رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كشف أدبي عمره 42 عاما.. أمل دنقل يكتب: أهل قريش ليسوا كافرين!

أمل دنقل
أمل دنقل

- مكة كانت مركزًا للتعايش الدينى بسبب وجود آلهة القبائل متجاورة فى الكعبة
- كشف أدبى عمره ٤٢ عامًا


لم يستطع جابر عصفور أن يتجاوز أحزانه على وفاة أمل دنقل إلا عام ١٩٨٨ تقريبًا.
«عندما فارقنا أمل دنقل - ١٩٨٣ - أصابتنى إثر فقده صدمة هائلة أخرستنى عن الكلام أو الكتابة عنه، فلم أستطع أن أكتب أو حتى أرتجل شيئًا عنه لخمسة أعوام، فقد كانت الصدمة قاسية، وكان ألم الفقد موجعًا، وكنت أشعر بغياب نصفى عن نصفى أو بغياب عقلى عن جسدى».. يقول «جابر» قبل أن يشير إلى أنه بدأ بعدها فى جمع التراث المنسى عن حياة «أمل» بمساعدة أرملته عبلة الروينى حتى خرج إلى النور كتابه الأحدث، عن دار بتانة، «أمل دنقل.. ذكريات ومقالات وصور».
مؤكد أنك تعرف الكثير عن «شاعر الرفض الكبير» غير أن ما جمعه «جابر» من مقالات مجهولة لـ«أمل» كان مثيرًا للدهشة.
من بين أهم ما جمعه «جابر» سلسلة نشرها الشاعر الكبير، عام ١٩٧٦، فى صحيفة الرأى الأردنية عن قريش، تحدث خلالها عن القبيلة التى بنت شهرتها بانتساب النبى محمد إليها رغم العداء الذى استمر بينهما سنين طويلة.
فى مقالاته - التى أعادت مجلة «أوراق» اللندنية نشرها عام ١٩٨٣- قدم «أمل» تحليلًا لما يمكن وصفه بـ«الحالة الدينية لقريش».
هنا فى «الدستور» اخترنا أن نعيد نشر هذه المقالات مرة أخرى ونحن نحتفل بذكرى رحيل الشاعر الكبير ٢١ مايو ١٩٨٣.

لكى نتفهم وضع قريش بين القبائل الأخرى، لا بد أن نتفهم أولًا وضع مكة بين مدن الجزيرة التى كانت تضارعها فى الثراء، وتفوقها فى الوقت نفسه من حيث القوة العسكرية، كالطائف- مثلا- التى احتاج فتحها بعد الإسلام إلى حشد قوة المدينة ومكة مجتمعتين، فى غزوة حنين، ومع ذلك فقد فتحت صلحًا واشترط أهلها ألا يدفعوا الزكاة لكى يدخلوا فى الإسلام.

الاستدراج بهدف التسويق
لقد قامت فى الحجاز ما يمكن أن نسميها «دول المدن»، وكانت كل دولة تتألف من المدينة والأراضى المحيطة بها، حدث هذا فى يثرب، والطائف وخيبر، ودومة الجندل، وتبوك. تلك الواحات المتناثرة فى الصحراء العربية، لكن مكة كانت المدينة الوحيدة بين هذه المدن التى لا تملك أرضًا للزراعة حولها، لقد كانت قائمة بين جبال صماء شامخة لكنها كانت تمتلك ميزة مهمة لم تكن تمتلكها مدينة أخرى من تلك المدن: كانت تمتلك الكعبة.
إن «المدينة- الدولة» فى الشرق القديم كان مركزها «المعبد» أو هيكل إله المدينة، وهو الذى تدور حوله حياة المدينة، ويعتبر الناس أنفسهم فى خدمة الآلهة، ولمّا كانت الكعبة بيتا تعظمه العرب، فقد سعت قريش لكى تجعل من الكعبة موسمها التجارى الأكبر- الحج- سوقًا عظيمة تخدم تجارتها ومصالحها المالية، وفرضت- فى سبيل تحقيق ذلك- نظام الأشهر الحرم التى يتوقف فيها القتال بين كل القبائل، حتى تفرغ هذه القبائل التى لا تكف عن التناحر إلى التزود بشئون معاشها وتبادل سلعها وشراء ما يلزمها من طعام أو سلاح، والتزمت قريش بحلف الفضول؛ أن تقيم العدالة بين هؤلاء العزل من السلاح، ولقد كانت العرب تأتى إلى موسم الحج فتدفع سلاحها إلى عبدالله بن جدعان أو أى قرشى آخر فيختزنه أمانة حتى تنتهى من شعائرها. وارتياد الأسواق والسقاية كانا أبسط وجوه الفائدة التى تعود على قريش من الحجيج، أما سوق عكاظ فلم تكن سوقًا للبلاغة والشعر فحسب وإنما كان هذا وجهًا من وجوهه، تستدرج به قريش أولئك العرب الميالين للفخر والمباهاة لينشدوا أو يستمعوا، ولا بأس ما بين الإنشاد والاستماع أن يتسوقوا أو يطربوا فى تلك الخيام التى ترفع الرايات، واعدة من سئموا حرمان الصحراء بالخمر والنساء والطعام.

نشر نفوذ الكعبة
كذلك فإن حرص قريش على خدمة مصالحها التجارية حدا بها إلى قبول أوثان أخرى توضع فى كعبتها إلى جوار إلهها القومى «هبل»، وهذه الألهة الأخرى التى أقامت بالكعبة جعلت قريشًا تفكر تفكيرًا جديدًا. فوجود آلهة القبائل المختلفة متجاورة فى الكعبة هو فى حقيقة الأمر نوع من التعايش الدينى، حيث لا أفضلية لإله على إله وبالتالى فلا أفضلية لقبيلة على أخرى فى حد الكعبة. وقريش كانت تسعى جاهدة لتوسيع نطاق هذا التعايش الدينى، فكلما اتسع، اتسعت تجارتها، واتسع نفوذها. ويخطئ من يظن أن كل القبائل كانت تحج إلى الكعبة، فقد كان الحج مقصورًا بطبيعة الحالة على القبائل التى تضع آلهتها فى أماكن إقامتها مثل «ذو خلصة» الذى استفتاه امرؤ القيس- الشاعر- فى الثأر لأبيه. أما «عبادك اليمانية» كما كانوا يسمون أنفسهم فى نداءاتهم حول الكعبة فنعتقد أنهم كانوا من اليمانيين المرتبطين بنفوذ قريش التجارى أثناء رحلة الشتاء، فقد كانت اليمن منقسمة بين مجوسية الفرس ويهودية ابن ذى يزن ومسيحية الأحباش. أما شرق الجزيرة، فقد كانوا يرون أنفسهم أندادًا للحجازيين ودياناتهم، وهو الشعور الذى حدا بهم إلى الإيمان بمسيلمة الكذاب، والدفاع عن دعوته بالاستبسال الذى ترويه كتب التاريخ عن يوم اليمامة فى حرب الردة، هذا الاستبسال الذى لا نرجعه إلى إيمانهم بمسيلمة لكنه كما قال أحد رجاله له: «والله إننى أعلم أنك كاذب وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة خير من صادق مضر»، ومسيلمة من ربيعة، بينما محمد ينتمى إلى مضر، والاثنان عدنانيان فى أنساب العرب.
إذن فقريش كانت تسعى إلى نشر نفوذ الكعبة بين العرب الباقين، وإلى أن تكون الكعبة بيت الأصنام الأكبر، لا أن تكون بيتًا لإله واحد، ومن هنا يمكن أن نفهم العداء المرير الذى قابلت به الدعوة المحمدية، فمحمد «ص» نادى بإزالة الأصنام من الكعبة، هذه الأصنام التى يسعى تجار قريش لاجتذاب العرب إلى أسواق مكة عن طريقها. إن دعوة محمد إلى الإله الواحد هى فى صميمها قضاء على فكرة التعايش الدينى الذى تسعى قريش لتحقيقه. وعداء قريش لمحمد «ص» لم يكن عداء للإيمان بالله، إله محمد، أو دفاعا عن إلهها الخاص، أو إيمانًا بالأصنام الساذجة التى يعبدها العرب، لكنه دفاع عن مجىء العرب إلى الكعبة قصدًا للحج فى الظاهر وترويجًا لتجارة مكة فى حقيقة الأمر. لقد عرض المكيون على محمد أن يؤمنوا بالله، على أن يجعل لآلهتهم شيئا من أمر، كما تقول السيرة، وهم لا يقصدون بهذا أن تكون للآلهة الأخرى قدرة كقدرة الله أو جلال كجلاله، ولكنهم يريدون أن تظل الأصنام بالكعبة لا لمكانتها الدينية بل لجاذبيتها التجارية، ومن هنا فالقرآن لا يسمى أهل مكة بالكافرين، وإنما يدعوهم بالمشركين فى مواطن عديدة، إنهم يريدون أن يشركوا مع الله إلهًا آخر، أو آلهة أخرى، وليت هذا الشرك كان عن اعتقاد صادر عن إيمان بالدين، ولكنه صادر عن تجارة بالدين فى أمور الدنيا.

شعائر الإله الواحد
وهكذا نرى أن الوحدة التى كانت قريش تسعى لتحقيقها بين القبائل العربية، لم تكن وحدة المستهدف فكرة قومية، فـ«المدينة- الدولة» فى الشرق القديم كانت فى بعض الأحيان تمد نفوذها فيما هو محيط بها من مدن؛ لتصنع منها وحدة سياسية جديدة قد تكون مملكة وقد تكون الإمبراطورية، كما فعل حمورابى فى بابل، فقد استطاع بقوة السلام أن يخضع العراق الأدنى لسيطرة مدينة بابل وإلهها مدروك، ومن هناك كان الإله مدروك هو إله الدولة البابلية الأولى، بينما لم تنهج مكة هذا المنهج ذاته لقد كانت تسعى إلى جعل الكعبة مزارًا للجميع، ليس من أجل توحيد شعب تؤمن أنه يجب أن يكون له كيان سياسى على غرار الإمبراطوريات المجاورة، وإنما من أجل صالحها التجارى، أولًا وأخيرًا، بل إنها لم تحاول حتى الدعوة لإلهها أو نشر معتقداتها الدينية بين العرب الآخرين، فظل إلهها «هبل» محدود النفوذ بين بطونها، وظلت أصنام أخرى كاللات والعزى ومناة تنازعه الشهرة والمكانة، بل تجتذب من رجال قريش أنفسهم من يعظمونها. روى عن رسول الله أنه قال: «أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومى» رواه مسلم.. وليس هذا بالأمر الغريب على تفكير قريش، فهى للكعبة نفسها باعتبارها مركز تجمع فى هذه البادية الشاسعة الأطراف.
أما محمد «ص» فكانت دعوته تقود إلى الطريق الآخر.. إنها لا تترك كل مدينة من مدن الجزيرة على ما تراه من نظم العبادة أو العيش أو التفكير، إنها تقود إلى الدولة المركزية الواحدة، التى تؤمن كل مدنها بإيمان واحد وتؤدى ضريبة موحدة ويسودها قانون واحد، لذلك فإن الرسول فى حجة الوداع فرض على من يريد أن يزور الكعبة ألا يدخلها عريان كما كانت تفعل بعض العرب، ومن الطبيعى ألا يزورها مشرك بعد أن أزيلت الأصنام منها، وحدد الرسول كذلك كل الشعائر التى يقيمها المسلمون فى حجهم، فالحج هذا ليس تجمعًا يمارس كل واحد فيه طقوس ديانته، كما يهوى، وبالتالى تظل الديانات المختلفة تتعايش جنبا إلى جنب. لكنه شعائر واحدة لإله واحد. وهذا ما يعمق فى هؤلاء العرب شعور الانتماء إلى تفكير واحد، وإلى منهج واحد فى النظرة للكون وللإله، ومن هنا فإن فكرة الانتماء للدولة والمجتمع الواحد ترسخت شيئا فشيئا بين هؤلاء العرب الذين عاشوا تاريخهم كله دون أن ينضووا تحت لواء واحد.

التجارة قبل الثقافة
ومن هاتين الفكرتين المتعارضتين، فكرة قريش وفكرة الدولة المركزية، نفهم اتهام محمد (ص) للقرشيين بقصور النظر، فهو ليس اتهامًا بقصور تفكيرهم عن استيعاب فكرة الإله الواحد. فالواقع أن قريشًا لم تكن تتوقف كثيرًا عند هذه المعتقدات، بدليل أنها كانت من أشد المدافعين عن الدين الجديد عند حرب الردة. وكان قادتها هم الذين رفعوا راية الإسلام بحماسة فيما بعد، لكن قصر نظر قريش كان نتيجة لأنها سعت لرواج تجارتها وليس لرواج ثقافتها أو تأكيد نفوذها، نعم إن قريشًا كانت تستطيع عن طريق استغلال الكعبة والحج أن تصبح أثرى القبائل العربية على الإطلاق، لكنها فى واقع الأمر كانت ستصبح نهبًا لأى قبيلة من القبائل المحاربة القوية التى تنتشر فى نجد والحجاز، وها نحن قد أدركنا مدى قوة قريش العسكرية أثناء صراعها مع محمد «ص» بعد الهجرة، فهى لم تكن فى وضع عسكرى يمكنها من حماية الثروة التى تسعى لتحقيقها، مثلها مثل يهود المدينة الذين اضطروا فى النهاية للخروج من جزيرة العرب كلها.
أما فكرة الدولة الواحدة فهى التى استطاعت أن تحقق لقريش المجد كله، لقد صارت أشهر قبيلة عربية إلى الأبد، بينما تدفقت أموال الفتوحات بين يديها، وإلى جانب الثروة التى كانت تحلم بها طويلا كان فى يدها صولجان الملك، وهو صولجان نادر يمكنها أن تقتل كل من ينازعها فيه بتهمة المروق من الدين.