رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات أسطوات الأغنية الشعبية «7»

حفنى أحمد حسن.. الأب الشرعى لـ«قالوا إيه علينا دولا»



يوم ظهور نتيجة الشهادة الإعدادية.. كان اليوم الأخير لى فى قريتى.. بعدها عرفت يعنى إيه غربة.. يعنى إيه ما تنامش فى سريرك.. وبالقرب منك أنفاس والديك وإخوتك.. يعنى أوضة صغيرة فى البندر ينحشر فيها عدد من القادمين من الريف إلى البندر.. ويعنى إيه ناس مش زيك.. لأول مرة أعرف معنى الخوف من الآخر.. «ليسوا جحيمًا كما يراهم سارتر».. ولكنهم آخرون غرباء.

فى تلك الغرفة الصغيرة فى شارع الشهيد بمدينة سوهاج وضعنا السرير «الحدادى» والمرتبة التى اشتراها لى والدى.. وفى الركن «وابور بشرايط».. فيما أحضر زميلاى فى نفس الغرفة أغراضهما.. ومن بينها جهاز كاسيت أخضر بلمبة حمرا.. إذا أضاءت فهو يعمل.. وإذا «ماتت وذهب نورها» فالكاسيت عطلان أو حجارته انتهت.. وأعلى الحائط وضع حسام همام عشرات «الشرايط» اللى جابها معاه من «نجع حمادى» ومن بينها «شفيقة ومتولى».

لسنوات طويلة ظلت شفيقة كلمة سر قاتلة فى يد أى غريب يريد أن يذبح صعيديًا مثلى من جلسة واحدة.. فبمجرد أن يتعرف عليك وتخبره بأنك من سوهاج سيقول مباشرة.. «بلد شفيقة».. ولأنك لن تسمح له بالإهانة سترد تلقائيًا: لا بلد متولى.. كل بلد فيها شفيقة.. بس ما فيش فيها متولى.

تلك المبارزات الخفيفة لأطفال فى الخامسة عشرة من عمرهم هى أول احتكاك مباشر بمعنى «الشرف» و«العار».. وهى أول احتكاك مباشر لى أيضًا بصوت حفنى أحمد حسن صاحب قصة «شفيقة ومتولى».. اللى جابلنا العار.
ولسنوات كان يطاردنى سؤال: هناك عشرات الفتيات اللاتى يخطئن يوميًا.. والصحف تنشر مئات القصص عن فتيات يمارسن الدعارة وبشكل منظم وفى كل المحافظات.. فلماذا قصة شفيقة وحدها؟!.
الوقائع تقول إن حادثة قتل متولى، ابن مدينة جرجا، أخته شفيقة جرت فى أوائل القرن الفائت.. يعنى بالتقريب وحسب لقاء أجرته الإعلامية أمانى ناشد مع متولى الحقيقى فيما بين ١٩١٠ و١٩١٢.. فما الذى دفع بالقصة لتشتهر وتشيع بهذا الشكل فى مطلع الستينيات؟.. يعنى بعد أربعين سنة من أحداثها تقريبًا.. وما الذى دفع شوقى عبدالحكيم وصلاح جاهين وحفنى لاستلهامها والإلحاح على إذاعتها وترويجها بهذا الشكل؟.

الآن فقط يمكننى أن أستريح لتفسير أحد دارسى العلوم السياسية الذى يرى أن «الصعيد كان مشكلة مزدوجة.. فقبل توصيل الأفكار له.. لا بد من إقناع هؤلاء البشر- الصعايدة- بالحكومة المركزية والدولة التى نشأت بعد ثورة الضباط الأحرار.. طول الوقت كان الصعيد خارج المعادلة.. لا هو تحت السيطرة.. ولا هو طامع فى القفز على الحكم.. حتى الإنجليز فشلوا فى التوغل جنوبًا فتركوه على حالته.. فيما لم يصل العرب إليه إلا من خلال هجرات البحر الأحمر.. كان الصعيد عصيًا.. وكان عبدالناصر ذو العرق الصعيدى يعرف ذلك ويفهمه.. ومن هنا قرر أن يستعين بحفنى أحمد حسن.
وبأوامر شخصية منه جاء الرجل الذى كان يعمل فى المعمار ليسجل القصة فى الإذاعة الرسمية لتذاع يوميًا وبشكل متواصل لفترة طويلة مما أثار غضب الصعايدة وقتها الذين رأوا فيها تعريضًا بنسائهم.. لكن استلهام القصة فى أكثر من شكل فنى بعد ذلك وتصوير صلاح جاهين لها باعتبار شفيقة هى مصر التى وجب أن نغسل عارها.. أعلى من قيمة «الشرف» وغطى على الفكرة الأساسية التى أرادها عبدالناصر.. وهى إعلاء قيمة المؤسسة والسلطة المركزية».
قصة عبدالناصر والريس حفنى.. تحتاج إلى مدخل آخر لنفهم سر هذا «المغنى» النادر.. الذى تحولت موسيقاه الآن- ربما دون أن نعرف- إلى نشيد قومى يردده أطفالنا فى المدارس صباح كل يوم.. وتذيعه القنوات الفضائية باعتباره نشيد الصاعقة المصرية..
أيوه.. أغنية «قالوا إيه.. علينا دولا» التى خطفت قلوبنا جميعًا.. هى أحد إبداعات الرجل الصعيدى الذى لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، لكنه صار إحدى أهم أساطير الغناء الشعبى فى مصر.



عبدالناصر طلب منه تسجيل أغنياته على أسطوانات
اسمه حفنى أحمد حسن.. من أبناء محافظة قنا.. انتقلت أسرته إلى الإسكندرية ليستقر فى عدد من المنازل فى منطقة بحرى ما بين المنشية والأنفوشى.. وبعد تركه مجال المعمار الذى بدأ حياته من خلاله.. انتقل إلى منزل فى كليوباترا.. التقطه زكريا الحجاوى مثل كثيرين من رواد الغناء الشعبى فى مصر.. لكنه رفض أن يغنى من تأليف الحجاوى أو غيره.. كان يعرف أنه يملك سر الكتابة وقرر أن تكون له طريقته الخاصة.. وفرقته الخاصة أيضًا.. وفيما قبل ثورة يوليو بقليل انتشرت أغنياته التى كتبها بنفسه على نمط «التربيع الصعيدى» وبلحن واحد متكرر مأخوذ من الفولكلور حتى وصلت إلى مسامع عبدالناصر الذى كان يعانى من غربة شديدة فى الفالوجا.
أحد أصدقاء الحاج حفنى يحكى أنه فوجئ ذات صباح بمن يخبره بأن الرئيس عبدالناصر موجود فى استراحته بالإسكندرية ويريد أن يراه.. اعتقد عمنا حفنى أنها مداعبة شخصية من الرجل لكنه فى اليوم التالى وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الزعيم.. ووجدنا من يلقى عليه كلمات أغنيته فيما دموعه تتقاطر على خديه:
«أنا اللى دمعى بلّ إيدى
م الدنيا اللى شاغلة بالى دى
أنا وحشانى.. بلدى..
والله الغربة طالت علىَّ
...
غربلت الهوى بغربة لى
وأنا ماشى بغير بالى
المولى كتب الغربة لى
والله الغربة طالت علىّ
...
فى بلدى الغريب بيعيش
وأنا الساكن الغربة فى عِش
مكتوبة لى فى الغربة أعيش
والغرفة طالت علىّ».
وفوجئ الرجل بناصر يخبره بأن هذه الأغنية كانت ونيسه فى حرب فلسطين.. وأنه يحب صوته.. وطلب منه أن يسجل أغنياته على أسطوانات.. وهكذا فعل الرجل لتصلنا أغنياته فى أقصى الصعيد مثلما وصلت لغيرنا فى كل أنحاء المعمورة:
«إنت فارد شبكك
وأنا عارف اللى شبكك
حرّان افتحلى شبكك
هات القلة وازقينى..
وحياة ربى عالم بالكون
وفين رواق البال يكون
قوم افتحلى البلكون
وهات القلة.. وازقينى».

زوجته روح الفؤاد صاحبة «سوق بينا يا اسطى على الكورنيش»
عشرات الأغنيات التقطتها شركة الأسطونات.. وإذاعة الإسكندرية.. منها: يوعد ويخلف واستناه.. سيبوا الهوى لصحابه.. راح أتوب.. أنا ليا ساعة وقعدة معاك.. عامل قلبى لعبة معاه.. والله معارف أشكى لمين.. وأيضًا: أنا مش عارفك.. إنت مين.. وهى التى أعاد عبدالرحمن الأبنودى صياغة كلماتها فى لحن جديد وضعه كمال الطويل لمحمد رشدى:
«كان ليا صاحب فاكره ونسانا
بعزّه أكتر من نفسى انا
وقابلته بعد سنة
قالى أنا مش عارفك.. إنت مين؟
قلتله ليه بقى لونى مناويشى؟
ولاّ على سترى مناويشى..
اتأكد كويس من وشى..
قالى أنا مش عارفك.. إنت مين».
وحولها الأبنودى فى أغنية رشدى إلى:
«أنا اللى خد من عمرى سنين
علمته يضحك سابنى حزين
وقال إنت مين..
يا للى أنا مش عارفك.. إنت مين».

نجح حفنى بأغنياته شديدة البساطة والعمق معًا.. وبحملته الشعبية الموسيقية فصار نجما فى كل الحفلات وبخاصة تلك التى يقيمها نادى الاتحاد السكندرى.
وتزوج للمرة الثانية من واحدة من أشهر مطربات الإسكندرية اسمها روح الفؤاد.. وهى المطربة الوحيدة التى زاحمت بدرية السيد على عرش الأغنية الشعبية وأنجب منها عصام الذى أصبح مطربا فيما بعد من جيل على الحجار ومحمد الحلو.. لكنه مات صغيرا فلم يحقق أى شهرة ولا يتذكر له أحد أى أغنية، وإن حاولت البحث ستجد أغنية واحدة من كلماته وألحانه اسمها «زيك زى الزمان».
والدة عصام.. زوجة حفنى.. روح الفؤاد هى نفسها صاحبة الأغنية الأشهر فى الإسكندرية «سوق بينا يا اسطى على الكورنيش.. ناكل درة ونشرب منجا.. وحبة حبة إن شا الله تعيش.. مشى الحلوين دنجا دنجا».. وهى أيضا التى استعان بها مخرج فيلم فيفى عبده نور العيون لتغنى من ألحان بليغ حمدى وكلمات عبدالرحيم منصور فى الفرح «مبروك».



غنّى للزعيم «والريس وحده يعمل إيه؟» و«يا بطل العروبة»
كان من الطبيعى أن ينحاز حفنى أحمد حسن لعبدالناصر الذى يحبه ولمبادئ ثورته.. وللعمال والفلاحين الذين استهدفتهم أغنيات حفنى بشكل أساسى.. فها هو يغنى: «قبل ما تبنى.. أسس يا خال»:
«ما دام عندك نظر ترى بيه
عاشر اللى يكون تربيه «اتربى»
يسلملى أرض ترابيه «أترابه»
قبل ما تبنى.. أسس يا خال».
ويقترب أكثر من الغناء الوطنى.. فيكتب ويلحن ويغنى:
«ليه يا دنيا تزقينى خلِّك
وتقولى فى الغربة خلِّيك
لا عم ف ريحك ولا خال ليلك
ما أحسبش الوطن غالى»
...
أشوف غُربة وحَدادى
ف مين هاربى وحَ ادادى
أنا بشتكى من الوحدة دى
وما حسبش الوطن غالى
....
يا ربنا اكرمنا وراضينا
رجعنا بلدنا وردِّينا
غالية علينا أراضينا
وما احسبش الوطن غالى».
ولاء الريس حفنى لثورة يوليو دفعه لأن يناشد الناس أن يقفوا إلى جوار ناصر.. فى أغنية استعادها المصريون بعد كل هذه السنوات ليطالبوا الجماهير بالوقوف إلى جوار رئيس مصر فى بداية الألفية الثالثة.. وربما لا يعرف الشباب الذى يغنى هذه الأغنية الآن أنها من تأليف وألحان وغناء حنفى لناصر:
المركب ركابها دفتها
لو ركابها نامت دفيتها
ف بحور بعيدة صادفتها
مين اللى يمسك دفتها
والريس وحده.. يعمل إيه
...
افرض شق الهوا ف ريحُه
الريس إيه اللى يفرحوا
لو ما وقفناش إحنا ف ريحه
الريس وحده.. يعمل إيه؟!».
ذلك الحشد الذى كان يريده حفنى أحمد حسنى خلف عبدالناصر.. أراده بوعى شديد لمؤازرة الجيش أيضا.. وتلمح ذلك جليا فى أغنية مباشرة يصف فيها حفنى عبدالناصر بأنه «بطل العروبة»:
«وصبرت ع الحلوة وع المرة
ما تنازلتش أبدًا ولا مرة
تعيش يا فارس بنى مرة
يا بطل العروبة.. يا جمال
..
للعدو واقف وقفة أسد
وبلدنا كل دينها.. اتسد
رجّعت قنال.. وبنيت السد
يا بطل العروبة.. يا جمال
...
أنا أودّك تحكم طول العمر «العامر»
وجيش قلبه بالإيمان عامر
ومعاك عبدالحكيم عامر
يا بطل العروبة.. يا جمال».

تراجع فى عهد السادات ومحمد محيى أعاد تقديم «مظلوم»
بعد عامين فقط من هذه الأغنية التى كتبها حفنى.. حدث ما حدث فى نكسة يونيو.. ولم يظل عامر بجوار ناصر.. وبعدها بثلاث سنوات رحل عبدالناصر.. ليرثيه حفنى مثل كثيرين فى مقدمتهم أم كلثوم التى سجلت أغنية خاصة من ألحان السنباطى ليلة الوفاة.. لكنلها قررت حذفها بعد يوم واحد فقط خوفا من أن يغضب السادات الذى خلفه.. فيما أصر حفنى على غناء ما كتبه فى رثاء الرجل الذى أحبه فى كل الحفلات التى تلت الرحيل:
«وعمره ما اعتدى بالشر
دايما بالخير يبشر
يخاف على كل البشر
واهو يحكى التاريخ عنه
...
وحبه فى القلوب علّم
ورفع للأحرار علم
وشهد له كل العالم
واهو يحكى التاريخ عنه
...
وأهو فات البلد وفات حاله
لقى بيبان الجنة فاتحاله
م الواجب نقرا الفاتحة له
واهو يحكى التاريخ عنه».
وظل التاريخ ولا يزال عن عبدالناصر.. رغم تلك السياخ الحامية التى انطلقت من «أخبار اليوم» تذم الرجل وتسفه تاريخه وتهيل التراب على كل ما فعل.. وظل حفنى على موقفه.. لكنه توارى مع سطوع نجوم جدد للأغنية الشعبية فى زمن السادات.. وظلت أغنية حفنى الأشهر، التى أعاد محمد محيى غناءها منذ عشر سنوات، تعبيرا حقيقيا عن حال الرجل بعد رحيل ناصر:
أنا مظلوم.. أنا مظلوم
عاتبنى ويمكن.. أنا مظلوم
حلو ياللى عجبك بعدنا
سايبنا ولايف على أعادينا
تعالى نعاتب بعضينا
عاتبنى ف يمكن.. أنا مظلوم
...
امشى معايا دوغرى واسلك
ونا أشكر معروفك واصلك
إذا كان فيه كلام وصلك
عاتبنى ويمكن.. أنا مظلوم».