رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معبود الجماهير.. أيام الوعظ والسلطنة «20»

محمد الباز يكتب: حليم وعبدالوهاب لـ«كشك وعدوية».. هو فاكرنا إيه مش ماليين عينيه؟

محمد الباز
محمد الباز

- عبدالوهاب كان يرى عدوية «أقوى صوت فى مصر» لأنه لم يتأثر بـ«عوامل الفشل» خلال مسيرته
- «موسيقار الأجيال» وصف صوت عدوية فى أوراقه الخاصة بأنه «أجمل صوت شعبى سمعه فى حياته»
- عبدالحليم كان يتعامل مع عدوية بمنطق التجارة فقط
- كشك هاجم عبدالحليم وعبدالوهاب بسبب «ماسك الهوا بإيديا» و«جايين الدنيا ما نعرف ليه»


كان طبيعيًا أن يتفاعل أحمد عدوية مع الوسط الفنى، أن يجد نفسه فى مساحة شد وجذب، فالصخب الذى أحدثه بأغنيته «السح الدح امبو» لفت إليه انتباه الجميع بعد أن تجاوزت مبيعاتها المليون نسخة.
تحدثوا عنه فى جلساتهم الخاصة، تجاهلوه بعض الوقت.
لكنهم وجدوا أنفسهم أمام استمراره وتقدمه ومنافسته الشديدة لهم مضطرين إلى الاعتراف به.
كان هناك من يمدح عدوية سرًا ويثنى عليه، لكنه يتحفظ تمامًا فلا يتحدث عنه علنًا ولا يرحب بالتعاون معه أمام الآخرين.
محمد عبدالوهاب النموذج الأشهر الذى بين أيدينا، وضبطناه متلبسًا بذلك أكثر من مرة.
تذكرون المرة الأولى التى قابل فيها عدوية محمد عبدالوهاب، كانا فى الإذاعة، ويومها داعبه الموسيقار الكبير بأن شكله حلو، وأبدى إعجابه الشديد بلحن إعلان خضر العطار، وسأل عدوية عن ملحنه، ولما قال له إنه محمد عصفور، طلب منه أن يراهما معًا.
كان عبدالوهاب مجاملًا إلى الدرجة التى لا تضره.
فى أوراقه الخاصة التى تركها لتنشر بعد موته، وتولى صياغتها الشاعر فاروق جويدة، يمكن أن تقرأ سرًا جديدًا من أسرار المغنى الذى كان يعتبره البعض معجزة.
كان عبدالوهاب يرى أن عدوية يمتلك أقوى صوت فى مصر، وذلك من وجهة نظره، لأنه يتعرض لكل العوامل التى يمكن أن تؤثر عليه دون أن يتأثر، فهو يغنى أولًا فى كباريهات يحيط بها الدخان بكل أنواعه من كل مكان، ثم يخرج من أجواء الكباريهات الساخنة إلى الشارع ليركب سيارته، لينتقل بعد ذلك إلى فرح فى أحد الفنادق أو حتى فى المناطق الشعبية، ثم يخرج إلى الشارع مرة أخرى، وهو ما يعرضه لتيارات هواء، يمكن أن تسبب لصوته ضررًا بالغًا، لكن هذا لا يحدث أبدًا.
لم يكن هذا فقط ما قاله «عبدالوهاب»، قال أيضًا: «عدوية أجمل صوت شعبى سمعته فى حياتى، وإذا كان الغناء الشعبى يشبه بدلة الرقص الشرقى الجميلة، فعدوية هو الترتر الذى يزين هذه البدلة، ويجعلها تلمع وتضيف البهجة والفرفشة».
رغم هذا الإعجاب كله، إلا أن عبدالوهاب لم يلحن أغنية واحدة لعدوية، كان يتهرب من ذلك، وكل مرة كانت لديه حجة، لكن الحجة الدائمة التى كان يقولها لعدوية نفسه أو لمن يسألونه، لماذا لم يلحن لعدوية؟ إنه لم يجد الكلام المناسب الذى يمكن أن يقدمه من خلال حنجرة المطرب الشعبى.
لخص محمد عبدالوهاب قصة عدوية كلها، عندما قال إن صوته يحمل يُتمًا جميلًا، فيه شجن يدخل القلب، ثم كانت الكلمة الملخصة أكثر، عندما قال: «اللى فى صوت عدوية ده شجن ربانى».
لم يشجع هذا الشجن الربانى عبدالوهاب ليكسر مخاوفه من التلحين لعدوية، واسمحوا لى أن أصفها بأنها كانت مخاوف.
كان الموسيقار الكبير يقول للمقربين منه، إنه لو لحن لعدوية فمعنى ذلك أنه يمنحه الشرعية الكاملة، ثم إنه لا يريد أن يمنح من قاموا بالتلحين لعدوية من الملحنين الشعبيين- إذا جاز التعبير- الشرعية الوهابية، وأعتقد أنه سأل عن محمد عصفور صاحب لحن «خضر العطار» لأنه أدهشه بدرجة جعلته يتطلع لمعرفة صاحب هذه النغمة، وكيف أتى بها، لكن لم يكن ذلك يعنى أبدًا أن يعترف به ويضع نفسه معه فى قائمة واحدة هى قائمة ملحنى عدوية.
لا بد لحكاية عدوية مع عبدالوهاب من قفلة، وهى قفلة لن تعجب عدوية ولا كل من أحبوه بالمناسبة، فقد كان عبدالوهاب قاسيًا جدًا على المغنى الشعبى فى موضعين.
الأول عرفته من أوراقه السرية التى نشرها فاروق جويدة، فيها قال عبدالوهاب: عدوية المغنى ناجح جدًا، ومع ذلك فلا قيمة له لأنه ليس لديه مشوار.
يتسق هذا الرأى تمامًا مع عبدالوهاب الذى كان يرى أن الموهبة وحدها لا تكفى للفنان كى يصنع لنفسه مجدًا، بل عليه أن يحافظ عليها وينميها ويحميها، وهو ما لم يكن يفعله عدوية أبدًا.
الموضع الثانى عندما عرف عبدالوهاب أن عبدالحليم حافظ غنى فى أحد الفنادق أغنية عدوية «السح الدح امبو».
الواقعة موثقة، حكاها عدوية أكثر من مرة، وفى أكثر من مناسبة، يقول: كان عبدالحليم حافظ يصطحبنى معه أحيانًا فى الأفراح التى يُحييها، وأذكر أنه مرة كان يُحيى فرحًا فى أحد الفنادق الكبرى، وكان يغنى «خسارة خسارة» فسحبت الميكروفون منه ورحت أغنى أغنيته، فرد التحية، وغنى أغنيتى «السح الدح امبو».
لهذه الواقعة جوانب أخرى، فهناك من يقول إن عبدالحليم كان يغنى فى أحد الأفراح بشيراتون القاهرة، ولما رأى عدوية يدخل الفرح، حاول تحيته فغنى مطلع «السح الدح امبو»، وهناك من يتعامل مع هذه الواقعة على أنها كانت تعبيرًا عن أحد وجوه حليم الخبيثة، فهو يقول لعدوية عمليًا إن هذا حجمك وآخرك، ومن يتبنون هذا الرأى يؤكدون أن عدوية رد تحية عبدالحليم بأحسن منها، عندما صعد إلى جواره وسحب منه الميكروفون، وغنى أغنيته «نار يا حبيبى»، لكن على طريقته، فقد التزم بمدخل الأغنية على طريقة حليم «نار يا حبيبى نار»... ثم أكملها بطريقة عدوية «فول بالزيت الحار».. ليقول لحليم إنه موجود مثله تمامًا، له ذوقه وشكله وفنه ومزاجه وجمهوره.
طيب القلب كان عدوية، ما فى ذلك شك، لا يزال يحب عبدالحليم ويتحدث عنه بما يشبه العشق، ولا يعرف أن عبدالحليم عندما عجز عن مجاراته قرر أن يحتويه، فعندما انفجرت موجة محمد رشدى فى الستينيات، لم يهدأ عبدالحليم إلا بعد أن اخترق مساحته، غنى شعبى وبالشاعر والملحن اللذين كانا وراء نجومية رشدى، عبدالرحمن الأبنودى الذى كتب «وأنا كل ما أقول التوبة» وبليغ حمدى الذى لحنها.
شىء من هذا لم يستطع عبدالحليم أن يفعله مع عدوية، وذلك لأن المرض كان قد حاصره أكثر، عدوية علا نجمه بداية من ١٩٧٢، وعبدالحليم توفى فى مارس ١٩٧٧، أى أن عدوية تألق فى السنوات التى شهدت نهايات حليم، ولك أن تتعجب أن ما قرب بينهما لم يكن الفن، بل المرض، ففى الفترات التى كان يقضيها حليم فى أحد مستشفيات لندن، كان عدوية يغنى فى أحد كباريهاتها، وكان دائم التواجد معه والحرص على زيارته.
عرف عبدالوهاب بغناء عبدالحليم لـ«السح الدح امبو» وعرف أن حليم يرغب فى تسجيلها، ولأنهما كانا شركاء فى شركة صوت الفن، فقد طلب عبدالوهاب من حليم بحكم الأستاذية والشراكة أن يصرف النظر تمامًا عن غناء أغنية لعدوية، لأن هذا سيحذف منه ولن يضيف إليه شيئا.. وكان طبيعيًا أن يستجيب حليم.
الأغرب من كل ذلك أن عبدالوهاب ومن ورائه عبدالحليم لم يتعاملا مع عدوية من منطق الفن أبدًا، ولكن من منطق التجارة فقط.
فى أرشيف أحمد عدوية تقرير مهم جدًا، نشرته جريدة المساء فى ٣ مارس ١٩٧٦، بحثت عن اسم محرر التقرير فلم أجده، لكن على أى حال ما كتبه يكشف لنا ما يمكن أن يكون مفاجأة للبعض.
يقول صاحب التقرير: قرأنا أن عبدالحليم حافظ احتكر صوت أحمد عدوية، وأن شركة صوت الفن التى يمتلكها عبدالوهاب وعبدالحليم سوف تنتج فيلمًا وتطبع له أسطوانات، وواضح أن أحمد عدوية صيد ثمين بالنسبة لشركة صوت الفن، وواضح أكثر أن صاحبى الشركة يتمتعان بذكاء تجارى، لأن أسطوانات أحمد عدوية توزع بأعداد كبيرة، ويحقق النجاح فى كل مكان، وأصبح له جمهور معقول، علمًا بأن أجهزة الإعلام لها موقف معروف بالنسبة لأحمد عدوية، وأكثر أغانيه ممنوعة من الإذاعة ومنها أغنية «السح الدح».
رصد كاتب التقرير ردود الفعل على ما تردد عن خطة عبدالوهاب وعبدالحليم التجارية، يقول: أثار تبنى عبدالحليم أو احتكاره لصوت أحمد عدوية مناقشات بين القراء، رأى يعاتب عبدالوهاب وعبدالحليم لأنهما لم يتركا شيئًا لمنتجى السينما القادمين من وكالة البلح وتجار الخردة، وأن المفروض أن يبحثا عن أصحاب المواهب الحقيقية واستغلالها فى صورة تشرف الموسيقى العربية، وليس الجرى وراء مطرب السح الدح سعيًا وراء الفلوس.
وطبقًا للتقرير: الرأى المضاد يدافع عن أحمد عدوية وأغانيه التى لاقت نجاحًا كبيرًا بين قطاعات مختلفة من أفراد الشعب، وأن أغنية «السح الدح» أو بقية أغانى هذا المطرب لا تختلف عن غيرها مثل «العتبة جزاز» و«الطشت قالى»، وأن هذه الأغانى رغم أنها غير هادفة، إلا أنها تطرب وتمتع أكثر من بعض الأغانى الطويلة المملة التى تذاع يوميًا، وأصحاب هذا الرأى يدافعون عن احتكار «صوت الفن» لصوت أحمد عدوية، وأنه يجب أن تفسح الطريق لصاحب هذا اللون الجديد الممتع فى الأغنية المصرية.
لم يكن فيما جرى شيئًا غريبًا بالنسبة لى، رغم أننى صدرت الكلام بكلمة «الأغرب»، فعبدالوهاب لم يكن راهبًا فى محراب الفن، وعبدالحليم لم يكن أمينًا على ذائقة الناس، كان من بين صفاتهم أنهم تجار، يمكن أن يكونوا سخروا من عدوية، لعنوه، اعتبروه دخيلًا عليهم، لكنهم عند المصلحة استسلموا له، فكروا فى أن يشاركوه الأرباح التى يحققها، ليس مهما ما يقدمه، لكن المهم هو ما يجنيه، وكان ما يجنبه عدوية كثيرًا جدًا، ربما بأكثر مما يستوعب عبدالوهاب وعبدالحليم.
على الضفة الأخرى من النهر، وعند الشيخ كشك، كان هناك استغلال من نوع آخر.
فلا يزال كثيرون يتندرون على سخرية كشك من عبدالحليم حافظ، فمن بين ما قاله عنه أنه حقق معجزتين، الأولى أنه «مسك الهوا بإيده» فى إشارة إلى أغنية حليم «زى الهوا»، التى كتبها محمد حمزة ولحنها بليغ حمدى، والثانية أنه الوحيد «الذى تنفس تحت الماء» إشارة إلى أغنيته «رسالة من تحت الماء» التى كتبها نزار قبانى ولحنها محمد الموجى.
كان لدى كشك منطقه الذى يبرر به ما يفعله، فى حواره الأخير الذى أجراه معه حسن عبدالله، ونشرته له مجلة «نصف الدنيا» قبل شهور قليلة من وفاته، سأله محاوره: ما الذى يضير الإسلام إذا ما أعلن عبدالحليم حافظ أنه يتنفس تحت الماء؟
قال كشك: هذه معانٍ قبيحة على أصل مرفوض من الأساس، والأهم أن عبدالحليم حافظ ليس سمكة، ولم يكن غطاسًا، أو معه جهاز أكسجين يعينه على التنفس تحت الماء كى يقول إنى أتنفس تحت الماء.
المنطق ساذج بالطبع، طفولى، لم يجرؤ الشيخ على أن يقول إن منهجه قام على تشويه كل شىء يمت إلى الفن بصلة، بصرف النظر عن قيمة ما يهاجمه أو يشوهه، فتفسيره للكلمات التى غناها عبدالحليم حافظ يقول إننا أمام رجل مغرض، والدليل ما جرى بعد ذلك.
قال له محاوره: هذه مجرد أخيلة شعرية أو مجاز؟
فرد كشك بقوله: لا يلجأ من الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى، وعبدالحليم حافظ عندما يقول ذلك فهو غير صادق، مثله مثل الذى يقول جئت لا أعلم من أين؟ فهذا رجل غير صادق أيضًا، لأن عنده أولادًا ويعلم كيف جاء بهم، وبالتالى فإنه مثلهم جاء من نفس الطريق، وهل من الإسلام أن يتساءل عبدالوهاب مندهشًا أو معترضًا: جايين الدنيا ما نعرف ليه؟ ألا يعلم الجميع لماذا جئنا إلى الدنيا، وأننا إلى الله ذاهبون.
مرة ثانية يؤكد كشك سطحيته وانسحابه التام من مساحة نعرف جميعًا ما الذى يمثله فيها الخيال والشعر، ويغفل تمامًا الهدف الذى كرس له حياته، إنه يرفض الفن على إطلاقه، يستبشع ما يفعله الفنانون على إطلاقه، كل ما يقومون به يقود المجتمع إلى الفسق والفجور وما يجلب غضب الله، وهى نظرة ضيقة، لا تأتى ولا تتأتى إلا من شخص رجعى منغلق على ذاته تمامًا.
لم يكن كشك يدرك المعانى الراقية التى يتغنى بها عبدالحليم أو عبدالوهاب أو أم كلثوم، إنه بكل رعونة يقول: امرأة فى السبعين من عمرها تقول: خدنى لحنانك خدنى، يا شيخة خدك ربنا، ثم كيف لها أن تذهب مع حبيبها بعيد بعيد وحدينا والشرع يحرم اختلاء الرجل بالمرأة من غير محرم إلا وكان الشيطان ثالثهما؟.
كان كشك يردد هذه القفشات- ليس عندى أكثر من ذلك لتوصيفها- من على منبره، وكان المصلون يتضاحكون ويشيدون بخفة ظل الشيخ، وكيف أنه ابن نكتة، ويرددون الكلام على أنه مجرد إفيهات يطلقها الشيخ حتى يقرب مستمعيه منه، دون أن يلتفتوا إلى أنهم يساوون بين شيخهم والمونولوجست محمود شكوكو، رغم أن الفارق بين شكوكو وكشك واضح جدًا، فشكوكو كان يغنى للناس، أما كشك فكان يغنى عليهم.
لقد خاض كشك معركة حامية ضد محمد عبدالوهاب، فى واحدة من خطبه قال نصًا: إننى أوجه هذه النصيحة للدكتور الموسيقار، أقول له: يا عبدالوهاب اتق الله، فقد بلغت من العمر ٦٦ عامًا، وبينك وبين ظلمة القبر شبر أو قيد شبر، اتق الله وجدد إيمانك، فقد ظللت سنوات طويلة تقول: جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت، ولقد أبصرت طريقًا فمشيت، وسأبقى سائرًا إن شئت هذا أم أبيت، كيف جئت، كيف أبصرت طريقى، لست أدرى.
وبعد أن يعيد كشك ويكرر كلمات الأغنية على مسامع جمهوره، يصرخ موجهًا كلامه لعبدالوهاب قائلا: لا تدرى من أين جئت، اقرأ سورة المؤمنون لتدرى من أين جئت، «ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة. فخلقنا العلقة مضغة. فخلقنا المضغة عظامًا. فكسونا العظام لحمًا. ثم أنشأناه خلقًا آخر».
ويزيد كشك على عبدالوهاب من الحقد بيتًا بل أبياتًا.
يقول له: لا تدرى من أين جئت، والقرآن بين أيدينا، وأنت تردد على أسماع الشباب فلسفة إيليا أبوماضى، وتقول: لا أعلم من أين، أتنكر الخالق يا عبدالوهاب؟.
لا أدرى على وجه التحديد من الذى كان يسمح لكشك بالخطابة، لا أقول ذلك لأنه كان يسب الناس ويلعنهم ويكفرهم من على المنبر، ولكن لأنه كان يقول أى كلام فارغ يأتى على ذهنه، دون أن يراجعه أو يدقق فيه.
لم يترك كشك عبدالوهاب فى حاله، فبعد أن غنى رائعته «من غير ليه»، التى كتبها مرسى جميل عزيز ومن ألحانه وأنتجت فى العام ١٩٨٩، أصدر كشك فتوى مع الشيخ صلاح أبوإسماعيل تجيز تكفير عبدالوهاب واعتباره خارجًا عن الملة، وقام أحد المحامين برفع قضية على عبدالوهاب مستندًا إلى فتوى كشك، الذى قال وقتها: هل من الإسلام أن يتساءل عبدالوهاب مندهشًا أو معترضًا: جايين الدنيا ما نعرف ليه؟ ألا يعلم لماذا جئنا وأننا إلى الله ذاهبون؟.
وقف عبدالوهاب أمام القضاء بسبب الشيخ كشك يواجه تهمة الكفر، لكن القاضى برأه وانحاز إليه مستندًا إلى رأى الشيخ عبدالله المشد رئيس لجنة الفتوى وقتها، بأن ما قاله عبدالوهاب لا يعارض الإسلام.
كان كشك بعيدًا عن المنبر، لكنه استخدم سلاح الفتوى الذى ما كان إلا للانتقام من عبدالوهاب، ولم يكن أبدًا لنصرة الإسلام.
لقد كفر محمد عبدالوهاب بشكل كامل، ولك أن تتعجب بعد أن تسمع منه هذا الكلام تجده يقول ويؤكد أنه لم يكفر أحدًا أبدًا، رغم أن هذا ليس جديدًا، فكل المتطرفين والمتشددين والإرهابيين والقتلة، يرددون هذا الكلام، دون أن يؤنبهم ضميرهم، فهم يفعلون الموبقات كلها ثم يصورون أنفسهم على أنهم المصطفون من قبل الله تعالى ليبلغوا كلمته.
لقد كشف هجوم كشك على عبدالوهاب وعبدالحليم وأم كلثوم عقلية متخلفة، لا تنظر إلى الإنسان إلا على أنه مجرد جسد، لا أبعاد نفسية أو روحية أو وجدانية أو وجودية لديه، ولذلك لا يفهم أن عبدالوهاب عندما يقول: جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت، فإنما يعبر بذلك عن أزمات نفسية يعانيها الإنسان مهما كان متدينًا، ويجد الراحة فى أن يسأل ويستفسر ويبحث عن إجابة.
ينتمى كشك إلى مدرسة ترى أن الله يريد من الناس أن يكونوا قوالب تخضع، رغم أن روعة الإله الذى نؤمن به جميعًا، أنه يريد قلوبًا تخشع، وما دامت القلوب هى سيدة الموقف، فالله وحده يعرف أنها بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيفما يشاء، ويعلم أنها تبعد عنه وتأتيه، ولا يلومها أبدًا، لكن هؤلاء الذين يتعاملون على أنهم وكلاء لله فى الأرض يريدون من الناس أن يسيروا على طريق واحد لا يحيدون عنه، ويتكلموا بلسان واحد لا يغيرونه.
كان كشك بما يقوله يحاول أن يؤمم الحياة على مقاسه، أو على مقاس الفكرة التى يدين لها بالولاء، وهى فكرة لم تكن إسلامية خالصة، ولكنها تعبير عن فهم ضيق جدًا للدين.
هل تعرفون ما الذى أفكر فيه الآن؟
إننى أضع أبطالى الخمسة هنا أمامى الآن، محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وأحمد عدوية وعبدالحميد كشك، أتأمل وجوههم، وأسأل: مَنْ الذى استطاع منهم أن يبقى، أن يترك أثرًا، أن يعيش مع الناس، أن يؤثر أكثر فى حياتهم؟
أعتقد أنكم تعرفون الإجابة.
لقد ضاعت شتائم كشك للمطربين الثلاثة، ضاعت خطبه فى الهواء لا يرددها أو يبحث عنها إلا القلائل ممن ينتمون إلى جماعته، وكلما مرت الأيام بهت وبهت ما يقوله.
عبدالوهاب لا تزال الملايين تردد معه «جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت».
ولا تزال الملايين تعشق عبدالحليم حافظ وتردد رائعته «رسالة من تحت الماء».
أما أم كلثوم فحدث عنها ولا حرج، فلا تزال كوكب الشرق، تكتشفها الأجيال المتعاقبة، ولا تزال تبحث عنها.
حتى عدوية الباقى الوحيد من الخمسة، أعاد الجمهور اكتشافه أكثر من مرة، وأعتقد أنه سيعيش أكثر من كشك كثيرًا، لأن أبناء الحياة هم من يفوزون بالخلود، أما الذين يكرهونها فلا بقاء لهم أبدًا.