رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نصر حامد أبوزيد يكتب: هل معجزات القرآن حقيقية؟

نصر حامد
نصر حامد

- محمد عبده كان يرى أن معجزات القرآن يقصد بها التنبيه وهى مجرد «تمثيلات تخيلية»
- الدمج بين «قطعية الثبوت» و«قطعية الدلالة» عند الحديث عن القرآن «تزوير»


الثابت والقطعى والراسخ فى مجال المعنى الدينى، هو الاستثناء لا القاعدة. وأى دراسة لتاريخ الفقه، أو لتاريخ علم العقائد، أو لتاريخ الفلسفة، فضلًا عن التصوّف، تؤكّد هذا. ثمّة مغالطات فى مسألة القطعيات والثوابت تحتاج تحليلًا. الخطاب الدينى الكلاسيكى يميّز بين أمرين: الثبوت والدلالة.

١- الثبوت مصطلح يحيل إلى الطريقة التى نحكم بها على نص ما، أو حكم فقهى ما، بأنّه وصل إلينا بطريقة موثوق فيها، أى أنّه مصطلح يرتبط بمصطلح آخر فى «علم الحديث» هو مصطلح «الرواية». وقد يكون الثبوت «قطعيا»، أى لا شكّ فيه، وقد يكون «ظنّيا» أى محلّ شكّ. من هنا يتمّ التمييز بين «قطعية الثبوت» و«ظنية الثبوت». كون الحكم أو النص قطعى الثبوت لا يعنى أنّه ميكانيكيا قطعى الدلالة؛ فالدلالة هى الجانب الأهم فى الحكم أو النص. القرآن مثلًا قطعى الثبوت فى الطريقة التى وصل بها إلينا، لكنه ليس قطعى الدلالة؛ إذ تتفاوت دلالة أجزائه -آياته وفقراته- بين الوضوح التامّ «القطعى»، وهو الأقلّ، وبين الغموض التام -المتشابه- الذى يحتاج التأويل.
٢- الدلالة -من جهة أخرى- مصطلح يشير إلى إشكالية الفهم والمعنى، أى أنّه بلغة «علم الحديث» يتعلّق بمصطلح «الدراية». بين طرفى «قطعى الدلالة» و«المتشابه» يوجد «المجمل» الذى يحتاج التفصيل والتخصيص، و«المحتمل» الذى تتردّد دلالته بين الحقيقة والمجاز وهو إلى الحقيقة أقرب، و«المؤوّل» الذى هو إلى المجاز أقرب.
وهذا التقسيم يكشف عن بعض «تزويرات» الخطاب الدينى حين يقرن «قطعية الثبوت» و«قطعية الدلالة» فى عبارة واحدة كلّما كان الحديث عن «القرآن»، الذى هو من منظور الفكر الكلاسيكى «قطعى الثبوت»، وليس أبدًا «قطعى الدلالة» إلا اسثناء. لو ضربنا المثل بأوضح المفاهيم الدينية-التوحيد، أنّ الله واحد لا شريك له- وحلّلنا النقاش الذى دار، وما زال يدور، حول ماهية التوحيد: هل كثرة الأسماء والصفات الإلهية الواردة فى القرآن تؤدّى إلى كثرة فى الذات الإلهية؟ وهل الصفات الإلهية هى نفسها الذات الإلهية، أم هى غيرها وزائدة عليها؟ ومن داخل هذه الإشكالية -التى لا يصحّ التقليل من أهمّيتها بدعوى وقف التفكير لأنّه يؤدّى إلى الشكّ والكفر- تتفرّع إشكاليات «القضاء والقدر»، و«الفعل الإنسانى»، و«المسئولية الإنسانية».. إلخ، وهى إشكاليات يطرح القرآن إجابات مختلفة لها إلى حدّ التناقض.
سيادة العقائد الأشعرية -التى مُنِحَت، لأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية، صفة «عقائد أهل السنّة والجماعة» -لا يعنى أن يهمل المفكّر التعامل مع العقائد التى تمّ تصنيفها فى خانة «البدع». إذا ظلّ الفكر الدينى واقفًا، أو سائرًا ونظره إلى الخلف، فهذا هو «الجمود» الذى يتمّ تدليله بمنحه اسم «الثوابت».
مسألة الفزع من المناهج الحديثة:
ثمّة منطق غريب يجب الحذر منه، بل تفكيكه، أعنى منطق وجوب التعامل مع النصّ الدينى من داخل المنظومة المعرفية الكلاسيكية، واتّهام المناهج الحديثة بأنّها تنطلق من «مفاهيم فلسفية غربية». يعتمد هذا المنطق على حجّة براجماتية هى «حالة الاحتقان السياسى والانغلاق على الذات»، التى يجب وفقًا لهذا المنطق أن تمثّل محظورا لا يسمح لنا باختراقه.
والحقيقة أنّ هذه المحظورات بالذات يجب أن تكون دافعا لمحاولة الاختراق وإلا يفقد الفكر دوره الريادى فى إحداث التغيير الفكرى المطلوب لتطوّر المجتمعات. التسليم بمنطق الحذر والحظر يعنى أن يؤبِّد الفكر حالة التخلّف والانغلاق بدلًا من أن يواجهها نقديا. من جهة أخرى، يبطن المنطق فى جوفه مفهوم «نحن وهم»، و«ثقافتنا وثقافتهم»، «مناهجنا ومناهجهم».... إلخ. وهو منطق مغاير تمام المغايرة لسيرورة الفكر الإسلامى فى تطوّره التاريخى، هذا التطوّر الذى كان مستحيلا حدوثه لو لم ينفتح المفكّرون المسلمون على ثقافات العالم، فى كلّ مجالات المعرفة.
إذا كانت المعارف اللغوية، ونظريات تحليل النصوص وتأويلها، قد تطوّرت فى «الغرب»، فمن العار أن نتصوّر أنّ نصوصنا الدينية لا تقبل، أو تتأبّى على التعاطى مع هذه التطوّرات، بدعوى أنها قد تفقد قداستها. والحال أنّ هذا التأثّر بثقافات العالم حدث فى تاريخ التفسير والتأويل، ولم تفقد النصوص شيئًا من ذلك، لسبب بسيط وبديهى، أنّ القداسة صفة يمنحها المجتمع المؤمن لنصوصه الدينية. طبعًا يمكن الاعتراض بالقول: إنّ إيمان المجتمع يحتاج حماية من التفكّك، وهذا اعتراض يفترض إيمانًا مريضًا، وليس الحلّ فى «الحماية» وإنّما فى تطوير مستوى الوعى.
مسألة الأساطير والمعجزات والخوف على «الإعجاز»:
القرآن نصّ سردى بامتياز -وهذه قضية لم تنل حقّها بعد من الشرح والتحليل والتفصيل- يحكى قصصا كان المعاصرون يعرفونها، وهو يخاطب معاصريه على قدر تصوّراتهم التى تتمثّل العالم عجائبيا وغرائبيا، مليئا بالملائكة والجنّ والقوى المسخّرة، إمّا لمساعدة الإنسان أو لتعويقه. هذا عالم القرآن، الملىء بحكايات المعجزات وقصصها، التى كانت جزءًا من الواقع الثقافى. وحين نتحدّث عن الواقع الثقافى يكون الحديث عن المفاهيم والتصوّرات القارّة فى وعى الجماعات التى توجه لها القرآن فى القرن السابع ومخيالها. عن هذا يقول الشيخ محمد عبده: إنّ هذا القصص، بما يتضمّنه من معجزات وأفعال خارقة، لا يقصد به التأريخ، وإنما يقصد به التنبيه والاعتبار. إنّها فى نظر عبده «تمثيلات» تخيلية. بل إنّ عبده يذهب إلى تبنّى رأى بعض المعتزلة فى مسألة نزول الملائكة للحرب إلى جانب المسلمين فى موقعة «بدر»، بأنّ هذا لم يحدث حرفيا، فالمؤرّخون حدّدوا على وجه التقريب عدد القتلى من الجانبين، ومن قتل من.. إلخ. القرآن ينصّ على أن الوعد بتنزيل الملائكة للقتال مع المؤمنين -هكذا يؤكّد عبده متابعًا بعض المعتزلة- كان لمجرد البشارة وتقوية العزيمة «وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم».
إذا كان القرآن يحكى قصص الأوّلين أو أساطيرهم -أسطورة تعنى قصة أو حكاية من التاريخ القديم- المليئة بالمعجزات، فإنّ نبى الإسلام لم يقترف معجزة بهذا المعنى، لذلك حرص المسلمون على إثبات كون المعجزة المحمّدية هى القرآن نفسه، أى أنّها معجزة غير مفارقة للخطاب النبوى، معجزة فى اللغة، وليست فى كسر قوانين الطبيعة.
كلّ هذه التخوّفات على قداسة النص محتملة، ما دام أنّ الإيمان ينبنى على التصوّرات الكلاسيكية. وتلك هى المشكلة الحقيقية. هل القرآن معجز لأنّه كتاب لقراءة الماضى والحاضر والمستقبل؟ قراءة الماضى من منظور تاريخ الخلاص، أى تاريخ الرسل والملوك والأمم الغابرة بهدف العظة والعبرة، نعم. أمّا قراءة الماضى بالمعنى العلمى للتاريخ فلا. قراءة المستقبل، أى مستقبل! وفى كثير من العبارات على ألسنة الرسل، وعلى لسان محمّد، أنّه لا يعلم الغيب إلا الله. المستقبل جزء من هذا الغيب «إنّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الأرحام، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدرى نفس بأى أرض تموت». ومع ذلك فالخطاب الدينى هو الذى يضطرب بسبب تطوّر المعرفة العلمية، وإمكانية توقّع هطول الأمطار، وإمكانية معرفة نوع الجنين فى الرحم.. إلخ.
يبقى أمر الإعجاز البيانى، وتطوّر نظرية الإعجاز البيانى يكشف عن أصولها فيما يسمّى «آيات التحدّى» فى القرآن، وهى نسق من الخطاب السجالى بين العرب ومحمّد، حلّلته تحليلًا مستفيضًا فى أماكن كثيرة من كتاباتى.
بدأت نظرية الإعجاز بالقول بالصِّرفة، أى أنّ الله تدخّل فصرف العرب -أى أعجزهم - عن الإتيان بمثله. ولولا هذا التدخّل لأتى العرب بمثل القرآن أو بأحسن منه بيانيّا. هذا قول المعتزلى «إبراهيم بن سيار النظّام»، أستاذ «الجاحظ»، وهو قول معناه أنّ المعجزة ليست فى القرآن ذاته، بل فى «تعجيز» العرب بالتدخّل الإلهى. تمّ رفض هذا التفسير، وتطوّرت محاولات إثبات الإعجاز، حتى بلغت نضجها فى نظرية «النظم» عند عبدالقاهر الجرجانى فى القرن الخامس الهجرى. وجوهر هذه النظرية أنّ القرآن نصّ لغوى أدبى ممتاز، ومصدر امتيازه أنّه نصّ استثمر قوانين اللغة -النّظم- فى أقصى وأعلى مستوياتها. لكن تظلّ هذه القوانين فى الأساس هى قوانين الكلام البليغ.
من هنا دفاع الشيخ عبدالقاهر عن «علم الشعر» و«علوم اللغة» لدرجة أنّه اعتبر أنّ من يهوّنون من شأن دراسة اللغة ودراسة الشعر تحت، أى شعار دينى، إنّما يسدّون المنافذ الوحيدة التى من خلالها يثبت الإعجاز، فهم بذلك يرتكبون جرما دينيا باسم الدين. فحوى ما يؤكّده الشيخ الجليل -الذى لم يكن منغلقا عن الإفادة من المعارف التى كانت متاحة فى عصره- أنّ القرآن نصّ لغوى أدبى بامتياز، وأنّ المنهج الناجز لمقاربته هو منهج التحليل اللغوى الأدبى، فى أرقى تجلياته حسب تطوّر المعارف اللّغوية الأدبية.
كان اكتشاف عبدالقاهر فى العصر الحديث، بفضل محمّد عبده، له الأثر الأكبر فى التواصل مع التراث اللغوى والبلاغى، وتطويره على يد أمين الخولى، رائد منهج التحليل الأدبى للقرآن. أن يُحارب هذا المنهج، بهذه الضراوة، أمر يكشف عن جرثومة الخلل فى الفكر الإسلامى، لا فى علاقته بالعالم وتطوّر المعرفة فحسب، بل فى علاقته الرافضة لتراثه الحيوى القابل للانفتاح، وتمسّكه بالتراث المغلق الذى كان مسجونًا فى أفق وعيه الزمنى.