رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السلطان قانصوه الغوري.. من القصر إلى المصير المجهول

السلطان قانصوه الغوري
السلطان قانصوه الغوري

ارتبط تاريخُ المماليك بالدم منذ اللحظة الأولى التي حكموا فيها مصر وبلاد الشام, فأول سلاطينهم عز الدين أيبك لقي مصرعه ضربًا بالقباقيب على يد زوجته الجسور الغيور "شجر الدر" التي لحقت به بنفس الأسلوب, وأيبك نفسه دبر عملية اغتيال الأتابك "قائد الجيش" فارس الدين أقطاي في دهاليز القلعة, والذي نفّذ عملية القتل هو "قطز" أصدق أصدقاء أيبك وحليفه ! .. وقطز نفسه لقي مصرعه على يد صديقه بيبرس, ولو لم يفعلها بيبرس لفعلها قطز بعد عودته إلى القاهرة .. ولا عجب في زمن العجب, إنه وببساطة النظام المملوكي في الحكم, والعُرف الذي نصّ على أن "الحُكم لمن غَلب" , و"الحاكم إما في القصر أو في القبر" .. ومن ثم, كانت تلك النهايات الدرامية لعهود كثير من سلاطينه, بينما كانت النهايات الهادئة, كالاعتزال السلمي للسلطة, أو النفي, أو الحبس, أو الوفاة الطبيعية هي الاستثناء. ومن بين هؤلاء المماليك الذين جرت عليهم القاعدة لا الاستثناء السلطان قانصوه الغوري.

من هو قانصوه الغوري ؟

هو جركسي الجنس من مماليك الأشرف قايتباي, أنعم عليه الأشرف قايتباي بوظيفة أمير عشرة (وظيفة عسكرية تعني أمير تحت أمرته عشرة فرسان وأحيانا عشرين, وهو أمير من الطبقة الثالثة) وما زال يتدرج في المناصب حتى وصل لقائد ألف, ثم ساقته الأقدار وحظه التعيس إلى كرسي السلطنة بعد هروب سلطان مصر العادل "طومان باي" في آخر يوم من رمضان سنة ست وتسعمائة للهجرة خوفًا على حياته. فلما أُشيع هروبه اجتمع كبار أمراء المماليك وتشاوروا حول من يرفعونه على عرش السلّطنة, واستقر رأيهم على تولية أمير تتوافر فيه شروط خاصة تخدم مصالحهم الشخصية, ومنها: أن يكون شيخًا طاعنًا في السن, زاهدًا في السلطة والسؤدد والحُكم, فيضمنوا بذلك ولائه ويأمنوا شره, ولم يجدوا خيرًا من قانصوه الغوري ذلك الشيخ الفاني الزاهد صاحب الستين عامًا. فتوجهوا إليه يوم عيد الفطر" فسحبوه وأجلسوه وهو يمتنع من ذلك ويبكي -على حد رواية المؤرخ المصري ابن إياس- واستجاب لإرداتهم صاغرًا مدحورًا وهو كاره, واستحلفهم أنهم إذا أرادوا خلعه لم يقتلوه أو يحبسوه, وإنما يصرفونه صرفًا جميلًا ..

تسلطن الغوري, وكان أول ما افتتح به عهده هو العثور على السلطان الهارب العادل "طومان باي" وقتله حتى لا يُثير عليه الفتن، ثم توالت في عهده فتنًا كقطع الليل المظلم.. فهذه فتنة المماليك سنة 1501م/907هـ اندلعت لعجز قانصوه الغوري عن دفع نفقة البيعة التي اعتاد المماليك أن يتقاضوها لدى ولاية كل سلطان جديد، ولخلو الخزانة من المال؛ فقد استمهلهم بعض الوقت، فلما فقدوا الأمل نزلوا إلى الشوارع، ونهبوا البيوت والمتاجر، ولم يتوقفوا حتى وعدهم بالدفع، وتلك فتنة أخرى سنة 1510م/916ه عندما رشق المماليك الجلبان (المماليك الذين جُلبوا حديثًا) الناس بالحجارة وطالبوا بمئة دينار لكل واحد، وعندما رُفض مطلبهم نهبوا الدكاكين، ولم تهدأ فتنتهم إلا عندما بلغهم أن الأمراء قد تجمعوا ليمسكوا بهم .. وهكذا مرت سنوات لم يعرف الغوري خلالها الهناء الحقيقي .. الصراعات حوله من كل جانب , والأمراء يحاولون اقحامه عنوة في صراعاتهم, بل ويخامرون عليه لخلعه, حتى إذا قال لهم "هاهي سلطنتكم خذوها لا أريدها !" رجعوا وتشبثوا ببقائه على العرش .. ينحنون له ويُقبّلون الأرض بين يديه, ثم يعتدلون من سجودهم ويسقونه الحنظل على حد وصف أحد الكُتّاب !! .

لكن هذا الرجل الزاهد في السلطة والمُلك, ما لبث أن تشبث بالسلطة, ودارت رأسه بخمر الحكم فلم يستطع أن يفيق منه, وأثبت أنه قادر على الوقوف أمام المحن والخطوب, فتمرّس على معاملة أعتى الأمراء. وبلغ من حرصه على كرسي السلطنة أن أرسل في المدائن حاشرين فأتوه بكل مُنجِّم وعرّاف عليم, فلما اجتمعوا بين يديه, سألهم عمن يملك الحُكم من بعده .. فتنبأوا له بأن مُلكه سينتهي على يد شخص يبدأ اسمه بحرف (السين) – حسب رواية المؤرخ ابن زنبل الرمّال -, فراح الغوري يُناصب العداء كل أمير يبدأ اسمه بحرف "سين", وفي مقدمتهم الأمير "سيباي" نائب الشام, فكان السلطان الغوري يرفض كل نصيحة منه, لاعتقاده أن ملكه سيزول على يديه أو يد غيره  حسب نبوءة العرًافين .

وكما يقول المثل القديم: "كذب المنجمون ولو صدقوا", فقد زال مُلك قانصوه الغوري عقب معركة مرج دابق سنة 1516م/922ه على يد سلطان يبدأ اسمه بحرف السين, ألا وهو السلطان العثماني "سليم الأول" .. ويعلّق وليد فكري على مشهد زوال مُلك قانصوه الغوري فيقول: واكتملت مأساة قانصوه الغوري بألا يعرف أحد موضع جثمانه, وألا يكون له قبر معروف تُقرأ عنده الفاتحة, فتحدث الناس عن نهايته رجمًا بالغيب, يقولون صدمته الهزيمة فأصابه الفالج ومات, ويقول البعض بل مص فص خاتمه المسموم لينجي نفسه من عار الأسر, ويقولون بل قتله السلطان سليم بسيفه .. لا يهم ما يُقال, فبعد أعوام المعاناة ترك قانصوه الغوري الدنيا بخيرها وشرها, ومضي إلى دار أخرى, ربما أرحم به من أهل ذلك العالم القاسي.