رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات أسطوات الأغنية الشعبية «2»

سيد مرسي.. المكوجي الذي هزم ‏الأبنودي وسيد حجاب


كلما طالعنى وجه جدتى «زكية محمد أمين»، رحمها الله، طالعنى رغيف العيش الشمسى الخارج لتوه من فرن الخبيز البلدى المبنى فى ركن قصى من حوش بيتنا القديم.. ذلك ‏البيت الذى كان له باب من خشب صلب.. طوله يزيد على الأمتار الأربعة وفوقه «فلق خشب» ومن بعده «فلق» جريد مقطوع من نخلة طويلة سقطت بعد أن تعدى عمرها ‏المائة عام.. وله «فلق» من الخشب يعمل كمفتاح ويحتاج لرجل قوى البنية لزحزحته.‏

فى ذلك البيت.. وأعلى سقف ذلك الفرن.. تعودنا كلما جاءت «المغربية».. أن نضع ما لدينا من أكياس قطن فارغة وجلد أغنام كفرش نجلس فوقه نستمتع بدفء نار الفرن التى ‏همدت بعد أن «دمَّست الفول أو العدس».. كل الأسرة تتكوم فى ذلك الجزء من حوش البيت فى انتظار صوت محمد رفعت ومدفع الإفطار ومسلسل شويكار والمهندس الذى يأتينا ‏من «الراديو الخشب».‏

كانت الحياة فى شتاء ذلك العام صعبة.. والدى غادرنا إلى ليبيا بحثًا عن لقمة عيش مثله مثل معظم أبناء الصعيد الذين عرفوا الطريق إلى الخارج.. وتعودنا أن ننقل المحطة ‏تلقائيًا فى تمام السابعة والنصف- لم يكن هناك لا تليفزيون ولا كهرباء ولا كاسيت- الراديو الخشب وبس.. إلى محطة «صوت أمريكا» حيث موعد «ما يطلبه المستمعون من ‏الأغانى العربية».. وكانت هناك أربع أغنيات تتكرر من حين لآخر.. أولاها «والنبى وحشنا يا غايب عننا» ومعاها غنوة اسمها «طارت الطيارة والحبايب طاروا.. يا رب ترجع ‏يا رب كُلْ غايب لديارو».. وبعديها «بلاش تفارق.. خليك هنا خليك».. وساعات «كله ماشى».. والغريب أننى ارتبطت بالأخيرة وبخاصة مقطع
‏«ماشى وسلمت أمرى.. ضيعت يا قلبى عمرى
علشان نلقى حبايبى.. يستاهلو.. مالقيناش».‏

ووجدتنى وأنا ابن السنوات العشر أحفظها.. وأغنيها لأصحابى من رفاق «فرقة جمع اللطعة».. فى غيطان القطن.. وحكاية جمع «دود اللطعة» يعرفها معظم الصعايدة.. وغالبًا ‏ما كانت تحدث فى أيام «إجازة الصيف» قبل أن تتفتح أزهار «لوز القطن».. وهو عمل شديد الصعوبة على الكبار فى «الحر الصعيدى القائظ» فما بالك بالأطفال؟.. المهم إحنا ‏كنا واخدينها لعبة.. البنات «يغنوا» ما تيسر من أغانى الريف ومعظمها فى محبة العريس المنتظر.. أما أنا وحدى فقد تخصصت فى أغنية محرم فؤاد اليتيمة التى أحفظها حتى ‏‏«صدقت أن صوتى حلو.. وأننى أشبهه»!.‏
فاتت سنوات أنور السادات العشر.. وسافر من سافر إلى ليبيا ومن بعدها إلى العراق.. ومن بعدها للسعودية والكويت حتى يكاد لا يخلو بيت صعيدى من رجل غادر إلى ‏‏«الخارج».. وعاد بالمروحة والثلاجة والتليفزيون وجهاز «الكاسيت» أبوشرايط بتسف.. وكانت معظم سيدات قريتى اللاتى كن يستخدمننى فى قراءة خطابات ذويهن المسافرين ‏والكتابة لهم أيضًا لا تخلو «خزائن» و«سحارات» بيوتهن المزركشة من شريط «خايفة لما تسافر للبلد البعيد.. تنسى إنك فايت فى بلدك حبيب». ولمّا كبرت.. وأصبحت ‏مغتربًا.. طاردتنى أغنيات أخرى.. لمحمد منير «سؤال بسألك إيه آخرة الترحال».. وعلى الحجار «ما تغربيناش وتقولى قدر».. ومحمد فتحى «كان عايز يقول وما قاليش».. ‏وصرت أنظر إلى محرم فؤاد من بعيد جدًا.. وإلى أغنيات شادية ووردة من جبل «عالى».. وأضحك على تلك الكلمات التى كنت أظنها تافهة «وعلى من كتبها كذلك».‏
ولم أكن أدرى أننى كنت طفلًا فى رؤيتى القاصرة تلك للفترة.. وأغنياتها.. ومن كتبها.‏




‏«جواب غرامى» لخادمة مأمون الشناوى فتح أمامه باب الشهرة بأغنية «ع الحلوة ‏والمرة»‏
للدكتور مصطفى عبدالعزيز مرسى، مساعد وزير الخارجية الأسبق، كتاب رائع اسمه «المصريون فى الخليج» صدر فى القاهرة عام ٢٠٠٣.. وفيه يرى الرجل أن ظاهرة هجرة المصريين للخارج لم ‏تكن مقصورة على فئة معينة أو شريحة من المجتمع المصرى بل امتدت لتشمل جميع الفئات والمهن والأعمار.. ويؤكد أن «الدافع الأساسى للاغتراب يعود لاعتبارات اجتماعية واقتصادية خاصة، بغض ‏النظر عما يقال إن السادات فتح الباب للهجرة مع الانفتاح والسلام شبه الناقص مع إسرائيل.. فليس هناك سبب أو دافع أقوى من الصعوبات المعيشية أو المالية ليضطر الرجل إلى مغادرة أرضه وفراق ‏أهله».‏
وبغض النظر عما ارتبط فى أذهان مثقفينا وفى ذهنى أيضا عن تلك الفترة وتحولاتها السياسية والاجتماعية المفزعة.. إلا أننى عشقت «سيد مرة»، صاحب أهم الأغنيات العاطفية التى تحدثت عن الفراق ‏والغربة فى فترة السادات وما بعدها.‏
سيد مرة.. ليس اسمه.. لكن هو اللقب الذى عرف به فى أوساط «أهل المغنى» ذلك أن أغنيته الأولى هى واحدة من أشهر وأعذب أغنيات عبدالغنى السيد واسمها «ع الحلوة والمرة».. وقصتها أكثر ‏روعة من كلماتها.. وهى كلمة السر التى صنعت من «مكوجى» واحدًا من أهم وأنبل شعراء الأغنية فى مصر فى المائة عام الأخيرة.. وبالمناسبة الرجل تؤكد المراجع أنه عاش مائة وثمانى سنوات حيث ‏ولد عام ١٨٨٧.. وتوفى نهاية التسعينيات من القرن الماضى.‏
عمنا الشاعر سيد مرسى.. صاحب «احضنوا الأيام لتجرى من إيدينا».. وصاحب «وأتارى الدنيا غدارة بتغدر كل يوم بينا».. وصاحب «ردوا السلام ياهل الله».. هو نفسه ذلك المكوجى الذى كان يعمل ‏بالقرب من بيت الشاعر الشهير مأمون الشناوى.. وهو نفسه الذى كان يكوى له ملابسه- بمكواة الرجل- وهو نفسه الذى كان يحب خادمة الشناوى التى كانت تأتى له بالملابس ليكويها ولا يستطيع أن يعبر لها ‏عن عشقه مباشرة، فقرر أن يكتب لها مشاعره فى ورقة صغيرة وضعها فى «هدوم» صاحب المنزل.‏

وحسب أكثر من رواية موثقة كان الشناوى وقتها فى أوج شهرته يشكل ثلاثيًا رائعًا مع الملحن محمود الشريف والمطرب عبدالغنى السيد.. وفى إحدى المرات وجد فى بنطلونه ورقة بها كلمات أغنية ‏تقول:‏
‏«ع الحلوة والمرة
مش كنا متعاهدين
ليه تنسى بالمرة..‏
عشرة بقى لها سنين... إلخ».‏

وظن الرجل أنه كتبها منذ فترة ونسيها.. لكنه عندما أمعن فى الكلمات تأكد أنه لم يكتبها.. وأنه لا يكتب بهذه الطريقة فنادى على خادمته يسألها عن سر الورقة ليكتشف أن المكوجى هو صاحبها.. وأنه ‏يراسلها بهذه الطريقة.‏
وظنت الفتاة أن الرجل سيقطع عيشها بسبب هذه الفضيحة لكن الشاعر الكبير الذى كانوا يلقبونه بـ«مديون الشناوى» لأنه كان يدمن مساعدة الآخرين حتى ولو بآخر قرش فى جيبه مما يضطره للاستدانة.. ‏قرر اكتشاف المكوجى فأرسل الخادمة فى طلبه وطلب صديقه الملحن محمود الشريف وأقنع المكوجى بكتابة باقى الأغنية وجاءوا بعبدالغنى السيد ليغنيها فى الإذاعة وتنجح بشكل فاجر حتى إن عشرات ‏المطربين أعادوا غناءها بعد ذلك، ومن بينهم نجاة الصغيرة التى غنتها فى أحد الأفلام.‏

كتب لـ«شادية وهدى سلطان وعفاف راضى».. وبليغ حمدى فضَّله على الجميع
عمنا سيد محمود مرسى.. الذى أصبح اسمه سيد مرسى الشهير بسيد مرة.. انطلق بعدها يكتب لعشرات المطربين فى الإذاعة وفى شركة «مصر فون» لصاحبها محمد فوزى.. الذى تعرف من خلالها ‏على بليغ حمدى الذى آمن بموهبة سيد مرسى ولحن له عام ١٩٥٨، بعد أول مرة التقاه فيها، واحدة من أندر أغنيات نجاة الصغيرة اسمها «وحياة ابنى وابنك».. وهى واحدة من الأغنيات التى ترجو الرجل ‏المفارق العودة إلى بيته بطريقة بسيطة ومدهشة تميز بها سيد مرسى فيما بعد:‏
‏«وحياة ابنك
وحياة ابنى
ما تفوتنيش فى النار
وتسيبنى
ارجع تانى
مش علشانى
علشان خاطر ابنك وابنى».‏

بهذه الطريقة السهلة فى السرد والنفاذ إلى المشاعر البسيطة تسلل سيد مرسى إلى حناجر عشرات المطربين.. خد عندك «لا يا سى أحمد» من ألحان محمد فوزى لشادية.‏

ومن ألحان فوزى أيضًا «يا حنين يا أبو قلب حنين» لمها صبرى، و«يا قاصدين النبى» لفاطمة على من ألحان عبدالعزيز محمود، و«مافيناش من قولة آه» لهدى سلطان.. ثم تأتى النقلة الكبرى لسيد ‏مرسى الذى ترك المكواة.. والوظيفة التى جاءت إليه فى الحكومة بعد ذلك.. عندما قرر بليغ حمدى الاستغناء عن خدمات الأبنودى وسيد حجاب ومجدى نجيب وكل شعراء العامية الكبار اللى عاملين عليه ‏‏«زعماء».. وقرر أن يتعاون مع محمد حمزة.. وسيد مرسى.. لتبدأ عفاف راضى رحلتها مع الرجل بـ«ردوا السلام».. و«آهى دى الدنيا» التى غنتها فى فيلم «المولد».. ثم يكتب مرسى سلسلة أغنيات ‏وردة الشهيرة: «اشترونى، اسمعونى، ولاد الحلال، احضنوا الأيام».. وأيضا «وحشتونى» ولها قصة لطيفة يحكيها عمنا سيد مرسى بنفسه، فيقول إنه كان يركب مع بليغ حمدى سيارته الشهيرة.. وكعادة ‏بليغ.. يسوق وهوه مش واخد باله.. عمل حادثة.. وظل «الشاعر مرسى» فى المستشفى أربعة أشهر فى حالة يرثى لها.. فأرسل له بليغ سيناريو فيلم «حكايتى مع الزمان» ليكتب إحدى أغنياته، وبمجرد أن ‏وصل الورق إليه شعر أن «العالم بتاعه وحشه» فكتب «وحشتونى.. وفكرتونى باللى فات» لينجح الفيلم وأغنياته، ويخرج سيد مرسى من المستشفى ليكتب عشرات الأغنيات لفايزة أحمد التى غنت له من ‏ألحان زوجها محمد سلطان «خليكوا شاهدين على حبابينا.. خليكوا شاهدين».. ولميادة الحناوى التى قرر بليغ الدفع بها لمنافسة وردة والجميع بعشرات الأغنيات ومنها: «أول وآخر حبيب».. و«فاتت سنة».. ‏و«أنا أعمل إيه».. وهناك أغنيات كتبها سيد مرسى لميادة ولحنها بليغ وسجلتها فى اليونان ولم تصدر حتى الآن وما زالت فى حوزة محسن جابر منها «أنا اللى جبته لنفسى».‏



رفض مغادرة حى بولاق أبوالعلا لكن الزلزال هدم نصف منزله
ارتبط عمنا سيد مرسى بالمنطقة التى ولد بها وعاش فيها كل نجاحاته وإحباطاته.. ارتباط عم سيد بالناس والأماكن غريب جدًا.. فيحكى أنه كان لا يفارق مأمون الشناوى الذى اكتشفه وقدمه للناس ‏لدرجة ضايقت الشناوى.. ففى إحدى المرات يقول عمر بطيشة: «ذهب سيد مرة إلى الشناوى يطلب منه جنيها سلف.. فأعطاه له.. وبعد ساعة فوجئ به فى ملهى الباريزيانا.. فغادر إلى مكان ‏آخر.. وبعد ساعة وجده بجواره فى نفس المكان.. فانزعج وصاح فيه.. هو مش انت طلبت جنيه واديتهولك.. هوه انت خدت الجنيه عشان تتابعنى بيه؟.‏
تفاصيل سيد مرسى الصغيرة تحتاج إلى كتاب كامل.. لكنها السر الذى مكنه من كتابة أدق تفاصيل حياتنا البسيطة وهى السياسة بعينها.. ‏
السياسة التى هرب منها الرجل الذى أمضى حياته كلها فى حى بولاق أبوالعلا رافضا أن يغادره.. ولم يجبره على ذلك سوى زلزال عام ١٩٩٢ الذى أودى بنصف منازل المنطقة وأطار نصف ‏منزل عم سيد مرسى فغادر مضطرًا.. وبقيت أغنياته ومنها أغنية وحيدة لها علاقة مباشرة بعالم السياسة تلك الأغنية التى تضمنها فيلم «إحنا بتوع الأتوبيس».. والتى لحنها بليغ حمدى وكتبها عم سيد ‏بطريقته السهلة المباشرة.. فالبلد بالنسبة له ليس سوى تلك التفاصيل الصغيرة:‏
‏«ليا مين غيرك يا بلدى
ليّا مين..‏
يا للى علمتينى إيه
معنى الحنين..‏
انتى اللى أرضك طيبة
والغربة فيك قُريَّبة
وحنينة على قلبنا طول السنين.‏
‏..‏
وشرفك يا بلدى
سحابة وتعدى
وبرضه انتى بلدى..‏
مهما عملوا يا بلدى فيكى
احنا ليكى.. واحنا بيكى
احنا يا ما خدنا منك..‏
فيها إيه لو يوم نديكى».‏