رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أبناء السماء».. الدستور داخل قرية شهداء «أتوبيس المنيا» فى الذكرى الأولى للحادث

محررتا «الدستور »
محررتا «الدستور » داخل دير الأنبا صموئيل

يقيم دير «الأنبا صموئيل المعترف»، الواقع فى «جبل القلمون» بمركز مغاغة فى المنيا، السبت، قداس الذكرى السنوية الأولى لشهداء «حادث الأتوبيس»، وذلك بحضور أهالى الراحلين.
واستهدف هجوم إرهابى، يوم الجمعة ٢٦ مايو ٢٠١٧، عشرات الأقباط الذين كانوا يستقلون حافلة على الطريق الصحراوى الغربى فى طريقهم إلى الدير، ما أسفر عن مقتل ٢٩ شخصًا وإصابة ٢٤ آخرين.
وبهذه المناسبة، تزور «الدستور» قرية «دير الجرنوس»، التابعة لمركز مغاغة، التى قدمت ٧ من أبنائها فى الحادث الإرهابى، وتستمع إلى ذكريات الأهالى مع أبنائهم الراحلين.

رهبان: نناشد الدولة إعادة الزيارات مجددًا.. الطريق آمن.. واشتقنا لاستقبال الرحلات
ينظم رهبان دير «الأنبا صموئيل المعترف»، يوميًا، عددًا من «القُدّاسات» داخل الكنيسة التى تحمل اسم الشهداء الذين ماتوا لأجل تمسكهم بالإيمان المسيحى، بجانب «قُدّاسات» أخرى.
وتشهد كنائس الدير ما بين ٢ إلى ٦ قدّاسات يوميًا، يرأسها رهبان الدير، لكنها تخلو من الأقباط العاديين، امتثالًا لقرار منع استقبال أى رحلات للدير، بجانب صلوات «العشية» فى الأعياد، التى تقتصر هى الأخرى على الرهبان، بعدما كانت منذ عام لا تخلو من آلاف الزوار.
وطالب عدد من الرهبان بفتح الدير أمام الزوار مرة أخرى، ورصف طريقه، وإنشاء شبكات إرسال بالقرب منه، خاصة أنه ليس به برج اتصالات، ويبعد عن المدق بـ٢٧ كيلو، وإذا حدث شىء ما يصبح التواصل عبر التليفونات صعبًا.
وشددوا على أن الدير فى حماية الرب، وسيستمر فى حمايته، لأن «العذراء مريم والأنبا صموئيل وعدا منذ سنوات بألا يلحق أحد بالدير أى أذى»، وفق تعبيرهم.
«نحن فى رعاية الله ولا نخشى الإرهاب».. قالها أحد رهبان الدير، مضيفًا أن «طريق الدير آمن، ومنذ الحادث تشهد منطقته تشديدات أمنية وجهودًا تأمينية ضخمة».
وأشار الراهب،الذى طلب عدم نشر اسمه، إلى أن دير الأنبا صموئيل من الأديرة التاريخية التى يتبارك الأقباط بزيارتها، وهناك الكثير من حافلات الرحلات الكنسية التى ما زالت تنتظر الموافقة لزيارته.
وتابع: «قرار منع الزيارة ليس بأيدينا، بل فى يد الجهات الأمنية التى تخشى على زائرى الدير من تكرار تعرضهم لأى هجوم»، لكنه شدد على أن التشديدات الأمنية التى يشهدها الدير، كافية لتأمين زواره.
وطالب الراهب بفتح الدير أمام الزوار، وقال: «عدة كنائس تعرضت لهجمات، وكانت الإجراءات تقتصر فقط على تأمين الكنائس والزائرين، وليس منعهم نهائيًا».
راهب ثانى- طلب هو الآخر عدم نشر اسمه- شدد على أنه: «رغم وجود كثير من العصابات فى الجبل، إلا أننا نستقبل رحلات سفارى تأتى إلينا خصيصًا، ونستضيفهم ونوفر مكانًا لنومهم أيضًا، ونعطيهم ما يحتاجون إليه حتى يغادروا».
وأضاف: «بالرغم من منع الزيارات، إلا أن الدير يشهد الكثير من الخيرات والتبرعات، التى ترسل عبر الكنيسة المرقسية بالأزبكية».

زوجة وهيب: لا أنسى صرخات طفلى «بابا مات».. وأرملة عيد: وحيدة فى المنزل مع الذكريات
لم تتجاوز منتصف العقد الرابع بعد، لكن إذا رأيتها ستعتقد أنها قاربت على الستين، وكأن حادث استشهاد زوجها قد زاد من عمرها عشرات السنوات دفعة واحدة.
حين وصلنا إلى منزل «مريم عز» زوجة الشهيد «وهيب إدوارد» الشهير بـ«عايد ورد»، كانت منهمكة فى مهام الرجال، من رعاية الماشية وغيرها، فلم يعد لها ما تستند إليه سوى ابن لم يكمل العاشرة بعد.
رحل «وهيب» وهو فى الـ٣٧ من عمره، كما تقول زوجته، وترك خلفه ٤ أبناء، تتولى هى مهمة رعايتهم، الأولى «مارينا»، أنهت امتحانات الصف الثالث الإعدادى منذ أيام، والثانية مولودة بإعاقة ذهنية، عمرها ١٣ سنة، أما الابن الثالث «كيرلس»، فأنهى الابتدائية، والطفلة الأخيرة ما زالت فى الصف الأول الابتدائى.
تسترجع «مريم» واقعة استشهاد زوجها: «اعتاد كل فترة على زيارة الدير لإنجاز المهام التى يحتاجها، كإصلاح الأجراس وغيرها، وكان يترك كل ما يمكن أن يشغله، وأى مهام تخص تجارته أو الأرض، من أجل خدمة الدير، لأنه كان يرى أن أى عمل يقدمه له بركة، لذا كان يعمل فيه دون أجر».
وتضيف: «زوجى كان يعاملنى كأنى طفلة من أطفاله، ولست زوجته فحسب، فأنا كنت ابنته الرابعة، كان يحمل كل المسئوليات عنى، أما الآن فصرت وحدى تمامًا، أفقد معاملته وعشرته معى، حتى أولاده كانوا يرفضون تناول الطعام إلا وهو معهم، وإذا تأخر كانوا يذهبون لمنزل الجيران للاتصال به».
وعن اليوم الأخير مع زوجها، قالت «مريم»: «يومها استيقظت قبله وأيقظته فقام ليساعدنى فى بعض أعمال المنزل، وحين عرضت عليه الإفطار رفض لأنه ذاهب للدير، وذهبت أنا للحقل لبعض الأعمال، ولم تمر ساعتان حتى وجدت العديد من أهل القرية خارجين إلى الطريق مهرولين، وحين سألت قالوا إن حادثًا وقع للسيارة التى تحمل عايد وزملاءه، فعدت للمنزل حيث وجدت شقيق الشهيد يخبرنى بأنه سمع كلامًا عن حادث إرهابى لم يتأكد منه، ثم جاء كيرلس للمنزل يصرخ: (بابا مات)».
ما يهون الفراق على «مريم» هو ابنتها الكبرى- كما تقول- فهى التى تخبرها حين تراها تبكى أن زوجها شهيد فى السماء، وأنه لو عاش ١٠٠ عام لم يكن سيصل لتلك المكانة، مشيرة إلى أنها تعرف أنه فى مكانة جيدة، فمنذ زواجها به لم تره يفعل شيئًا سيئًا، ورغم عمله فى الفلاحة التى كانت تتعبه، إلا أنه لم يتأخر فى يوم من الأيام عن طلبات الدير.
وفى مقابل بيت الشهيد «وهيب»، يوجد منزل الشهيد «عيد إسحق»، الخالى من أى صوت، فالزوج الراحل فى أوائل العقد السادس من عمره، وبعد ٣ عقود من الزواج ترك ٦ أولاد منهم ٤ بنات تزوجن ويعشن فى بيوت أزواجهن، أما الولدان فالأول يؤدى خدمته العسكرية، والثانى ما زال يدرس ليحصل على شهادة الدبلوم، وهو يعمل بجانب الدراسة، ما يجعل الأم وحيدة، معظم اليوم مع ذكرياتها.
وتقول الأم «فايزة حنا»- التى طلبت أن ننتظرها حتى تأتى بإحدى بناتها قبل بدء الحديث معنا- إن زوجها خرج يوم الحادث فى السادسة صباحًا قبل أن تخرج هى إلى الحقل، مشيرة إلى أن الزيارة الخاصة بأعمال الدير هى زيارة دورية لزوجها ومن معه، عدا الشهيد «ناصف عياد».
وتضيف: «حينها عرفنا ونحن فى الحقل أن حادثًا وقع للسيارة، وعرفنا تفاصيل ما جرى بعد ما يقرب من ساعة.. وبعد الحادث عرفنا من الناجين أن الإرهابيين خيّروا الشهداء بين نطق الشهادة وإنكار الإيمان بالمسيح أو الموت، فاختاروا الموت، وهو ما رفع رؤوس أهالى كل الشهداء، رغم أن الفراق يصعب على أغلبنا».
وتتابع «فايزة»: «٣٠ سنة عشتها مع الشهيد ولم أعرف قيمة هذه العشرة إلا بعد استشهاده، فهو كان رفيق حياتى ولا أشعر بحياتى بدونه، فحاليا أعيش على ذكرياتى معه».

والد أصغر الراحلين: رأيته ميتًا قبل استشهاده.. وزوجة ناصف عياد: لا نستطيع زيارة قبره حتى الآن
على أطراف القرية، فى الجزء الغربى منها، يقع منزل الشهيد «كرم عاطف إبراهيم»، ابن الـ١٩ ربيعًا، أصغر شهداء القرية فى الحادث.
تقول والدته: «ابنى كان مرتبطًا بالدير ارتباطًا غير عادى، فهو يعمل هناك منذ ٥ سنوات، ويصوم كل الصيامات الكنسية»، مشيرة إلى أنه طلب الرهبنة دون أن يخبر أسرته.
وتضيف: «فاجأنا حين بنينا شقة له فى الدور الثانى من منزلنا، بسؤاله: (لماذا نبنى الشقة؟)، فأخبرته أنها لزواجه، فرد قائلا: (أنا مش قاعد للزواج، أنا ناوى على الرهبنة)»، مشيرة إلى أنه كان سيختار اسم «صموئيل» إذا انضم لسلك الرهبنة.
وحول الساعات الأخيرة التى قضاها «كرم» أو «صموئيل» فى منزله، قال والده: «أيقظته فى الصباح الباكر ليلحق بسيارة الشهيد عايد ليذهب للدير، فقام وارتدى ملابسه ثم جاء واحتضننى وقبلنى وسار باتجاه الباب، ثم عاد مرة أخرى ليقبلنى، وحين استغربت وسألته عن السبب فقال لى: (مفيش)»
ويضيف عاطف إبراهيم: «بعد خروجه حاولت أن ألحق به لكن لم أستطع، وجلست على عتبة الدار، حينها رأيت ابنى ميتًا أمامى فى صندوق، فاتصلت به لأطمئن عليه فرد بأنه بخير، ولكنى رأيت نفس المشهد أمامى مرة أخرى، فاتصلت به فرد وقال إنها آخر مكالمة بينى وبينه لأنه عند بداية مدق الأنبا صموئيل، أى أن الشبكة ستنقطع».
ويتابع: «من كثرة ما رأيت المشهد أيقنت أن صموئيل سيموت، وبالفعل بعدها بقليل وجدت جلبة فى الشارع، وحين سألت قالوا إن السيارة التى تنقل العمال للدير انقلبت على الطريق، وبعدها عرفت أنهم استشهدوا».
وتضيف والدة الشهيد: «كرم كان طيب القلب وكان يساعد فى مصروف البيت»، مشيرة إلى أن والده تأثر منذ الحادث فيجلس بالساعات عند مدفن ابنه.
«ناصف عياد»، ابن الـ٣٢، لم يكن يعرف أن زيارته الأولى لدير الأنبا صموئيل ستكون فيها نهايته، فالشاب الذى تزوج منذ ٦ سنوات من ابنة عمه، كان دون عمل ثابت، كما هى العادة فى الريف، لذا اعتاد أن يذهب إلى أى عمل يجده، سواء كان فلاحة أو غيرها.
وتقول «نوال فرج عياد»، زوجة الشهيد، إن آخر عمل اشتغل به زوجها هو تركيب أجراس دير الأنبا صموئيل، وقبل الحادث بيوم واحد أجرت عملية لإزالة المياه البيضاء من إحدى عينيها، وبسبب ذلك لم تستطع الخروج حين سمعت بانقلاب سيارة العمال، فخرج عمها ووالدها لمعرفة ما جرى، وعلمت بعدها أن حادثًا إرهابيًا استهدف السيارة واستشهد من فيها.
وتعيش «نوال» حاليا بأبنائها الثلاثة فى منزل والدها، نظرًا لوفاة والدتها بعد ٥ أشهر فقط من وفاة زوجها، وتربى أولادها بالمعاش الذى تصرفه الدولة لأهالى الشهداء.
أما ما ينغص على زوجة الشهيد «عياد» حياتها، فهما شيئان، الأول هو زيارة قبر زوجها فى دير الأنبا صموئيل المغلق بتعليمات الأمن منذ الحادث، أما الثانى فهو ما رواه ابنها الأكبر «كيرلس» عن الحادث، خاصة أنه الوحيد الذى شاهد الحادث.
وحلت الكنيسة الأزمة الأولى لزوجة الشهيد ببناء مزار للشهداء السبعة فى كنيسة القرية، وكما تقول «نوال»: «المزار هو تعزيز لكرامتهم كشهداء، كما أنه يقرب المسافة فيستطيع الأهل زيارة ذويهم وقتما يريدون، أما أزمة حديث كيرلس فلا علاج لها إلا الزمن».

طفلا عايد يصليان من أجل مرتكبى الجريمة: «نتمنى لهم التوبة».. وأرملته: فخورة بوجوده فى صفوف الأبطال
أسرة الشهيد إسحق شلبى لها قصة مختلفة، فبعد علم الأسرة بالحادث تطوع الكثير من الأهالى بإخبار الأسرة بأن «إسحق» ليس بين الشهداء، لأن الجثة لم تكن مع باقى جثث الشهداء، بعد أن حملته الإسعاف قبل وصول الأهالى إلى مستشفى مطاى بالمنيا.
وقالت زوجة الشهيد، الذى توفى وهو فى عقده السادس، إن زوجها اعتاد الذهاب للدير ضمن عدد من العمال، للقيام بمهام تجديد الدير أو تغيير أجراسه، وما إلى ذلك، وفى اليوم الذى استشهد فيه خرج باكرا ليلحق بزملائه ويركب سيارة الشهيد «عايد».
وأضافت: «وقتها سمعنا فى القرية عن حادث وقع للسيارة، ولم يخبرنا أحد خوفا علينا، وبيت الشهيد عايد أبوماركو هو البيت الوحيد الذى علم بالحادث بعد وقوعه مباشرة».
وتابعت: «لما علمنا بالخبر نزلنا إلى الشارع مهرولين، فبادر عدد من سكان القرية بإخبارنا بأن الشهيد إسحق ليس من بين الشهداء، لأن جثمانه ليس بين جثامينهم، وحسبنا أنه فقد فى الصحراء، ولكن بعد البحث عرفنا أنه موجود بمستشفى مطاى».
أما الشهيد «عايد ناصف»، الذى كان يبلغ ٤٥ سنة قبل رحيله، فشعر بقرب النهاية، ومن ثم ودع أسرته قبل ساعات من وقوع الهجوم الإرهابى، حين كان فى طريقه ليؤدى خدمته المعتادة بالدير وهى صناعة أجراس كنائس الدير، مصطحبا ابنيه الصغيرين لينالا بركة الخدمة به، إلا أنهما شاهدا رحيل أبيهما مقتولًا على يد الإرهاب، وأصبحا شاهدى عيان للأحداث المرعبة التى شهدها موقع الحادثة.
تقول «هناء يوسف»، زوجة الشهيد: «ابناى فخوران باستشهاد أبيهما، ويعتبرانه قديسا يشفع لهما بالسماء، بل يصليان من أجل من مجرمى الحادث الإرهابى، ليس انتقاما ولكن لكى لا يكرروه مجددا».
وتروى «هناء» أن زوجها ناصف كان يشعر باقتراب موته، فأصر على وداع أسرته كاملة قبل وقوع الحادث بساعات، متابعة: «الله وحده هو من أنقذ طفلىّ مينا وماركو، اللذين يبلغان ١٠ و١٢ سنة، فأبوهما كان أول شهيد فى الحادث، حين طالبه القتلة بإنكار إيمانه المسيحى، وفقا لرواية الطفلين اللذين شاهدا الحادث، إلا أنه أصر حتى النفس الأخير على الثبات على إيمانه المسيحى، فأطلقوا عليه حوالى ٣ طلقات أردته شهيدًا».
وأشارت إلى أن «الطفلين ماركو ومينا كانا بمواجهة رصاص الإرهاب بموقع الحادث بالدير، إلا أنه فى الوقت الأخير تدخلت عناية الله لإنقاذهما وتراجع الإرهابيون عن قتلهما، ليقودا السيارة التى كان يقودها زوجى إلى الدير، رغم عدم إتقانهما قيادة السيارة، ووحده الله الذى ساعدهما على هذا الأمر لكى يبلغا بوقوع الحادث، وليتم إنقاذ بعض المصابين، نظرا لعدم وجود شبكات للهاتف المحمول بمحيط الأنبا صموئيل المعترف». وشددت أرملة عايد ناصف على أنها فخورة بزوجها الذى أصبح بين صفوف الشهداء بالسماء بثباته على إيمانه المسيحى حتى النفس الأخير، لافتة إلى أنها خصصت غرفة لذكرياته ولملابسه التى كانت بالحادث، لتخلد ذكراه بين أبنائه وقريته، التى اختارت اسمه لقبًا للشارع الذى به بيته فى «دير الجرنوس».