رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات أسطوات الأغنية الشعبية «1»

عمر الجيزاوي.. الصعيدي الذي قتله ‏محمد عبدالوهاب


رغم أنه مات من سنين طويلة.. ورغم أن كل العمر الذى قضيته فى حجره لا يزيد على عشر سنوات هى الأولى فى عمرى.. إلا أنه لا يزال يمازحنى ويقتحم ذاكرتى بملامحه ‏الحلوة.‏

اسمه عبدالرحمن على.. مطلعش من بلدهم إلا مرة واحدة عشان يروح الجيش.. وباقى عمره فى «الكرم» يطلع النخلة بالمطلاع وفى إيده البلطة.. يشيل «الكرنيف» ويزوقها.. ‏وفى موسم «التلقيح» يطرحها.. وفى موسم الطرح يجنيها.. كل يوم الصبح.. بعد الفجر.. يصلى الصبح.. ويفطر كام بيضة مطقشين فى السمن البلدى وريحتهم فايحة لأول ‏الجسر والبيض بيبكبك فى طاجن الفخار.. ويحبس بواحد شاى.. ويتكل على كرم النخل وخلفه كلبه الأسود الذى لا يفارق ضله وعيال النجع وأنا معهم.. وشمس الصيف تغسل ‏عيوننا من تعب النوم.

تحت النخلة «الرطبية» نقف ونلهو فيما يساقط الرُطبْ جنيًا.. بعد أن يفيض عن «المقطفين اللذين يحاصران جسده الذى نحل».. وبعد أن ينزل من على ضهر نخلته.. يمازحنا ‏كالعادة بكام بلحة نصها رطب ونصها مقرمش انتقاها ووضعها فى سيالته.. وبعدها يبدأ رحلته مع «النشوق».‏

‏«النشوق.. أيوه يا سيدى.. ما تعرفوش هقولك».‏
فى قريتى محل واحد فقط لبيع الدخان.. السجائر والمعسل والنشوق.. كانت وما زالت تحتكره عائلة واحدة، رغم أن معظم أبنائها أطباء وقضاة ومحامون، لكنهم على عهدهم ‏مع هذه التجارة التى لا يعرف أسرارها أبناء الزراع من أمثالى.. ولأن المحل كان فى «السويقة».. كنا نذهب ذلك المشوار مرتين كل يوم تقريبًا.. إحداهما فى الصباح لشراء ‏‏«حُق النشوق» لجدى.‏

والنشوق يا سادة كما يقول أهل اللغة.. هو «كل دواء يُصب فى الأنف أو يُشم وجمعها أنشقة»، وكما جاء فى المعجم الوسيط هو «حَبْ سعوط فى الأنف».. وفى الحديث أنه كان ‏يستنشق فى وضوئه ثلاثًا.. أى يبلغ الماء خياشيمه.‏

ويقال «الشمَّة».. وفى السودان سعوط أو تمباك.. وفى العراق وسوريا «البرنوطى».. وفى المغرب والجزائر «كاله».. ودى ملهاش علاقة بـ«الكُلة» اللى بتشمها العيال تحت ‏الكبارى.‏
حُقْ النشوق بالبلدى.. حُقْ دخان.. علبة دخان صفيح.. ما يوجد بها هو نوع من «التبغ» أصله هندى.. و«الشمة» تعادل فى تأثيرها أربع سجاير كليوباترا.. هكذا قالها جدّى ‏وهو يعطس ويكح عقب أول شمة. 

سألته بعدها عن سر ذلك «المدعوق» الذى أذهب لشرائه مشيًا على الأقدام بالكيلومترات.. ثم ضحك وسألنى يا فكيك مسمعتش عمر ‏الجيزاوى وهوه بيغنى «معانا الفكك والفكوك.. معانا الكُحْل والنشوق»؟! وطبعًا مكنتش سمعت.. لا الجيزاوى ولا أغنية النشوق إلا بعد عشر سنوات كاملة حينما جئت إلى ‏القاهرة بحثًا عن «العتبة» واللى اشتروها.‏




الفنان محمد فهيم يؤدي أغنية الجيزاوي



لم يكمل تعليمه.. غناؤه فى فرح ابنة أحد المقاولين وراء شهرته.. وزفاف جيهان والسادات ‏‏«وش السعد»‏

عشان أعرف أروح العتبة لوحدى، كان لازم أركب أتوبيس يتوه بيا عشان أحفظ الأماكن.. ما هونتا لازم تتوه عشان تعرف.. دى كانت نصيحة جدى بتاع النشوق ليا، وأنا جاى القاهرة لأول مرة.. وكلى ‏خوف من أن «أشترى العتبة» زى الصعيدى اللى شفته فى الفيلم.. ورغم أنه لم يكن «عمر الجيزاوى»، لكن تلك الصورة ظلت فى ذهنى كلما تعرضت لحالة نصب من أحدهم.‏

المهم.. وأنا فى العتبة مع بلدياتى عبدالله الوردانى.. بندور على هدوم تنفع نشتغل بيها فى المعمار.. لقينا محل شرايط كاسيت وقدامه ناس بتبيع الشريط أرخص من اللى فى المحلات.. كان اسمه «نجمة ‏العتبة».. وكانت صورة عمر الجيزاوى هناك.. على أكثر من «ألبوم».. ولأن الدنيا حر موت.. كان من الطبيعى أن نردد أنا وأصحابى الصعايدة «عشطان تعالى اشرب» ونقرر شراء الألبوم وإحنا مش ‏عارفين لا اسمه ولا صاحبه بس بنغنى معاه.. ده العرقسوس تلج فى القدرة ويايا.‏


والعرقسوس الذى يغنى له الجيزاوى مشروب جديد علينا.. لم نكن نعرفه فى الصعيد.. إحنا عندنا «العرديب والكركديه وعصير القصب والبوظة».. لكن عرق سوس ويتشرب دى حاجة صعبة.. لكن ‏الأصعب هو نهار القاهرة فى أغسطس، حيث كنا نعمل فى بناء مدينة ملاهى السندباد.. ورجل العرقسوس يغازلنا بندائه الشهير وصوت الصاجات بتاعته «وخد منى كباية».. و«الكوباية يا دوب بعشرة ‏صاغ».
 طول الصيف أسمع عمنا عمر الجيزاوى حتى أدمنته.. وصرت أسأل عنه وعن حكايته لأكتشف أنه صعيدى زى حالاتى.. المنشور عن تاريخ ميلاده وموقعه يؤكد أنه من مواليد حارة درب الروم ‏فى الجيزة فى ٢٤ ديسمبر من عام ١٩١٧.. لكن ابنته «فرفش» تؤكد فى حوار منشور أجرته معه الزميلة سماح جاه الرسول، أنه مولود فى «أبوتيج» بأسيوط فى ١١٥١٩١٧.. وأنه ظل هناك مع ‏أخويه لفترة عاملًا فى ورش الطوب وفى المعمار، حيث كان والده من رجال المقاولات التى دعته لأن «يتوسع»، ولأن الرزق فى الصعيد قليل جاء للقاهرة وأقام فى شارع المأمون بالجيزة.. وهناك لا ‏يزال بعض أفراد عائلة الجيزاوى وبالتحديد ابنه عبدالله.. فيما ذهب عمر نفسه إلى فيلا فى شارع نصرالدين بعدما فتحت الدنيا أبوابها له.

لم يكمل عمر سالم - وهذا اسمه الحقيقى - تعليمه، قرأ فى الكُتّاب ‏لكنه أحب العمل مع والده.. وعندما كان يشارك العمال رفع الأسمنت على السقالة، كان يغنى وسمعه أحد المقاولين فطلب مشاركته فى حفل زفاف ابنته، لينطلق بعدها فى كل أفراح المنطقة ومنها لمناطق ‏أخرى قريبة حتى وصل إلى فرح جيهان على أنور السادات، ومن الفرح إلى عالم السينما حيث أصبح أحد ثلاثى «الرحيمية قبلى».‏

البوليس السياسى اتهمه بـ«الشيوعية» رغم أنه لا يعرف عنها شيئًا
اضطرت ظروف الحرب العالمية الأولى وتداعياتها، أسرة الجيزاوى لترك أسيوط والرحيل للقاهرة.. وذهب بقدميه إلى زفاف أنور السادات.. لكن البوليس السياسى الذى كان يتابع نجاحاته ‏وسخريته من الملك فاروق، ذهب إليه رغم أنفه بدل المرة مائة مرة.. حتى أصبح الرجل مطاردًا بتهمة «الشيوعية».‏

ليست نكتة.. ذلك الرجل الصعيدى الذى يلف عمامته بطريقة كوميدية ويغنى بلسان معوج ينادى على عطارته.‏
‏«معانا الحنة الحجازى.. حنِّى حبايبك واتحنى
الدنيا بحالها ما تجازى.. ورقة من ورق الحنة».‏
أصبح رجلًا مطاردًا بتهمة لا يعرف عنها شيئًا لا لشىء سوى أنه رفض أن يمدح الملك فى مونولوجاته.. وإذا كان قد استطاع أن يهرب من شبح الفقر ويسكن فى فيلا ويركب سيارة، فإنه لم ‏يستطع أن يهرب من كلاب السلطة، فقرر أن يعتزل الغناء والتمثيل ويجلس فى بيته بعد أن قدم أول أفلامه السينمائية.. وقتها كان محمود الشريف يغنى على لسان أحلام المصرية «يا عطارين ‏دلونى.. الصبر فين أراضيه».. ولم يصبر الجيزاوى كثيرًا فقد أنقذته ثورة يوليو من عزلته بعد أن عزلت فاروق وحاشيته ليعود عمر ويصبح أحد رجالها ومناصريها الأشداء.. بالمال.. والغناء. فى ‏كل خطوة سلامة.. ومن نجاح لنجاح
دى معجزات وكرامة.. يا ثورة الإصلاح..‏

سبعين سنة وزيادة.. باتم ضلام فى ضلام
ما بين قلم وزيادة.. من قسوة الحكام
ولما هل هلالك.. كل الوجود غنا لك
وإحنا رفعنا الهامة.. وكل قلب ارتاح
دى معجزات وكرامة.. يا ثورة الإصلاح..‏

غنى «سالمة يا سلامة» بعد نجاة عبدالناصر من الاغتيال.. وفرنسا طبعت صورته على ‏‏«علب الكبريت»‏


انحاز عمر الجيزاوى للثورة مبكرًا.. وحينما نجا عبدالناصر من محاولة اغتياله فى المنشية غنى له «سالمة يا سلامة».. وعندما ضحك ناصر على الأمريكان وبنى بأموالهم برج القاهرة.. غنى ‏الجيزاوى.‏
م البرج العالى بصيت
على بلدى الغالية.. بصيت
شفت الهرمات
شفت الأثرات
وقريت الفاتحة لأهل البيت
م البرج العالى.. بصيت
شفت المريخ..‏
من غير صواريخ..‏
ونجوم وسحاب
ماشيين بحساب
فكرت أجيب حملين بطيخ
لأهالى السهرة ونبقى صحاب..‏
طردونى من بره وأنا جيزاوى
وفى علم الذرة.. أفتى فتاوى
وقريت فى تاريخنا واترويت
م البرج العالى.. بصيت.‏
وكان الطبيعى أن يستفيد الجيزاوى الذى كان يلحن معظم مونولوجاته من الموروث الشعبى الذى يعرفه، فغنى «صعيدى ولا بحيرى.. وعلى حسب وداد قلبى» قبل أن يعيد عبدالحليم حافظ غناءها بعد ‏سنوات.
ويغنى أيضًا لخير الإصلاح الزراعى «يا حلوة ضمى الغلة».‏
يا بيضة ضمى الغلة
يا سمرا ضمى الغلة
غلتى نادية غالية عليا
من خير طينتنا المصرية
غنيتلها يا حلوة شويه
قمره على الغاب.. هاله..‏
ويا حلوة ضمى الغلة.‏



وربما لا يعرف بعض عشاق الجيزاوى ممن يحبون ابتسامته وهو يردد «اتفضل قهوة.. والنبى تيجى لع.. اللع» أنه سافر إلى معظم دول العالم بفرقته.. وعرض على مسارح إيطاليا وباريس، ولأنه حقق ‏نجاحًا مدويًا فى فرنسا.. طبعوا صورته على علب الكبريت.. وتزوج من إحدى الإيطاليات التى كانت تذهب للفرجة عليه كل يوم.. وفعلها فى فرنسا أيضًا.. وفى لبنان.. وكما تؤكد ابنته تزوج عشر ‏مرات.. وأنجب عشر مرات.. وذاع صيته الآفاق.. لكنه لم ينس أبدًا أنه صعيدى ومع الثورة.. فلما جاء العدوان الثلاثى ومن بعده النكسة وحرب الاستنزاف.. شارك فى حفلات المجهود الحربى.. وغنى ‏للكثيرين من الشعراء الكبار من أمثال مصطفى الطاير وحسيب غباشى.. وأيضًا عبدالرحمن الأبنودى الذى كتب له أغنية نادرة اسمها «البندقية» لحنها حسن نشأت. ‏
هذا الرجل العنيد الذى لم يهزمه الفقر.. ولا البوليس السياسى.. ولا الموت.. ولهذا قصة طريفة.. فقد كان الجيزاوى يجلس بجوار سائقه الخاص فى سيارته، وهم عائدون من سهرة ريفية وإذا بالسيارة ‏تنحرف وتغطس فى الترعة وينجو السائق الذى قفز فيما تستقر السيارة لمدة ١٣ ساعة فى بطن الترعة.. حتى جاءت الشرطة والإسعاف ونقلت الجيزاوى ميتًا إلى المشرحة.. وعندما جاء الطبيب ليمارس ‏عمله فى تشريح الجثة، فوجئ بعمر ينتفض جالسًا ليصاب الطبيب بصدمة أودت بحياته.. وعاش عمر. ‏
عاش عمر.. سنوات بعد تلك الواقعة.. لكن أغنية وطنية قتلته.‏
كان الرجل قد تم تكريمه من جمال عبدالناصر فى حياته.. ومن الرئيس السادات أيضًا.. لكن فى احتفالات مصر بعودة سيناء فوجئ الجيزاوى بالفنانة شادية التى سبق وأن شاركته التمثيل فى عدة أفلام، ‏تغنى من ألحان جمال سلامة «ياللى من البحيرة وياللى من آخر الصعيد».. وزمجر الرجل، فقد سجل هذه الأغنية من كلمات مصطفى الطاير وألحانه فى بداية الخمسينيات بالإذاعة المصرية.. فكيف ‏ينسبونها لجمال سلامة؟.‏

وذهب الرجل إلى المحكمة.. وقضت جمعية المؤلفين والملحنين بنسبة نصف اللحن والأغنية لجمال سلامة ونصف اللحن لعمر الجيزاوى.. ونصف كلماتها لمصطفى الطاير والنصف الآخر لعبدالوهاب ‏محمد.. لكن ما أفجع الرجل وجاب له جلطة هو شهادة عبدالوهاب.. أى نعم محمد عبدالوهاب الذى تعود على اقتباس جمل لحنية كاملة ونسبها لنفسه، رأى أن «ياللى من البحيرة وياللى من آخر الصعيد» ‏مجرد نداء زى «يا أيها الناس».. لا يمكن نسبته لأحد.. أصيب الجيزاوى بالاكتئاب.. وأودت به الجلطة إلى شلل أقعده حتى وفاته فى ١٩٨٣.. فيما ظلت ابتساماته.. ومونولوجاته.. وألبومه الأول الذى ‏طبعته شركة «فيليبس» ثم أعادت نجمة العتبة وشركات أخرى طباعته فى «شرايط كاسيت» ترن فى أذنى حتى الآن:‏
ياللى من البحيرة وياللى من آخر الصعيد..‏
النهاردة نصرة.. وكل يوم تزيد