رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: شريهان.. سيدة البهجة التى فشلوا فى اغتيالها

أشرف عبد الشافي
أشرف عبد الشافي

- أجرت ١٣ عملية جراحية بعد حادث سيارة

فى النصف الثانى من الثمانينيات كانت هموم الثانوية العامة تحول بينى وبين البهجة، أستيقظ مفزوعًا ومخنوقًا غارقًا فى الشعور بالذنب، لأننى كما العادة لم أنتبه إلى صوت المنبه ولا إلى تنطيط ابنة أختى على بطنى وظهرى، وغرقتُ فى النوم وراحت علىّ حصة الإنجليزى وحصصًا أخرى كثيرة، ومضت المرحلة فى جانب منها على هذا النحو الذى يعرفه أبناء جيلى من الكسالى وأعداء المذاكرة فى قيظ الحر وبرد الشتاء أيضًا.

لماذا كل هذا الرغى وما دخلك أنت بكسلى وخيبتى؟ تسألنى، وأجيب: لأن فى تلك القصة حكمة تقول إن الله سبحانه وتعالى قادر على إرسال نفحة من البهجة وسط كل هذه الهموم، وكانت شريهان هدية السماء لأبناء جيلى فى طول مصر وعرضها من مشاهدى القناتين الأولى والثانية قبل طفح مواسير الفضائيات.
كنا على موعد مع البهجة والفرحة كلما هلّت على الشاشة كائنًا خفيفًا يكاد من فرط الجمال يذوب، تتعدد الفساتين والألوان والرقصات والأغانى، وتتنوع الأنثى الصغيرة لتصبح كل النساء والفتيات، كنا نأخذ جرعة المتعة ونترك الشاشة لنبدأ رحلة الثانوية العامة من جديد.
وكلما جاء رمضان حضرت شريهان كأنها لم تغب ولم تمرض ويتكسر عظم جسدها الرقيق، كأن شيئًا من الشائعات التى تحرق البدن وتخنق الروح لم تنتشر، وأذكر أننى بكيت بحرقة عام ٢٠٠٢ عندما شاهدت بعض صورها على سرير المرض فى باريس، فلم يعد هذا الجسد النحيل قادرًا على تحمل الآلام، ولم يعد الوجه الصبوح الضاحك المبهج قادرًا على إخفاء الأحزان، وما أصعب هذه اللحظات التى نسترجع فيها حياتنا لنكتشف أنها لم تكن سوى مأساة كبرى.. لا تخلو من هزائم وانكسارات وخيانات وظلم وقهر دون أن نجد مشهدًا واحدًا لشخص بعيد أو قريب يمسح دموعنا ويشاركنا عذاباتنا. هذا تقريبًا ما حدث مع «شريهان» تلك الفتاة المبهجة الحزينة، التى لم تستيقظ يوما منذ صباها إلا لتجد نفسها عنوانًا لحدوتة جارحة لتتحول حياتها إلى حقل من الألغام، وهى فراشة تعشق التحليق، وكلما صنعت جناحًا لتطير سقطت على لغم ينفجر فى أحشائها، كنا نراها على الشاشة مبهجة حاضرة ومهيمنة، لكننا فجأة نسترجع حواديتها ونتوقف أمام شريط طويل من الأكاذيب والشائعات ليختلط الصدق بالكذب بالفضائح.. وهى تصمت أحيانًا وتثور أحيانًا أخرى، ولأننا بشر نتعاطف قليلًا ونقسو دائمًا.. قررنا أن نطلق الرصاص، ولم نعطِ أنفسنا فرصة واحدة للتفكير فى «شريهان» باعتبارها بنتًا مصرية لها الحق فى الحياة بعيدًا عن رغباتنا الدائمة فى التلصص على أسرارها.. ولها الحق فى الدفاع عن نفسها! ظلمناها كثيرًا حين استجبنا لهؤلاء الذين قرروا ذبحها وحولوا حياتها إلى فيلم سينمائى يتم عرضه فى الشوارع والحارات والميادين مع الحرص على وضع التوابل المطلوبة لنجاح هذا الفيلم، توابل ساخنة جدًا ومؤلمة جدًا، وبالطبع سارع كثيرون لإضافة التوابل: فنانات تسربت الأيام من بين أصابعهن ووجدن أنفسهن باهتات وبلا لون أو طعم أمام موهبة متفجرة اسمها «شريهان» وأقلام مأجورة وخيال واسع يستقبل كل ذلك.
فى أواخر الثمانينيات تعرضت شريهان لحادث سيارة مؤلم كانت قد بدأت تعلن عن نفسها كفنانة مختلفة عن جيل من الفنانات المفروضات على السينما وعلينا أيضًا، ورغم أن الحادث كان مؤلمًا وقاسيًا، ونجت منه بأعجوبة، وأجرت بسببه أكثر من ثلاث عشرة عملية جراحية، ووضع فى جسدها أكثر من ثلاثين مسمارًا بلاتينيًا إلا أن الشائعات والأقاويل هى التى سيطرت على الموقف! تناسى الجميع كل أحزان هذه الفتاة المسكينة، وراحوا ينسجون الحكايات، وقبل هذا الحادث بعامين فقط كان شقيقها عازف الجيتار الشهير والموهوب جدًا «عمر خورشيد» قد تعرض هو الآخر لحادث سيارة أكثر غموضًا، وبرحيله فقدت «شريهان» آخر ما كانت تحتمى به فى هذه الحياة القاسية، لكنها ورغم هذه الضربات الموجعة ظلت واقفة تدارى أحزانها وآلامها عن وسط لا يرحم، وبشر يستمتعون بتعذيب البشر، حتى فى السينما لم يتركوها فى حالها فقالوا إنها دلوعة ولا تصلح سوى للأدوار الاستعراضية، خرجت عليهم بفيلم «الطوق والأسورة» ثم بدورها فى رائعة الراحل رضوان الكاشف «عرق البلح»، وبين هذا وذاك صنعت شريهان البهجة مع الفوازير وعلى خشبة المسرح وشاشة السينما والتليفزيون، وما زالت هى رائحة رمضان لجيلنا البائس متعها الله بالصحة، وجعلها عنوانًا للبهجة.