رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حرب المياه.. الاستعمار التركى لنهر دجلة


مع بدء تركيا فى ملء «سد إليسو»، وقبلها قيام إيران بتغيير عدد من روافد نهر دجلة إلى أراضيها، يكون العراق رسميًا قد دخل إلى «حالة عطش»، يتجاوز مرحلة الفقر إلى ما يمكن توصيفه بـ«حرب مياه» متكاملة. حيث استغلت كلتا الجارتين تركيا وإيران حالة الضعف العراقى، وانخراطه فى مشكلاته الداخلية، لتنفيذ أكبر عملية «سرقة» مياه قد تضرب الاستقرار الهش العراقى فى مقتل.
«سد إليسو» التركى وحده سيحجب نصف إيراد المياه عن نهر دجلة، وهذا هو ما بدا للعيان مع بداية الموسم الصيفى الحالى، فقد انتشرت صور فوتوغرافية ومقاطع مصورة بالمئات من أماكن عديدة على ضفاف دجلة، تعبر عن عمق الأزمة التى داهمت المدن والقرى العراقية التى تعتمد بشكل كامل على مياه النهر. فرغم وجود مجموعة من الخزانات والسدود العراقية التى تنظم عملية إدارة مياه نهر دجلة- بينها سد الموصل وحديثة ودوكان وأخرى أصغر منها، وجميعها وفق الدكتور مهدى رشيد مدير عام السدود والخزانات العراقى، تصل طاقتها التخزينية الكلية إلى (٩٦ مليار متر مكعب)- إلا أنها لا يتوافر بها جميعًا الآن سوى (١٢ مليار متر مكعب). هذا الفارق الضخم ما بين المطلوب والموجود، يبين بجلاء حجم الأزمة الضاغطة.
الخبراء العراقيون كشفوا هذه الأيام بمناسبة الحديث عن أزمة المياه، ما يخص عملية تدمير سابقة لإيراد نهر دجلة، قامت بها إيران خلال نفس سنوات الاضطراب. المثير أنه حجب عمدًا الحديث بشأنها حتى إتمام العمل الإيرانى، الذى تمثل فى تغيير كامل لمجرى «نهر الكارون»، وإنشاء طهران ثلاثة سدود كبيرة على «نهر الكرخة»، وكلاهما كانا يغذيان نهر دجلة. وسرقتهما من قبل إيران؛ بعدما كانا يمثلان مصدرين رئيسيين للعراق عمّقت من الأزمة العراقية الحالية، وجعل الأرقام المخفية تظهر على ألسنة المسئولين، فقد كان العراق تاريخيًا يشترك مع إيران من خلال ٤٥ رافدًا مائيًا، لم يبق منها اليوم سوى ثلاثة أو أربعة فقط!.
بالعودة إلى التغول التركى و«سد إليسو» المفجر لتلك الحرب المعلنة، نجده وفق الاختصاصيين الأتراك يقع بين محافظتى «شرناق» و«ماردين» التركيتين، ويبعد عن الموصل العراقية بنحو ٥٠ كم فقط. يبلغ ارتفاع السد التركى ١٤٠ مترًا وطوله يتجاوز ١٨٠٠ متر، حيث يعد فى مصاف السدود الكبيرة، رغم المزاعم التركية التى تذكر أنه يستهدف تخزين (١٠.٥ مليار متر مكعب) من المياه، وأنه سيستخدم فى توليد طاقة كهربائية بقوة ١٢٠٠ ميجاوات. فى الوقت الذى لا ينفى نظراؤهم العراقيون أن الأمر، يتجاوز إنشاء سد على نهر دجلة، إلى ما يمكن اعتباره تحميل العراق فاتورة باهظة، تتمثل فى انخفاض حصته من نهر دجلة إلى (٩ مليارات متر مكعب) سنويًا، فضلًا عن حرمان ثلثى الأراضى العراقية من المياه ومعها ١٠ مدن على الأقل، فضلًا عن الأضرار التى سيتكبدها سد الموصل نظرًا للنقص الحاد المتوقع لآلية وقدراته التخزينية.
فى سبعينيات القرن الماضى؛ أعلنت تركيا أنها بصدد العمل على «خطة كبرى»، لمشروعات الرى والطاقة الهيدروليكية على نهرى دجلة والفرات. فيما عرف لاحقًا فى الثمانينيات بـ«مشروع جنوب شرق الأناضول»، ويضم إقامة (٢٢ سدًا) و(١٩ محطة توليد طاقة). منها (١٤ سدًا) على نهر الفرات، أكبرها وأهمها (سد أتاتورك) الذى يعد واحدًا من أكبر السدود الركامية فى العالم، بالنظر إلى ارتفاعه الذى بلغ ١٨٤ مترًا وطوله الذى يصل إلى ٢٠٠٠ متر تقريبًا. لتصل سعته التخزينية إلى قرابة (٤٨ مليار متر مكعب)، وفى هذا تدخلت مصر حينها، بدور وساطة مكثف وسريع ما بين تركيا وسوريا، حيث كانت الأخيرة على موعد مع ضربة قاسية لمواردها المائية القادمة عبر الفرات، وكانت على وشك الرد عليها عسكريًا. نجحت الوساطة المصرية حينها، فى نزع فتيل الأزمة بتحسين شروط البناء والتخزين لصالح سوريا، ويعكس حجم التهديد حينئذ أن المنطقة كانت على شفا حرب عسكرية.
وعلى ذات النسق، كان مجرد الإعلان التركى المبدئى عن مخطط «سد إليسو» على نهر دجلة، فإذا بالرئيس «صدام حسين» يقابله بالتهديد بقصفه حال الشروع فى بنائه. مما دفع الحكومات التركية الأكثر تعقلًا حينها، إلى وقف العمل فى المشروع لجدية ما تلقوه من رسائل عراقية. فقد كانت العراق الدولة تمتلك إبان حكم الرئيس صدام من الأوراق، القادرة من خلالها إيلام الجانب التركى على أكثر من صعيد، ولم تكن ستتأخر عن القيام بالقصف الجوى لموقع البناء الذى يقع فى مدى طيرانها العسكرى. على الجانب الآخر؛ لم تكن الطموحات العثمانية ومشاريع التمدد والتغول على حقوق جيرانها قد برزت بعد، وكان يهم تركيا تحقيق قدر من القبول والاستقرار، يسمح لها بالاستفادة من دول الفضاء العربى المتاخم لها. لكن المشهد اليوم تغير جذريًا على جانبى الحدود، فالعراق ليس هو عراق الماضى، وتركيا قفز على سدة حكمها حزب العدالة والتنمية، الذى وضع على عاتق أردوغان مهمة تنفيذ أجندة «العثمانية الجديدة».
منذ بداية هذا العقد جرى فى أرجاء المنطقة برمتها، ما يجعل البدء فى ملء وتشغيل «سد إليسو» بتاريخ ١ يونيو الجارى، فصلا من فصول المشروع الأردوغانى الكبير. فهو اليوم موجود بقواته العسكرية ليس فى سوريا وحدها، بل فى العراق أيضا، حيث ما زال تحت ذريعة ملاحقة «حزب العمال الكردستانى»، موجودًا بكتيبة مدرعة كاملة داخل الأراضى العراقية فى قاعدة عسكرية فى «بعشيقة» بالقرب من الموصل، ويسعى منذ شهور لإنشاء قاعدة أخرى فى منطقة «هاكورك»، الواقعة ضمن نطاق إقليم كردستان العراق. ورغم توالى التصريحات المنددة بالتدخل التركى من قبل الحكومة المركزية ببغداد، فإن هشاشة بنيانها السياسى وارتهانها للقرار الإيرانى، يدفع تركيا إلى مزيد من طموحات التغول، واليوم هى استطاعت بجدارة أن تحتل نهر دجلة، أو لنقل اقتسمت مياهه، مع الطامع المقيم القادم من إيران.