رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسرار «الغرفة ٢٢٢٩».. رغدة تتحدث: هذه حكايتى مع أحمد زكى

رغدة وأحمد زكى
رغدة وأحمد زكى

كانت رغدة حاضرة وبقوة فى المشهد الأخير من حياة أحمد زكى، كانت شبه مقيمة معه فى المستشفى تشرف على علاجه وتستقبل ضيوفه وتهتم بكل تفاصيله، وهو مشهد لا شك استوقف كل من توافد على زيارة النجم الأسمر فى تلك المحنة، لكن المأساة أغلقت التساؤلات التى أطلت من العيون: لماذا رغدة هنا؟ وبأى صفة تفعل ما تفعل؟.

ورحل أحمد زكى وظهر «شو إعلامى» فج.. الجميع يبكى ويستعيد ذكرياته مع النجم الراحل، ويؤكد أنه كان الأقرب لقلبه، وحدها رغدة التى انسحبت وتوارت عن الأنظار والأضواء ورفضت المشاركة فى «مولد» العزاء.. لكن ما إن انفض المولد وأطفئت أنوار الكاميرات والفلاشات تذكروا رغدة، وخرجت الأسئلة المحبوسة فى الصدور وعاد الحديث إلى «الصفة» التى ربطتها بأحمد زكى ليسمح لها أو تعطى لنفسها الحق فى أن تكون «المسئولة» عنه والمتصرفة فى شئونه فى فترة المرض؟.

وبينما أغلق الزمن الحديث عن قصة رغدة وأحمد زكى فإن غيابها عن الإعلان الأخير لمستشفى «٥٠٠٥٠٠» المهدى إلى روحه كان لافتًا فإذا لم تظهر به رفيقة الأيام الصعبة فمن الأحق؟ لم يفت المشهد كثيرين فقلبوا الدفاتر من جديد بحثًا عن أسرار مختفلة فى حياة رجل كان يملأ الدنيا ويشغل الناس.
هنا نسمع -معًا- من رغدة قصتها مع أحمد زكى.

بطلة ٤ من أفلامه.. بينهما عشرة فنية وكيمياء إنسانية و«واقعة الاستحمام» فى المستشفى وراء «الشائعات السخيفة»
تعددت الاجتهادات وتنوعت التخمينات وتصاعدت التفسيرات عن طبيعة العلاقة التى ربطت رغدة وأحمد زكى.. نسوا أنها كانت بطلة فى أربعة من أفلامه السينمائية، وبينهما عشرة فنية وكيمياء إنسانية وصداقة ممتدة بحكم الزمالة والفكر المتقارب والهم العام.. نسوا أو تناسوا أن رغدة كانت حاضرة بقوة فى المشهد السينمائى لأحمد زكى وانصب اهتمامهم كله على حضورها فى مشهده الأخير ومأساته الإنسانية، وكان قرارهم: إن أحمد زكى تزوج من رغدة.. فلا يمكن أن تضع امرأة نفسها فى خدمة مريض بهذا الإخلاص إلا إذا كان زوجها.. ولا يمكن أن تسمح امرأة لنفسها أن تشارك فى «استحمام» رجل- ولو مريض- إلا إذا كان زوجها.. وهكذا وجدت رغدة نفسها فى دوامة من الشائعات والتنبيط والغمز واللمز منذ رحيل أحمد زكى.
كانت تسمع وتبتسم وترفض الرد أو التعليق، ورغدة لمن يعرفها امرأة عنيدة جدًا، رأسها ناشف كالصخر وليست من النوع الذى يهتز أمام هجوم أو انتقاد أو شائعة.. قالت لى مرة إنها لا تحب أغانى أم كلثوم ولا أفلام فاتن حمامة، لأنهما ساهمتا فى ترسيخ قهر المرأة وشرحت لى وجهة نظرها: كانت أغنيات أم كلثوم تقدم نموذج العاشقة المكسورة التى ترى فى الرجل نهاية العالم وبدونه تصبح الحياة مستحيلة، أليست هى التى غنت: عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك؟ نفس الأمر يتكرر فى أفلام سيدة الشاشة فاتن حمامة، إذ رسخت أفلامها نموذج الفتاة المقهورة المستسلمة للظروف، وكأن القدر كتب عليها القهر بلا أى محاولة منها للتمرد أو الرفض.. وأثار رأيها حينها عاصفة من الهجوم ضدها، لكنها لم تتزحزح عن موقفها ولم تهتز ولم تتراجع، ولذلك لم أستغرب صمتها وهى تتعرض لموجات من الشائعات التى أوغلت فى حياتها الخاصة ومست سيرتها وعلاقتها بأحمد زكى، بالرغم من أن لديها ردودا مقنعة، فلما سألتها مثلا عن واقعة مشاركتها فى «استحمام» أحمد زكى بالمستشفى، قالت لى ببساطة إن كل ما حدث أنها انشغلت عنه أياما فى بداية فترة مرضه، فلما زارته ساءها عدم اهتمام ممرضيه ومرافقيه بنظافته الشخصية، وهو نفسه كان قد بدأ يعانى من حالة اكتئاب جعلته زاهدا فى مظهره، فلما رأت الوضع عنفت الممرض، وأصرت على أن يلقى أحمد زكى عناية أكثر، وعاونت الممرض على إدخاله الحمام الملحق بغرفته ووقفت من وراء الباب تناوله ما يحتاجه من فوط وبشاكير وأدوات نظافة وتنشيف.. ثم قالت لى فى ألم: «ويا أخى حتى لو كنت حميته.. ده عمل إنسانى واحد زميل فى محنة مرض، لا بيشوف ولا بيتحرك ولم يبق منه إلا حلاوة روح.. مستكترين عليه إن حد يرعاه ويعتنى بيه ويخفف آلامه.. إيه الناس القاسية دى؟».

كان أخويا وصديقى وأبويا وزميلى.. ولم يكن ينادينى إلا بـ«يا أمه»
قد ظللت وراء رغدة ألح عليها لفترة أن تتكلم وتحكى وتوضح طبيعة العلاقة التى ربطتها بأحمد زكى وترد على تلك الإشاعات والسخافات، كان جوابها فى البداية: ولا يهمنى.. سيبهم يتكلموا والحقيقة لازم يوم تبان.
إلى أن أتى الإلحاح بنتيجة وقررت رغدة أن تتكلم.. وأنقل هنا ما قالته لى رغدة بنص كلماتها وانفعالاتها: أحمد زكى الله يرحمه كان أخويا وصديقى وأبويا وزميلى ولم يكن ينادينى إلا بلقبه العزيز على قلبى يا أمه، وفى محنة المرض كنت باعتراف المقربين منه وبينهم ابن خاله سمير عبدالمنعم، الشخص الوحيد المؤهل لرعايته وتحمل حالته وتقلباته المزاجية الحادة، يمكن صحيح أنا شكلى شكل أنثى وأحمل كل صفاتها وملامحها.. لكنى أيضا أحمل أخلاق الرجال الحقيقيين والكلمة لو خرجت من لسانى تقدر تعتبرها عقدا وعلىّ الالتزام بها ولو على رقبتى، ولما تعرف الحكاية مع أحمد زكى جت إزاى يمكن تستغرب.. يعنى مرة شاف مريم فخر الدين وهى تأخذ بذراع أحمد مظهر وتقوم بتسنيده ليصعد على خشبة المسرح عند تكريمه فى مهرجان القاهرة السينمائى أو يمكن الإسكندرية، استوقفه المنظر وقال لى: شوفى الزملا بتوع زمان وحلاوتهم.. ثم قال بتلقائية طفولية: تعالى نتفق إن اللى يقع فينا التانى يشيله.. ثم أضاف ساخرا: تفتكرى إنه ح ييجى يوم وتسندينى وأنا طالع على المسرح يكرمونى زى مريم ومظهر؟ ولما دخل المستشفى فى محنة المرض كنت قد نسيت تلك الواقعة وهذا الاتفاق، فلما رحت له ذكرنى به وسألنى برقة: مش وعدتينى تشيلينى لما أقع؟.. فقلت له من قلبى: رقبتى سدادة يا أحمد.
ومازالت رغدة تحكى: الوقوف بجوار أحمد زكى ورعايته كان دينا فى رقبتى، وفى عز المحنة لم تكن تفارقه ابتسامته ولا تعليقاته الساخرة، مرة كان عنده الأستاذ عادل حمودة،
فأحمد سأله فجأة: تعرف رغدة مهتمة بى ليه؟
وبفضول سأله عادل: ليه؟
قال بسخرية: علشان أمريكا احتلت العراق، ثم أوضح: ما هى كانت رايحة جاية تعالج أطفال العراق، فلما العراق احتلوها ما بقاش عندها شغلانة.. فقعدت تفرغ فىّ الشحنة الإنسانية اللى عندها.
قلت له: وأطفال السجون راحوا فين؟، ووقتها كنت مهتمة بقضية أطفال السجون ولى فيها جهود كبيرة.. لكن اهتمامى بأحمد زكى كان قضية أخرى.

انقطعت عنه بعد خروجه من المستشفى لأول مرة
سألت رغدة: ولكن اهتمامك ورعايتك لأحمد زكى كان فيهما إخلاص غير عادى أثار الشكوك؟
وترد بسرعة: شوف.. أنا إنسانة مخلصة فى كل عمل أدخله مهما كان تافها، حتى لو دخلت المطبخ أعمل أكل أو أغسل المواعين، ما أعرفش أعمل حاجة نص نص، يا أمسك الكتاب وأقراه لآخر صفحة يا إما لا أفتحه من أصله وأسير على مذهب المتنبى:
ولا أرى فى عيوب الناس عيبا.. كنقص القادرين على التمام
لازم أعمل الحاجة مظبوط.. وفى حالة أحمد زكى كنت أمام خيارين: يا أقف جنب هذا الزميل والإنسان والأخ العزيز الغالى وأرعاه كما يجب.. يا إما أنسحب، واخترت الخيار الأول بدافع من ضميرى وإنسانيتى.
بدليل أنه بعد أن تحسنت حالته وخرج من المستشفى ليقيم فى الأوتيل وشعرت بأنه بقى كويس انقطعت عنه، خاصة أنى تركت إلى جانبه واحد أمين أثق فيه وفى تلك الفترة اضطررت للسفر إلى سوريا لوفاة واحد من أشقائى، وكان لابد من أن أكون مع أسرتى فى هذا المصاب.. ولما رجعت بعد انقضاء أيام العزاء كان أحمد قد اتخذ قراره بالموافقة على تصوير فيلم «حليم»، وبعدها تدهورت حالته الصحية بشكل دراماتيكى، وعاد إلى المستشفى فى حالة متأخرة، فقررت أن أعود إلى رعايته وأكمل ما تعاهدنا عليه.. ولا أعرف لماذا لا يصدق الناس أن هناك من يرعى إنسانا بدافع الإنسانية دون أن تكون هناك مصلحة أو صفقة أو منفعة أو صلة قرابة.. ليه عندنا رغبة شريرة فى تشويه أى حاجة حلوة ومشاعر نبيلة؟
نسيت أقول لك قد إيه الله يرحمه كان متعشما فىّ، وقد إيه كان يعتمد علىّ ويثق بىّ ويشعر بالراحة النفسية لما أكون موجودة جنبه، كان يقول لى: إنتى عاملة زى العسكرى لأنى منضبطة جدا فى مواعيد الدواء وفى الالتزام بتعليمات الأطباء وفى توفير جو هادئ لمريض معروف بتوتره الشديد، أو زى ما كان يحب يوصف نفسه بأنه عامل زى سلك الكهرباء العريان.. تقول لى: اشمعنى أحمد زكى؟
أقول لك: مستعدة أعمل نفس الواجب مع أى زميل.. وعملته مع فاروق الفيشاوى فى أزمته الصحية وقفت جنبه وخدمته من قلبى، بس فاروق عنده سمية الألفى، وعنده أولاد وأسرة ترعاه، لكن أحمد لم يكن له أحد، كان زواره يروحوا له المستشفى يشوفوه ويطلوا عليه ويسيبوه ويمشوا، فكان لازم أفضل جنبه.
لا تزال رغدة تحكى قصتها مع أحمد زكى: «وفوق كل ده أحمد زكى تركيبته الإنسانية والعصبية صعبة جدًا، عايز حد يستوعبه.. وأنا طبيعى ربنا مدينى القدرة على تحمل واستيعاب هذه التركيبات الصعبة، خاصة فى ظروف المرض.. عندى خبرات مع مرضى السرطان بالذات، اكتسبتها من خلال تعاملى مع أطفال العراق الذين أصيبوا بهذا المرض وقت الحصار الأمريكى المجرم، وتفرغت لعلاجهم ورعايتهم فى مستشفى قصر العينى.. ثم جاءت أمى وأصيبت بهذا المرض، وأقمت معها فى المستشفى أرعاها إلى أن توفاها الله.. فأنا خبيرة بالسرطان وطرق علاجه والرعاية الطبية والنفسية للمريض.. وكنت أفضل حد ممكن يرعى أحمد زكى.. هو كان محتاجنى جنبه وما كان لى أن أتخلى عنه فى محنته.

زواجى منه شرف لا أدعيه وكنت أتمنى أن أكون أرملته
ترد بثقة: من حسن حظى أننى سجلت كل يومياتى إلى جوار أحمد فى المستشفى، كتبت يومياتى معه فى الغرفة ٢٢٢٩ بكل تفاصيلها لحظة بلحظة منذ دخوله للعلاج إلى أن وقع فى الغيبوبة الأخيرة بحديقة المستشفى إلى آخر نفس خرج من صدره.. وفى تلك اليوميات سجلت كل ما جرى ومن كان يحب أحمد بصدق ومن تاجر به. أما ما أشاعوه عن زواجى منه فأقول ببساطة: هذا شرف لا أدعيه.. اسمح لى أسألهم: ما الذى كان يمنع زواجى منه؟.. كنت وقتها منفصلة عن زوجى وأحمد غير متزوج.. كنت أتمنى أن أكون أرملة أحمد زكى.
أكيد الزواج من أحمد زكى مش حاجة تكسف إنى أعلنها لو حصلت.. أنا شخصية واضحة وصريحة وحياتى معروفة للناس كلها.. وعلى فكرة الناس البسيطة كانت أكثر وعيا وفهما وتفهما لعلاقتى بأحمد ووقوفى جنبه فى مرضه.. يعنى مرة سافرت المحلة لقيت الناس البسيطة بتشكرنى على وقفتى جنب أحمد ومقدرين ما فعلته، يكفينى أننى الوحيدة التى لم أنطق بكلمة بعد رحيله، ولم أشارك فى الشو الإعلامى اللى اتعمل أمام الكاميرات فى جنازته أو بعد وفاته.. ناس كتير جريت تعيط عليه وتتشحتف قدام الكاميرات.. أنا الوحيدة اللى رفضت الظهور وقفلت علىّ بابى والتزمت الصمت.. أنا مقتنعة من جوايا إنى عملت واجب وأديت رسالة ومهمة إنسانية ولا أنتظر شكر على واجب.
حبى وتقديرى لأحمد زكى مشاعر لا أنكرها.. أنا ماعنديش حاجة أخبيها، ويمكن ناس كتير تستغرب لما تعرف إن كل ما جمعنى بأحمد زكى طول سنوات عشرتنا ٤ أفلام فقط لا غير، الناس فاكرة إننا كنا عاملين دويتو سينمائى.. أبدا.. إنما إحنا كنا من نفس المدرسة السينمائية، ويمكن ده اللى قربنا من بعض.. عندنا الجدية والالتزام والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، إلا أن تجربتى الإنسانية مع أحمد زكى كانت هى الأروع.
هذا ما قالته لى رغدة بالنص عن أسرار علاقتها بأحمد زكى.. وعندما تعيد قراءة تلك الشهادة ستدرك لماذا لم تشارك رغدة فى هذا الإعلان الجديد الذى صنعه رفاق أحمد زكى لتكريمه.. علاقة رغدة بأحمد زكى كانت أكبر من الزواج.. وأعمق من الإعلانات.. وأبقى من الموت.