رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لواء. د. محسن الفحام يكتب: رسالة من ماليزيا

محسن الفحام
محسن الفحام

استوقفتنى تلك العبارة التى اختتم بها السيد الرئيس حواره مع الشباب فى المؤتمر الأخير لسيادته معهم عندما قال إن «مهاتير محمد عاد للحكم كرئيس لوزراء ماليزيا بعد خمسة عشر عامًا».. وحاولت تفسير هذه الجملة لأقف على المقصود منها.. هل كان يقصد تحفيز الشباب لعدم اللجوء إلى الوجوه القديمة؟.. أم أنه لا بد من الاستعانة بذوى الخبرة بجانب حماس الشباب؟.. وفى الأخير وجدت أن كل الاحتمالات والتفسيرات قابلة للأخذ بها إلا المعنى الذى كان يقصده الرئيس والذى أعتقد أنه يحتفظ به لنفسه.. إلا أننى وجدتنى شغوفًا بمعرفة ما وراء عودة هذا الرجل إلى الحكم بعد هذه الفترة الزمنية الطويلة وبعد بلوغه الثالثة والتسعين عامًا.
بعيدًا عما ورد فى وكالات الأنباء العالمية التى تناولت هذا الموضوع قمت بالاتصال بأحد الوجوه المصرية المشرفة والذى يعمل أستاذًا فى أكبر جامعات ماليزيا للوقوف على حقيقة الأوضاع وكواليس عودة مهاتير محمد لقيادة ماليزيا مرة أخرى بعدما ترك السلطة باختياره فى ٢٠٠٣، حيث تولى الحكم لمدة ٢٢ عامًا منذ عام ١٩٨١ مقدمًا بذلك نموذجًا رفيعًا لانتقال إدارة شئون البلاد لغيره بالرغم من تمتعه بأغلبية حزبية فى البرلمان.
والواقع أننى بالفعل وجدت هذا الموضوع يستحق الدراسة والتحليل.. وضرورة الاستفادة منه فى الدول النامية، والتى تسعى للتطور والنمو.
مبدئيًا ذكر لى هذا الصديق أن الشعب الماليزى والذى يبلغ تعداده ٣٥ مليون نسمة موزعين على ١٣ ولاية وجد فى عودة مهاتير محمد طوق النجاة بمعنى الكلمة بعد أن كاد الاقتصاد ينهار هناك والضرائب تتزايد وأسعار البنزين ترتفع بشكل مستمر وذلك خلال فترة حكم سلفه نجيب عبدالرازق والذى تولى إدارة شئون البلاد منذ عام ٢٠٠٩ بدأها بشكل إيجابى ولكن سرعان ما شاب أداؤه الإهمال والفشل والفساد المإلى والإدارى.. بل إقصاء أى معارض سياسى، وكان من أبرزهم أنور إبراهيم والذى يعتبر من أفضل وزراء المالية، الذين شهدتهم دول شرق آسيا منذ عام ١٩٨٨ إلى ٢٠٠٤ وقد أطيح به مرتين خوفًا من نجاحه وذيوع نجمه.. الأولى من مهاتير محمد نفسه نتيجة خلافات معه حول طريقه إدارة البلاد حيث أبدى فيما بعد أسفه واعتذاره على استبعاده نتيجة خلافات معه حول طريقة إدارة الحكومة.. والثانية من قبل نجيب عبدالرازق فى ٢٠١٥، حيث تم اتهامه بممارسة الرذيلة مع سائق زوجته، وتم الحكم عليه بالسجن ٦ سنوات.. ونتيجة لما شاب فترة حكم نجيب والذى سبق الإشارة إليه بدات الاحتجاجات الشعبية تتزايد ضد فساد الحكومة خرج مهاتير محمد لينتقد الأوضاع والحزب الحاكم الذى كان عضوًا به.. وبادر إلى إنشاء حزب جديد باسم «أبناء الأرض»، وانضم إلى أحزاب المعارضة الأخرى مكونًا جبهة بعنوان «جبهة الأمل» وتقدم باعتذار رسمى إلى أنور محمد فى محبسه وكلف محاميه للدفاع عنه.. كما عقد اتفاقًا مع السيدة عزيزة إسماعيل زوجة أنور إبراهيم يقضى بأنه حال الفوز فى الانتخابات سوف يستمر رئيسًا للوزراء لمدة عامين فقط.. وعلى أن يسعى للحصول على عفو ملكى عن زوجها ويتنازل له عن منصبه بعد إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه من نمو وازدهار مع تمكين غريمة السابق من دخول البرلمان فى انتخابات تكميلية.. وبالفعل كانت أولى خطوات تنفيذ هذا الاتفاق أن تقدم بطلب لملك ماليزيا للعفو عن أنور، حيث تم ذلك بالفعل فى نفس يوم توليه رئاسة الوزراء.
وفور تولى مهاتير إدارة البلاد قام بمنع سلفه نجيب عبدالرازق من مغادرة البلاد وتقديمه للمحاكمة بتهمة الفساد المالى كما قام بتشكيل وزارة وطنية تضم وزراء متخصصين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.. كما أعلن أنه سوف يقوم بإلغاء ضريبة المبيعات التى فرضت منذ ثلاث سنوات وكانت تُقدر بـ٦٪، وذلك من أول يونيو ٢٠١٨ وتخفيض سعر البنزين بعد مراجعة الحكومة خلال ١٠٠ يوم.. وتعهد باسترجاع الأموال المنهوبة من صندوق الدعم الوطنى التابع لمؤسسة التطوير الاستراتيجى والذى قام بإنشائه أثناء فترة رئاسته للحكومة.. وتقدر تلك المبالغ بحوالى ٢٥١ مليون دولار بالإضافة إلى ما أعلنه من امتلاكه أدلة كافية عن علاقة رئيس الوزراء السابق نجيب بفضيحة فساد بمليارات الدولارات كذلك الإعلان عن عدد من المشروعات الاقتصادية والمبادرات والاتفاقيات لدعم الاقتصاد الماليزى خلال الثلاثة أشهر المقبلة.
وفى ذات الوقت قام بالقبض على ١٤٤ رجل أعمال بتهمة الفساد المالى والقبض على ٥٠ قاضيًا و٢٠٠ رجل شرطة بنفس التهمة أيضًا.
من المعروف أن فترة حكم مهاتير محمد لماليزيا كانت من أزهى الفترات فى تاريخها حيث حققت فى عهده مستويات عالية من التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعى، حيث استطاع نقل ماليزيا من دولة فقيرة تعانى من مشاكل عرقية واجتماعية إلى دولة قادرة على تحقيق معدلات عالية بالرغم من الاختلافات الدينية والعرقية والثقافية والتباينات الاقتصادية.
وفى عودة مرة أخرى إلى الجملة التى قالها السيد الرئيس.. ومن خلال ما سمعته وقرأته فإننى أعتقد أن الرئيس كان يقصد أن الشعب هو مصدر السلطة الرئيسى.. والتاريخ أيضًا سوف يشهد على أداء قيادات الدول.. ومن حق هذه الشعوب أن تطلب من أبنائها المخلصين الذين تركوا السلطة العودة مرة أخرى لإنقاذ بلادهم من الفساد والتدمير الاقتصادى والاجتماعى ولا بد أن يستجيب لهم هؤلاء واعتبار ذلك تكليفًا ومهمة وطنية لا بد من قبولها مهما بلغت أعمارهم أو فترة ابتعادهم عن إدارة شئون البلاد.
إن الدروس الواصلة إلينا من ماليزيا تتطلب ضرورة استيعابها والتعامل معها باهتمام وتجرد، ولا يدفعنا فى ذلك إلا مصلحة الوطن فقط.
ومن هنا فالشباب يجب أن يدرك مشاكل بلاده جيدًا، وأن يتعامل معها بتفهم وجدية وأن يكون قاطرة التطور فى المرحلة المقبلة.. وأن الشعب لن يرحم الفاسد أو يغفر له.. بل إنه قادر على استدعاء من يراه مناسبًا لإدارة شئونه بغض النظر عن سنه أو انتمائه السياسى، وأن التاريخ سوف يحكم على من تولوا قيادة أوطانهم سواء كانوا فاسدين أو مخلصين، حيث سوف يستوجب ذلك معاقبة الفاسدين وتأييد ودعم المخلصين.. وتحيا مصر.