رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمل دنقل يكتب: سر الحجر الأسود

أمل دنقل
أمل دنقل

- قريش أرادت استخدام الكعبة لكى تفرض سيطرتها على شبه الجزيرة العربية
- «الحجر الأسود» سقط من السماء وأثبتت الفحوص أنه جزء من نيزك


تحدثنا سابقًا عن علاقات قريش، تلك القبيلة المستعربة، بالعرب الآخرين فى شبه الجزيرة. فهى فى البداية خاضت الصراع فى الحجاز ضد سيطرة القحطانيين على الكعبة حتى تمت لها السيادة على مكة، وأرادت أن تستخدم الكعبة كمكان مقدس لكى تفرض سيطرتها المعنوية والمالية على شبه الجزيرة، خاصة أن الميدان كان خاليًا، وقد احتل الفرس اليمن نفسها، وسقطت دولة الغساسنة فى جنوب الشام، أسقطها الفرس فى حربهم مع الروم أو أسقطها الروم قبل غزو الفرس، فرضًا لسيطرتهم المباشرة على ولايات الشرق.

خلاف حول المنشأ
وقبل أن نستطرد فى هذا الصراع العدنانى- القحطانى، أو اليمنى- القيسى كما سماه المؤرخون العرب بعد ذلك، نود أن نعود إلى سؤال طرحناه فى الحلقة السابقة ولم نجب عنه إجابة كاملة، وإن كانت الإجابة منثورة فى ثنايا المقال: من أين هاجرت قريش؟.
رأينا أن لهجة قريش لا تختلف كثيرًا عن بقية اللهجات العدنانية، ولكنها تختلف اختلافًا كبيرًا عن لغة القحطانيين الذين كانوا يتكلمون الحميرية والسبئية كما جاء فى التاريخ. ورأينا أن آلهة قريش تنتمى شمالًا إلى الشام، ولا تنتمى إلى الجنوب، بل إن أشهر آلهة الجنوب «عثتر، ذو المقة... إلخ» لم تكن ممثلة بين آلهة الكعبة، ولكن هذا لا ينفى أن بعض القبائل اليمانية كانت تحج إلى الكعبة، وهو ما يعزى رحلات القرشيين إلى اليمن فى سبيل التجارة، فقد يكونون قد مارسوا نوعًا من الدعوة لكعبتهم المقدسة.
وهناك أمر ثالث لا يقل أهمية عن اللغة المختلفة والكتابة والأوثان، يتعلق بالحجر الأسود الذى قدسته قريش ويقدسه المسلمون حتى اليوم، فالرواية الشهيرة عن الحجر الأسود تروى أنه حجر هبط من السماء وأنه كان أبيض، وإنما اسود من ذنوب الناس أو من لمسهم له أثناء الطواف.
ونحن لا نرى فى ذلك مبالغة، فالحجر الأسود حجر هبط من السماء لكن السماء لا تنزل أحجارًا مقدسة إنزالًا مباشرًا، وإلا كان أولى بالسماء أن تنزل القرآن- وهو أقدس ما فى الإسلام- مباشرة على النبى عليه السلام، لقد أثبتت الفحوص التى أجريت على الحجر الأسود أنه ليس من أحجار الأرض، بل هو حجر من نيزك أو من شهاب ساقط على الأرض، فهو من السماء حقًا وليس حجرًا أرضيًا، ونحن نعرف أن البتراء أو مدينة الحجر، التى كانت عاصمة الأنباط، قد دمرت بفعل نيزك سماوى سقط عليها فدمرها وحول منازلها وأسواقها إلى هياكل حجرية قائمة، كما حدث فى مدينة «بومبى» بإيطاليا. وهذه المدينة التى حلت عليها اللعنة السماوية هى نفسها إرم ذات العماد التى ورد ذكرها فى القرآن، التى كانت تدور حولها أساطير المسافرين فى القوافل العربية، حين يروون أن هذه المدينة تظهر لهم فجأة وسط ظهيرة الصحراء ثم تختفى كأن لم تكن.
هل لنا أن نقف قليلًا عند هذا الشعب البائد؛ النبط الذين كانوا يسكنون هذه المدينة الحجرية الزائلة.

علاقة قريش بالأنباط
يعتبر الأنباط فرعًا من فروع الإسماعيليين، وهم ينتسبون إلى نبايوت بن إسماعيل مباشرة، وكانوا تجارًا يسيطرون على طريق البخور الذى يصل من عدن إلى الشام، قبل أن تسيطر عليه مكة فيما بعد. ويبدو لأسباب جغرافية أن هذا الشعب النبطى بنى مدينته فى وسط الجبل، كنوع من الحصون ضد هجمات القبائل والجيوش التى كانت تمشى فى بادية الشام من مصر أو الكلدانيين أو الآشوريين من بعدهم. فهذه المدينة التى نحتت بيوتها فى الصخر أصبحت معروفة باسم «مدينة الحجر» أو «البتراء» وهو الترجمة اليونانية لكلمة الحجر أو الصخرة.
وأصبحت تسيطر على البخور وتتبادل التجارة مع أسواق الشام، ويبدو أن لغتهم تأثرت كثيرا بالآرامية التى كانت لغة التجارة العالمية فى ذلك الحين، إن لم تكن لغتهم فرعًا أو لهجة من اللهجات الآرامية المنتشرة فى ذلك الوقت. فقد كانت هناك آرامية فى فلسطين تكلم بها المسيح، وكانت هناك آرامية يتكلم بها مسيحيو سوريا فسميت السريانية، وكانت هناك آرامية فصحى بلغ من ذيوعها أن الإمبراطورية الفارسية لم تكن تعيّن موظفًا من موظفيها ما لم يكن يجيدها إلى جانب لغته الفارسية الأصلية، وكما كانت لغة الأنباط فرعًا من فروع الآرامية، فإن ديانتهم بالتالى كانت صورة من ديانة الآراميين ومن آلهتهم.
ويروى المؤرخون أن «نبوخذ نصر»- الملك البابلى الشهير عند العرب باسم بختنصر - حارب هؤلاء الإسماعيليين وهو فى طريقه إلى بيت المقدس «جنرال غلوب: الفتوحات الإسلامية»، واضطرهم إلى التقهقر داخل الصحراء الكبرى. فهل كان هؤلاء الإسماعيليون الذين حاربهم «نبوخذ نصر» قبل استيلائه على بيت المقدس وسبى اليهود إلى بابل، من الأنباط الذين يعيشون حول مدينة الحجر أو بقربها، كما يعيش الكثيرون على هامش مدن التجارة الكبيرة؟، وهل حدثت الصاعقة السماوية التى دمرت مدينة البتراء فى تلك الفترة بحيث لم يستطع هؤلاء الأنباط العودة إلى مدينتهم ثانية بعد ذهاب بختنصر؟!، الأمر الذى دفعهم- ومعهم قوافل اليهود المهاجرين من فلسطين بعد تدمير الهيكل وسبى الشعب اليهودى- إلى التوغل فى الصحراء عن طريق القوافل ذاته الذى يعرفونه جيدًا بحكم كونه طريق التجارة بالنسبة لهم، حتى وقفوا عند مكة، التى لا بد أنها كانت معروفة بالنسبة لهم كمحطة للقوافل، التى يدل اسمها الآرامى «بكة» أى «البيت» على مركزها الدينى كبيت من بيوت العبادة. فقد ذكر القرآن أن إبراهيم قد بنى الكعبة. وذكرت التوراة أن الله عندما ظهر لإبراهيم فى أرض كنعان: «إن إبراهيم بنى مذبحًا للرب عند (بيت إيل)»، أى بيت الله، فمن الطبيعى أن يسمى إبراهيم الكعبة بالاسم نفسه: البيت، أو بيت الله.

دعم الإخوة الشماليين
من هذه الفكرة التى تبدو صغيرة، فكرة هجرة الإسماعيليين الأنباط فرارًا من بختنصر إلى تلك المحطة الصخرية: مكة التى تحوطها الجبال من كل جانب وتكاد تشبه مدينتهم الصخرية القديمة- يمكن أن تفسر ما جاء فى تاريخ مكة من أحداث.
فهؤلاء الإسماعيليون جدد إذ إننا نعتبر- طبقًا للقرآن- أن ذرية إسماعيل الأولى قد سكنت بوادٍ غير زرع بمكة، لكننا نعتبر أن هذه الذرية الأولى قد ذابت فى القبائل التى تحيط بها، بدليل أن ديانة إبراهيم نفسها قد اندثرت من الكعبة ولا يمكن أن تندثر هذه الديانة- التى أحياها الإسلام فيما بعد- إلا إذا كان من يدينون بها قد بلغوا قدرًا من الضعف السياسى والاجتماعى يسمح بانضوائهم تحت راية الوثنية المحلية، لكن هؤلاء الإسماعيليين القدامى جاءتهم نجدة جديدة فى صورة هؤلاء الإخوة الشماليين الذين يأتون هذه المرة إلى مكة لا كتجار عابرين، وإنما كمقيمين هذه المرة إلى الأبد، ويأتون أيضًا ليحولوا مكة من محطة قوافل واستراحة للمسافرين، إلى مركز تجارى كبير يحل محل المدينة الشمالية المحترقة.
هل هذا هو ما يقصده المؤرخون من أن قصىّ بن كلاب هو الذى جمّع قريش بعد التفرق؟. لا نعتقد ذلك، فقصىّ قريب العهد جدًا من بعثة النبى عليه السلام، بينما هذه الهجرة- إذا افترضنا حدوثها- حدثت قبل الميلاد، فالأرجح إذن أنها الحادثة التى قيل إن قريشًا قد استردت فيها مفاتيح الكعبة من خزاعة. ومفاتيح الكعبة هى رمز السيادة على المدينة، ولم يكن هؤلاء الإسماعيليون الأنباط الوافدون يرضون أن تكون مقاليد المدينة فى يد غيرهم. لقد حاربوا خزاعة وأخضعوا مكة لسيادتهم، واستمرت قوافلهم تذرع الطريق من عدن إلى الشمال، حيث تنسرب سربين إلى غزة، وإلى دمشق.
دليلنا فى هذا الزعم أمران: إله قريش الخاص، وهو «هبل»، هو إله آرامى لا ينتمى إلى بقية آلهة شبه الجزيرة، وهو لا يشبهها حتى فى الشكل، فقد كان على صورة إنسان «كسرت ذراعه اليمنى فجعلت قريش له ذراعًا من ذهب»، بينما بقية الآلهة العربية عبارة عن صخرة مربعة «اللات» أو ثلاث سَمُرات «العزى» ولقد كان «هبل» هو الصنم الوحيد بين هذه الأوثان المتعددة.

توقيت هجرة اليهود
أما الأمر الثانى فهو الكتابة العربية. إن لهجة قريش- وهى العربية الفصحى التى نتكلمها الآن - لم تكن لها حروف تكتب بها، كما يقول المؤرخون، فكتبت قريش بالحروف النبطية، أى التى كان يكتب بها النبط، ونحن نرى أن هذه الكتابة تتفق تمامًا مع ما ذهبنا إليه، أى أنها تدل على أصول القرشيين النبطية، وأن القرشيين لم يستعيروا كتابة الأنباط، لكنهم كتبوا لهجتهم الجديدة التى تولدت من احتكاك لغتهم بلغات الجزيرة واليمن «تلك اللهجة التى نسميها اليوم العربية الفصحى» كتبوها بحروف نبطية، طورت فيما بعد لتصبح هذه الكتابة العربية التى نكتب بها ونقرأ الآن.
فإذا أضفنا إلى ذلك تلك المقولة بأن عمرو بن لحىّ أول من جاء بالأصنام إلى الكعبة، جاء بها من الشمال، فإن هذا القول صحيح، لكن هذا الصنم الذى جاء به عمرو بن لحىّ كان التذكار الوحيد الذى جاء به القرشيون من مدينتهم القديمة، لكى يقيموا فى مركزهم الجديد، تذكيرًا لهم بأسلافهم القدامى.
يبقى الآن سؤال: هل كانت هجرة اليهود إلى جزيرة العرب وإنشاء مستعمراتهم بها فى هذا الوقت نفسه؟.
قد يكون ذلك، فنحن لا نرى أن نزاعًا قد نشأ بين مكة فى ظل القرشيين وبين يثرب أو خيبر، وكلتاهما كانت مركزًا تجاريًا مهمًا، كانت يثرب تقع على طريق القوافل من مكة إلى العراق، وهو الطريق الذى لجأت قريش إلى استخدامه عندما قطع المسلمون عليها طريق تجارتها مع الشام، فأحبط النبى هذه المحاولة، بينما كانت خيبر تضم صفوة تجار اليهود، لدرجة أنه عندما اغتال «محمد بن سلمة» بأمر النبى «أبا رافع» زعيم خيبر، قام الناعى ينعاه ويقول: مات أبورافع، تاجر أهل الحجاز، فهو لم يكن تاجرًا فقط، بل كانت مكانته التجارية تشمل كل الحجاز أيضًا.

دور غساسنة الشام
إذن، فالتجار القرشيون لم يكونوا يجدون غضاضة فى منافسة تجار اليهود، فالأمر أمر تجارة لا أمر عروبة، ودليلنا على ذلك أن الأوس والخزرج- وهما قبيلتان عربيتان من قحطان- لم تستطيعا التخلص من سيطرة اليهود على يثرب إلا بالاستعانة بالغساسنة فى الشام، فعندما ضاقوا بحكم اليهود عليهم وتحكمهم فيهم- حتى لقد ألزم اليهود أداء الخراج على العرب- أوفدوا مالكًا بن العجلان الخزرجى إلى الغساسنة، على أحد أشرافهم، واسمه أبوجبيلة، فاستجار على اليهود، فأجاره، وجاء إلى المدينة وقتل عظماء اليهود، ثم عاد إلى الشام بعد أن مكن للأوس والخزرج فى المدينة.
وهذا الحادث يؤيد ما ذهبنا إليه من أن القحطانيين كانوا يعتبرون العدنانيين غرباء عنهم إن لم يكونوا أعداء، فقد كانت مكة هى الأقرب لنصرة عرب الأوس والخزرج من عرب الشام، بل إننا نجد هذا التحالف الغريب بين مشركى قريش ويهود يثرب بعد غزوة بدر، فقد ذهب أحد شعراء اليهود- عندما سمع البشير بانتصار المسلمين- يعدد أسماء قتلى قريش فى معركة أُحد «ومنهم أبوجهل»، قال: والله لئن قُتل هؤلاء، لبطن الأرض خير من ظاهرها، ليس هذا التآلف بين القرشيين ويهود يثرب بسبب العداء لمحمد «ص» فقط، فقد كان اليهود فى تلك الفترة يهادنون المسلمين، ولا هو تحالف بين كبار تجار الجزيرة العربية فقط، لكنه أمر أكثر إيغالًا فى التاريخ من ذلك، إنه التآلف الطبيعى بين من وفدوا على الجزيرة، فاستوطن هذا يثرب، بينما استوطن الآخر مكة.
ألا يمكننا القول- بعدئذ- إن عداء القرشيين واليهود لمحمد «ص» كان عداء لما يمثله الإسلام من وحدة بين العرب جميعًا على اختلاف درجاتهم، وفى هذه الحالة سوف يُفقد القرشيين مكانتهم المتميزة كأنباط مهاجرين يحملون حضارة مختلفة عن القبائل التى تحوطهم؟، حضارة أدت بهم إلى تنظيم مكة على أساس المدينة التجارية كالمدن اليونانية القديمة، تحمل سمات الديمقراطية الأثينية فى دار الندوة، وتحمل طابع تقسيم الاختصاصات، وهو طابع لا تعرفه قبائل الرعاة التى لا تعرف إلا النهب أو القتال، وتحمل أيضًا سمة الأسواق الثقافية.
أيضًا سوف يفقد اليهود مكانتهم فى هذا المجتمع، فإن سيادة الإسلام سوف تلغى نظرة الإكبار التى كان العرب ينظرون إليهم بها، باعتبارهم أهل كتاب أرقى فكريًا من هؤلاء الوثنيين، البدائيين.
وللحديث بقية..