رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف يتحايل المصريون على الله؟

جريدة الدستور

- الدين عند المصريين أداة من أدوات الهروب من نكد الدنيا

يُخطئ من يظن أن بإمكانه الضحك على المصريين بكلمتين فى الدين، يستوى فى ذلك الجماعات الإسلامية، على رأسها جماعة الإخوان، ومن تواتر على هذا البلد من سلطات حاولت التمحك هى الأخرى بالدين فى مناسبات عديدة. فهذا الشعب يؤمن بالحياة إيمانه بالله. أسهل شىء بالنسبة للإنسان المصرى أن يهز رأسه وأنت تلقى إليه بالمواعظ فى الدين، لكن عقله يكون شاردًا فى الدنيا!.
وقد تعجب إذا قلت لك إن حب هذا الشعب للدين هو جزء من حبه للدنيا. فالدين عنده آلة لتمرير «مرارة» الدنيا. فبأعياده ومواسمه تحلو الحياة لحظات أو أيامًا، تستظل فيها المشاعر بنوع من الدفء والراحة، وتهنأ المعدة المشتاقة إلى أطايب الطعام، بما يعوضها الحرمان الذى تعانيه باقى أيام العام. وليس المصريون بدعًا فى ذلك، بل هم بشر عاديون عاقلون يفهمون المعنى الحقيقى للدين والدنيا. الدين عند المصريين أيضًا أداة من أدوات الهروب من نكد الدنيا. فعبر الآيات القرآنية الكريمة يفر المصريون من ظلم الدنيا متأملين عدل الآخرة، ومن جوع الدنيا ينطلق الحلم فى جنان الخلد، حيث تأتيك طيبات الطعام بمجرد التفكير فيها. من صميم الدنيا نشأ إيمان المصرى بالآخرة، وأصبح الموت بالنسبة إليه يعادل «كبة من دهب» -كما يقول المثل الشعبى- عندما تهزمه الدنيا.
دخل «نابليون» مصر، رافعًا شعار «الإسلام ديننا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا». وأخذ يتغنى للمصريين بقيم الإسلام، ويرفع كتاب الله بكلتا يديه، صارخًا فيهم بأنه يحلم باليوم الذى يدخل فيه مكة ووراءه جحافل المصريين ليعيد إلى الإسلام هيبته وسابق عزه ومجده، وشاركهم فى الاحتفال بالمواسم والأعياد الدينية، لكن كل ذلك لم ينطل على المصريين، فقد عاملوه بما هو معروف عنهم من «مهاودة»، بل ولعبوا معه نفس اللعبة، حين شاركوه فى الاحتفال بذكرى عيد الثورة فى فرنسا، وأعدوا له الثريد (الفتة) المغطى بطبقة من الأرز بالألوان الثلاثة للعلم الفرنسى!. سكت المصريون لذلك «الغشوم» الذى كان يلاعبهم بـ«الدين»، وكانوا يخمّرون له، فثاروا عليه الثورة تلو الأخرى، حتى تمكنوا من قطع دابر حملته على مصر. الأمر نفسه تكرر حين ظهر «هتلر» على مسرح الأحداث خلال الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩- ١٩٤٥) حين شاع بين المصريين أنه قد أعلن إسلامه وأطلق على نفسه «الحاج محمد هتلر». لم يصدق المصريون ذلك، وكان حماس بعضهم لدول المحور أساسه مكايدة المحتل الإنجليزى والرغبة فى التخلص منه، وحتى من انحازوا للألمان كانوا يؤكدون باستمرار أنهم لا يريدون استبدال محتل بمحتل.
خلطة عجيبة استطاع هذا الشعب الضارب فى أعماق التاريخ البشرى أن يبتدعها ليجمع ما بين الدين والدنيا فى قالب واحد، إلى حد لا تستطيع معه أن تقرر هل الإنسان المصرى متدين بطبعه، كما يزعم الكثيرون، أم هو إنسان دنيوى حتى النخاع؟. وواقع الحال أنه لا هذا ولا ذاك. فالشعب المصرى يجمع ما بين هذين النقيضين، فهو ببساطة يمكن أن يضحى بحياته فى سبيل ما يؤمن به، وهو بالمقابل لا يتوانى عن تجاوز أى قيمة دينية، مهما كانت محورية فى تدينه المزعوم، فى سبيل تحقيق المنافع الدنيوية. فالمصريون ليسوا «ديّانين»، ولا «دنيويين»، بل يصح أن نصفهم بـ«الدينيويين»!.. هكذا نحن: رجال ونساء. للمصريين مثل لطيف للغاية يقول «لو دخلت بلد بتعبد العجل حش وارميله»، أظن أن المعنى مفهوم. فالمصرى لا يتأخر عن مشاركة الآخرين طقوس دينهم حتى ولو كانوا يعبدون عجلًا يتقربون إليه بالبرسيم، لكن يبقى أن فهمه الخاص للدين من منظور أنه آلة لتفاعل أفضل مع الحياة والاستمتاع بها يظل مسيطرًا عليهم. وما أكثر العجول التى حش لها المصريون عبر تاريخهم.. ثم ذبحوها دون رحمة!.