحلم بالخلاص والعودة ‏إلى سيرة العز.. ولم لا؟ وهى تملك من المفاتن ما لا تملكه غيرها.. إنها ليلى محمد فوزى التى عرفتها السينما المصرية باسم «ليلى رضا» فى البداية تلبية لرغبة والدها الذى رفض فى البداية عملها فى ‏السينما، وتحت إلحاح الريجيسير جمال مدكور الذى أقنعه بأن عمل ابنته فى السينما سينقذه من الإفلاس الذى كان قد أشهره فعلًا.. وافق على شرط ألا تظهر باسمها.. وبعد نجاحها فى فيلم «مصنع ‏الزوجات».. انطلقت «الجميلة» التى أطلقوا عليها «فرجينيا السينما المصرية».. وزاد حصار والدها لها.. فقررت أن تنطلق بطريقتها ووافقت على الزواج من عزيز عثمان الذى كان يكبرها بثلاثين سنة ‏كاملة.. وكانت تناديه حسب مذكراته التى نشرها الزميل طاهر البهى بـ«أونكل عزيز».‏
وبعد زواج ليلى تحول عزيز إلى مدير لأعمالها.. ومنتج لثلاثة أفلام قدمها من خلالها كبطلة من خلال الشركة التى أنشأها باسمها «ليلى فيلم»، وهى «على كيفك» من إخراج حلمى رفلة.. و«أنا ذنبى ‏إيه» من إخراج إبراهيم عمارة.. و«المرأة كل شىء» من إخراج حلمى رفلة أيضًا.‏
وحاول عزيز أن يحمى «ملاكه الفاتن» بأن تحول إلى كل شىء فى حياتها.. ليشترى الأنتيكات التى تعشقها.. والأسطوانات التى تحبها.. حتى الكوتشينة التى كانت تتسلى بها أو من لعبها ليشاركها اللعب.. ‏لكن ذلك الحب الجارف تحول إلى حصار خنق الفاتنة التى لم تتزوجه عشقًا.. فطلبت الطلاق ورفض.. خاصة بعدما تحولت أغنيته الشهيرة «بطلوا ده واسمعوا ده» إلى نشيد قومى للشباب الذى يحب ليلى ‏الفاتنة.. يوجهونها إليه سخرية منه لدرجة أن أحدهم كتب زجلًا نشرته الصحف فى ذم عزيز.. وألمح محمد بديع سربية إلى غرام خفى بين ليلى وأنور وجدى زاد من عناد عزيز الذى اشترط أن يحصل ‏على ثلاثة آلاف جنيه حتى يطلقها فتعهد أنور وجدى بدفعها.. وتأزم الأمر ورفض عزيز كل الوساطات فذهبت ليلى إلى المحكمة التى طلب محاميها أن تصبح جلساتها سرية.. ثم استجاب عزيز لحلمى ‏رفلة الذى توسط لإقناعه.. وطلقها.. وبعد طلاقها بأيام.. تحولت الصحف للتعاطف مع عزيز عثمان ورأت فى ليلى خائنة تركته من أجل أنور وجدى.. وكتبت الأخبار فى ١٧ يوليو ١٩٥٤ دفاعًا عن ليلى ‏فوزى إلا أن ذلك الدفاع كشف العكس عندما قالت الصحيفة «الرأى العام كله ساخط على ليلى فوزى لأنها تركت زوجها.. قبل أن يجف دمه فى التراب وسافرت مع أنور وجدى لأوروبا لقضاء شهر ‏العسل».‏

مات عزيز عثمان بعد طلاقه من ليلى الفاتنة حزنًا عليها.. وسيطرت على الرأى العام كما تقول الصحف حالة من السخط لم تنته بوفاة أنور وجدى بعد ثمانية أشهر فقط.. فراحوا يتذكرون أغنيات الرجل ‏التى حملت تعريضًا بأى ست جعلت من عاشقها لعبة:‏
‏«يا سيدى ازيك ‏
عشت العمر..‏
ماشفتش زيك
يا سيدى إن كنا..‏
غلطنا سامحنا..‏
واعملّنا.. خاطر..‏
وصالحنا..‏
ليه بالهجر تطلّع روحنا
دنا يا جميل بنى آدم.. زيك».‏

هذا البنى آدم الذى أضحكنا كثيرًا بغنائه الساخر دون أن نعرف عنه أى شىء لسنوات طويلة.. صار بلغة أهل التكنولوجيا «ترند» الآن.. وهذا فيما أعتقد حقه.. أليس هو القائل:‏
‏«سيبك منهم..‏
ده مافيش غيرى..‏
مربوط ع الدرجة التاسعة
والناس درجات».‏
ونحن نقولها أيضًا.. للناس فيما يعشقون مذاهب.. وأغنيات أيضًا.‏