رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: القبيح.. رجل بلا امرأة

أشرف عبد الشافي
أشرف عبد الشافي

بعد أن كتب الصفحة الأخيرة من روايته «لا تولد قبيحًا» وقبل أن يجف الحبر أطلق كاتبها رصاصة إلى رأسه تاركًا رسالة للنائب العام جاء فيها: «عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا فى أن يجعلونى أكفر بكل شىء»، وفى غرفة صغيرة أعلى كاتدرائية ضخمة عاش مخلوق دميم المنظر، ضخم الجثة بالقرب من فتاة جميلة، كان هو لقيطًا مشوهًا جاءوا به إلى كنيسة نوتردام فعزلوه بعيدًا عن الناس حتى لا يثير الرعب فى قلوبهم بخلقته الغريبة المخيفة، وكانت هى فتاة رقيقة هاربة من جريمة لم ترتكبها، وبنظرة حانية واحدة منها وهى تقدم إليه جرعة ماء هام قلبه بها عشقًا وهيامًا، وتخلصت هى من خوفها وأصبحا قصة خلدها الروائى الفرنسى فيكتور هوجو فى روايته العظيمة «أحدب نوتردام» وتنوعت الأعمال التى استعادت حكاية الجميلة والوحش، وكانت عيون الجاحظ مخيفة وحمل جحوظها اسمًا ولقبًا خالدًا حتى اليوم، وحمل سقراط وجهًا مشوهًا جعله محتقرًا ووضيعًا فى عين كثيرين على رأسهم زوجته، ولم يتوقف المازنى عن السخرية من ضآلة جسده وقصر قامته وساقه العرجاء، ولم يقتنع عبدالحميد الديب الملقب بشاعر البؤس بقبح منظره ونحافته وظل معتدًا بملامحه وهيئته متفاخرًا بذاته وهو فى قمة الأسى، وغرس الرسامون ريشتهم فى قلب القبح بحثًا عن الجمال، وظلت لوحة «الدوقة القبيحة» للفنان كونتين ماتيس خالدة حتى اليوم. و«لا تولد قبيحًا» اسم رواية لكاتب بائس عاش حياة أكثر بؤسًا وألمًا اسمه «رجاء عليش» لم يهتم بشأنه أحد حيًا فقرر الانتحار فلم يهتم أحد أيضًا!.
فى الرواية التى تشبه المذكرات المؤلمة لرجل مشوه وقبيح يعانى عقدة الاضطهاد، لا تملك سوى التعاطف مع البطل الراوى الذى يتحول فى كثير من المقاطع إلى فيلسوف يشرح معنى «القبح»، وكيف يمكن للمجتمع أن يقتل شخصًا لمجرد أنه ولد قبيحًا: «أنا رجل بلا امرأة.. بلا حقل للقمح.. بلا كرة للعب.. بلا ذكريات مضيئة.. بلا طريق للمستقبل»، وجاءت عبارات الرواية ومقاطعها على شكل زفرات ألم وحزن عميق تفوح منه رائحة الجروح والندوب التى شوهت روح هذا الكاتب ودفعته إلى العزلة التامة قبل أن يطلق رصاصة إلى رأسه ويمضى.
الإنسان القبيح- يقول عليش- لا يحس بأى عجز جسمانى يمنعه من الاستمتاع الكامل بالحياة كالآخرين.. إنه فقط يحس بحاجز شفاف وغير مرئى يحول بينه وبين الاندماج فى الحياة.. حاجز من صنع الآخرين الذين يضمرون له الكراهية والشر لمجرد أنه إنسان مختلف.. قبيح»، وأنا لم أكن أعرف رجاء عليش قبل قراءة مقال عنه للكاتب السعودى «خالد العقيب».
وقد شعرت بالخجل لأن خالد بحث عن هذا الكتاب المصرى وكتب عنه ونحن فى مصر لا يعرف معظمنا عنه شيئًا!، فانشغلت به وبحثت عنه حتى عثرت على نسخة من «لا تولد قبيحًا» الصادرة عن مدبولى الصغير عام ١٩٧٩، وفشلت فشلًا ذريعًا فى العثور على روايتة الأولى «كلهم أعدائى» التى صدرت عن دار مجهولة أو غير معروفة اسمها «أسامة للنشر والتوزيع»، كما ذكر خالد القعيب.
فى «لا تولد قبيحًا» التى أنصحك بالبحث عن نسخة إلكترونية منها لا يتوقف الكاتب عن توبيخ المجتمع الذى جعله كارهًا للحياة وما عليها، ويستغرق فى وصف شعوره بالضعف والهوان والرغبة فى الانتقام من كل البشر: «الناس يعاقبون الإنسان القبيح على جريمة لم يرتكبها هو بل ارتكبت فى حقه من جانب قوى مجهولة شيطانية كان يمكن أن تنكل بهم مثله لكنهم أفلتوا بمعجزة، بمجرد صدفة حسنة فى حياتهم.. يعاقبونه جميعًا.. يعاقبونه طول الوقت.. يعاقبونه حتى نهاية حياته».
وفى كل صفحة من الكتاب تشعر أنه معك يهمس لك بمدى الوجع الذى يعيشه، إنه يحلم أن يسير على النهر بجوار فتاة لها عطر جميل، يتمنى لو دخل صالة الألعاب ولم يتحول إلى سخرية للجميع، يشكو لك ويتألم من هذا العالم الذى يلاحقه فى المواصلات ويراقبه فى المقاهى والطريق العام.
ولا يحتاج القارئ جهدًا حتى يعرف أن الكاتب البائس استسلم تمامًا للصورة الذهنية الراسخة فى عقول البشر عنه، وراح يضخم من حجمها ويحولها إلى مأساة كبرى استغرقته حتى قضت عليه «ارقد أيها القلب المعذب فوق صدر أمك الحنون واسترح إلى الأبد، دع أحلامك الميتة تتفتح كزهرة تعيش مليونًا من السنين، أنت أيها الملاح التائه فى بحار الظلمات البعيدة، لقد جئت إلى أمك الأرض لتعيش فى حضنها إلى الأبد، ألقيت بمراسيك فى المياه الدافئة وأمنت من الخوف، نفضت عن شراعك الثلج والبرودة وأيقظت الشمس فى قلبك واسترحت إلى الأبد، نم هانئًا سعيدًا يا من لم تعرف الراحة فى حياتك، أحس بالأمن يا من عشت دائمًا بعيون مفتوحة من الخوف.. الموت أبوك والأرض أمك والسلام رفيقك والأبد عمرك».