رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طهاة موائد الرحمن.. صائمون يستخلصون أرزاقهم من جوف اللهب

جريدة الدستور

"حرارة ترتفع من قاع الإناء، الموضوع على الموقد متعدد الشعلات، وعرق يتصبب فوق الجبين، وبينهما محمد سالم، 30 عاما، يدور بين أغطية الآنية يتابع حالة ما بداخلها من أطعمة، استعدادا لتقديمها لرواد مائدة الرحمن التي يعمل بها في شارع الأزهر بحي الجمالية.

درجتان من سلم متهالك في أحد شوارع القاهرة الفاطمية، تأخذك إلى الأسفل، حيث جهز أهل الخير كما يسميهم المصريون، مائدة رحمن تستقبل الصائمين طوال شهر رمضان، يعمل فيها سالم واثنين من رفاقه الطهاة، طوال الشهر، بعد أن جاءوا من محافظة المنوفية للعمل بالعاصمة.

ما إن تقترب الساعة من العاشرة صباحا في هاتف سالم المحمول، حتى يشرع في عمله، بإحضار خضروات اليوم من سوق الأزهر، ويحملها هو وزميله محمود صبري، حتى يصلا إلى مقر عملهما.

ممسكا بمعلقة كبيرة "كبشة"، ومنشغلا في تقليب بعض الطعام أمامه، يقول سالم: "بقالي 10 سنين واقف قدام النار، وياما عدت علينا أيام أصعب من كده، كفاية علينا السخونية بتاع الزيت، لكن في رمضان يكون لينا وقت معين نفتح فيه".

بعدما ينتهى سالم مما في يده، يقول لـ"الدستور": إن العمل في رمضان هذا العام قاس جدًّا، خصوصا في وقت الذروة أو الظهيرة، حيث يكون العمل على أشده، وكذا أشعة الشمس التي لا ترحم.

في مائدة سالم التي تستقبل قرابة 200 فرد من الصائمين قبيل أذان المغرب يوميا، العمل موزع بين ثلاثة نفر، أحدهم مسؤول عن التنظيف، والثاني مهمته الطهي، بينما الثالث مسؤول بشكل رئيس عن تحضير المائدة وتوزيع الطعام عليها، وتجهيز العصائر والسلطات، وفي بعض الأحيان يسرع أحدهم لنجدة الآخر إن تطلب الأمر ذلك.

أصعب ما يواجه سالم ورفاقه هي عملية تذوق الطعام، وبحسب قوله: "لا يمكن أن يتناول الصائمون طعاما غير جيد، فالأخطاء غير مقبولة في عملنا لا سيما في شهر رمضان"، ويضيف أنه قبل أن ينتهي من عمله يحاول تذوق بعض الطعام بطرف لسانه، ثم يهرع للماء ليتمضمض حتى لا يفسد صومه.

لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لمحمود صبري (25 عاما)، أحد العاملين بمائدة الرحمن، في شارع الأزهر، فأكثر ما يؤرقه هو الآخر، هو طول فترة الصيام، وارتفاع درجات الحرارة.

ويقول صبرى لـ"الدستور"، إنه يتقاضي 100 جنيه عن عمله في اليوم، إلا أنه يشتكى من ضيق فترات الإجازة حيث من غير المقبول أن يتقاعد أحدهم أو يتغيب عن العمل حتى في حالة وجود مبرر لذلك، كالمرض أو الإعياء، كما أنه لا يتمكن من تناول طعام الإفطار مع أسرته سوى مرة واحدة أو مرتين في الشهر.

ويتنهد الشاب الثلاثني، بعد أن كست وجهه موجة من التجهم، ليبدأ في سرد معاناته مع مهنته، التي اضطرته مصاعب الحياة إلى العمل فيها، مشيرا إلى أنه ورث هذه المهنة عن والده، وأنه يعمل "طباخ في الأفراح" بقرى مركز منوف بمحافظة المنوفية، في غير شهر رمضان، كما أنه وزملاؤه يشاركون في إحياء المناسبات كأعياد الميلاد وغيرها.

ويحاول الطاهي الشاب ورفاقه التعايش مع ألسنة اللهب اليومية، عبر غسيل الوجه بالماء بشكل متكرر أو إنجاز العمل في وقت يسير والابتعاد عن المكان قدر الإمكان، إلا أنه يستدرك قائلا: "كل المحاولات لا تجدي نفعا عادة في الهروب من حر الصيام وحرارة الجو، لكننا نحاول".

يلتقط طرف الحديث زميله سلامة سعيد، وهو أكبرهم سنًّا حيث يعمل في مهنة الطهي منذ عام 1990، إلا أنهم هذه المرة خصصوا له تحضير المائدة، وإعداد العصائر والسلطات. يقول سعيد الذي أرهقه العمل بالقرب من النيران ما يزيد عن 20 عاما: "العمل في رمضان له مذاق خاص، ورغم من صعوبته إلا أنه يشكل ذكرى مميزة لديه"، وبنبرة يملؤها الإيمان يقول الرجل الأربعيني: "ربنا بيقوي، وإحنا اتعودنا على الشغل قدام النار".

ويؤكد سعيد أنه على الرغم من تعرض أحدهم لمضاعفات أحيانا إلا أنهم لا يقبلون الإفطار، ويحاول من يتعرض للتعب أن يستريح بعض الوقت ثم يعاود العمل مرة أخرى.

وعلى غير المعتاد من قبل الصائمين في رمضان بتعجيل الإفطار بمجرد انطلاق أذان المغرب، لا يتناول ثلاثي الطهاة طعام إفطارهم إلا بعد تقديم الطعام لرواد المائدة، بعدها يشرعون في الأكل، ثم يقومون لتنظيف آنيتهم.