رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السفارة فى القدس.. وعليكم الكلام.. والرحمة!


قبل ساعات من افتتاح سفارة الولايات المتحدة فى القدس المحتلة، ارتكب الإسرائيليون مجزرة، صباح أمس الأول الإثنين، أدت إلى استشهاد عشرات الفلسطينيين وإصابة مئات الجرحى. واليوم، الأربعاء، يعقد مجلس الجامعة العربية اجتماعًا طارئًا، على مستوى المندوبين الدائمين لـ«بحث سبل مواجهة قرار الولايات المتحدة غير القانونى» بنقل سفارتها إلى القدس.
الاعتراف، أحادى الجانب، بالقدس عاصمة لذلك الكيان، وقرار نقل السفارة الأمريكية إليها، أعلنه الرئيس الأمريكى فى ٦ ديسمبر الماضى، وبعده بأيام عقد مجلس الأمن جلسة طارئة بدعوة من مصر وسبع دول أخرى، أى النصف زائد واحد، تكتلت فيها ١٤ دولة، أى الكل ناقص واحد، ضد قرار الرئيس الأمريكى أو اعترافه، أحادى الجانب، ولم تجد واشنطن من يؤيدها، إلا نفسها. وأجمع سفراء الدول الأعضاء على أن القرار «لا يتطابق مع قرارات مجلس الأمن»، واستندوا إلى «القانون الدولى وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة»، وأعلنوا أن «القدس الشرقية جزء من الأراضى الفلسطينية المحتلة». و«أن وضع القدس يجب أن تحدده مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تنتهى باتفاق حول الوضع النهائى». ومع ذلك، انتهت الجلسة إلى «لا شىء».
بانتهاء جلسة مجلس الأمن إلى لا شىء، بسبب الفيتو الأمريكى، كان اللجوء إلى القرار ٣٧٧ «الاتحاد من أجل السلام» الذى يتيح للجمعية العامة أن تعقد دورة استثنائية طارئة، تناقش فيها مشروعات القرارات التى يسقطها «الفيتو» فى مجلس الأمن. وبالفعل انعقدت جلسة طارئة كانت هى العاشرة من نوعها فى تاريخ «الجمعية العامة». وبالإجماع إلا قليلًا، وبموافقة ١٢٨ دولة (أى أكثر من الثلثين) صدر القرار الأممى الملزم بإبطال أى قرار أو تصرف يغير طابع القدس أو وضعها، وبالتالى صار قرار نقل السفارة الأمريكية إلى المدينة المحتلة باطلًا، وكذا أى قرارات شبيهة أخرى.
القرارات الصادرة عن الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة، المنعقدة بموجب القرار رقم ٣٧٧، لها قوة قرارات مجلس الأمن، ومخالفتها تستوجب فرض عقوبات دولية تحت الفصل السابع، تتراوح ما بين العقوبات الاقتصادية واستخدام القوة العسكرية. وعليه، لا أعرف ما الجديد الذى سينتهى إليه اجتماع مجلس الجامعة العربية الطارئ، ولا أرى له جدوى، بعد أن استنكرت الجامعة القرار وأدانته «بشدة» فور صدوره، وبعد أن حذّر أمينها العام، يوم الإثنين الماضى، من أن «افتتاح سفارة واشنطن يُمثل خطوة بالغة الخطورة لا تدرك الإدارة الأمريكية تبعاتها الحقيقية على المديين القصير والطويل. وبعد أن ناشد جميع الدول التمسك بالمبادئ وعدم الإذعان للضغوط أو المغريات.. إلخ».
الأرجح، بل المؤكد، هو أن المندوبين الدائمين، بعد بحث سبل المواجهة، وبعد تناول الغداء والقهوة والشاى وخلافه، سيخرجون بعد اجتماعهم العاجل أو الطارئ ببيان يستنكر ويناشد وقد تعلو درجة التحذير أو تقل. وعليه، لن يكون أمامنا غير أن نعرب، كما أعرب الأزهر الشريف، عن أسفنا «للتشتت العربى والإسلامى الذى شجع بعض الدول على الانسياق وراء القرار الأمريكى، والإعلان عن نقل سفاراتها إلى القدس، ما يمثل تحديًا لمشاعر مليار ونصف المليار مسلم عبر العالم، ممن يرون انتهاك مقدساتهم ومقدسات إخوتهم المسيحيين، والعبث بتاريخها وتهويد معالمها ومحاصرة أهلها، وسط عجز وتخاذل دولى غير مسبوق، والكيل بمكيالين فى القرارات الدولية وقوانينها».
كان مؤثرًا للغاية أن يلتفت الأزهر، فى البيان الصادر الإثنين، إلى أن «الاحتفال بتدشين تلك السفارة المزعومة يأتى متزامنًا مع الذكرى السبعين لنكبة فلسطين، فى تأكيد جديد على أن البعض يفضل الانحياز لمنطق الغطرسة والقوة على حساب قيم العدالة والحق، ما يجعل عالمنا المعاصر أبعد ما يكون عن الاستقرار والسلام». ومع ذلك، كان غريبًا وعجيبًا أن نجد الأزهر نفسه، الذى أعرب عن أسفه للتشتت العربى والإسلامى، وأعربنا معه، يعود ويدعو، فى البيان نفسه، «الحكومات والشعوب والمؤسسات العربية والإسلامية والعالمية التى تؤمن بقيم العدل والحرية إلى الاضطلاع بواجبها القومى والدينى والأخلاقى تجاه القدس وفلسطين، وتنفيذ ما سبق إصداره من قرارات تجاه الدول التى تقوم بنقل سفاراتها إلى القدس المحتلة»!.
كاد يصيبنى القلق من ألا تلقى دعوة الأزهر أى استجابة، لكن قلبى اطمأن بصدور بيان «منظمة التعاون الإسلامى» الذى هددت فيه بأنها «ستُفعّل قيودًا سياسية واقتصادية على البلدان أو المسئولين أو البرلمانيين أو الشركات أو الأفراد الذين يعترفون بضم إسرائيل للقدس، أو يتعاملون مع أى إجراءات تتصل بتكريس الاستعمار الإسرائيلى للأرض الفلسطينية المحتلة». وأعلنت أنها «قررت انتهاج جميع السبل القانونية والسياسية والتشريعية المتاحة على المستويين الوطنى والدولى لمواجهة وقف نظام الاستيطان الاستعمارى الإسرائيلى فى الأرض الفلسطينية المحتلة، ومنها القدس الشرقية، واعتماد إجراءات تكفل حرمان الشركات، وغيرها من الجهات الفاعلة التى تختار الاستفادة من النظام الاستعمارى الإسرائيلى، من ولوج أسواق منظمة التعاون الإسلامى».
ربما تعتقد أن هذا هو «الكلام» الكبير الذى كنا ننتظره ونتمناه. وقد يطمئن قلبك وتهدأ سريرتك، لو عرفت أن منظمة التعاون الإسلامى تصف نفسها بأنها «ثانى أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة»، وتضم فى عضويتها سبعًا وخمسين (٥٧) دولة عضوًا موزعة على أربع قارات. تعتبر المنظمة الصوت الجامع للعالم الإسلامى الذى يضمن ويحمى مصالحه فى المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. منظمة التعاون الإسلامى لديها مؤسسات تنفذ برامجها. كما أن القمة الإسلامية تضم ملوك ورؤساء الدول وحكومات الدول الأعضاء، وهى السلطة العليا لمنظمة التعاون الإسلامى. وتنعقد مرة كل ثلاث سنوات للتداول واتخاذ القرارات السياسية وتوفير الإرشاد بشأن القضايا المتعلقة بتحقيق الأهداف والنظر فى المسائل الأخرى التى تهم الدول الأعضاء والأمة.
فوق ذلك، يجتمع مجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء فى المنظمة بصفة دورية، مرة كل سنة، ليدرس سبل تنفيذ السياسة العامة للمنظمة ويتخذ القرارات والمقررات بشأن مسائل تحظى بالاهتمام المشترك لنيل الأهداف وتنفيذ السياسة العامة للمنظمة، واستعراض ما يتم إحرازه من تقدم فى تنفيذ القرارات والمقررات الصادرة عن مؤتمرات القمة الإسلامية ومجالس وزراء الخارجية السابقة. وللمنظمة أيضًا أمانة عامة، هى جهازها التنفيذى، تتولى تنفيذ القرارات الصادرة عن هيئات صنع القرار بالمنظمة، وتتكون من أقسام متعددة تعمل على تعزيز العمليات اليومية للمنظمة التى يأتى على رأسها وفى البند (أ) شئون فلسطين والقدس.
هل اطمأن قلبك وهدأت سريرتك؟!
لو حدث ذلك، ستكون ساذجًا أو طيبًا زيادة عن اللازم، ولن أقول «عبيط»، لأن هذا الكلام الكبير سيظل مجرد كلام، والبيان سيرقد إلى جوار مئات، بل آلاف البيانات التى سبقته. وتكفى الإشارة إلى أنه فى ١٣ ديسمبر الماضى انعقدت قمة طارئة لمنظمة التعاون الإسلامى فى إسطنبول بتركيا، لبحث قرار الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، ودعا البيان الختامى للقمة إلى الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية، وتحقيق «السلام العادل الشامل القائم على أساس حل الدولتين». وأكد قادة الدول والحكومات المشاركون، رفضهم وإدانتهم لما سموه «القرار الأحادى وغير القانونى» للرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وشددوا على اعتبار القرار «لاغيًا وباطلًا واعتداءً على الحقوق التاريخية والقانونية والطبيعية والوطنية للشعب الفلسطينى، وتقويضًا متعمدًا لجميع الجهود المبذولة لتحقيق السلام». ووصفوا قرار الرئيس ترامب بأنه «يصب فى مصلحة التطرف والإرهاب ويهدد السلم والأمن الدوليين». وسيكون هذا بالضبط، هو نص البيان الختامى الذى ستصدره القمة الطارئة التى دعت إليها الحكومة التركية، الإثنين الماضى!.
قرار الإدارة الأمريكية بنقل سفارتها إلى القدس غير قانونى طبعًا، ويمثل اعتداءً على الحقوق التاريخية والقانونية والطبيعية والوطنية للشعب الفلسطينى. والمؤكد أن إصرارها على القرار، وقيامها بتنفيذه، ينتهك القوانين الدولية القائمة، والقرارات الأممية الملزمة، المتعلقة بوضعية القدس. وبتحدّيها إدانة ورفض المجتمع الدولى، تكون الولايات المتحدة قد ركلت منظومة القوانين والتشريعات الدولية، بشكل يجعل عدم فرض عقوبات ضد تلك الدولة المارقة بمثابة شهادة وفاة، جديدة، للأمم المتحدة. ونكرر أن القرارات الصادرة عن الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة، المنعقدة بموجب القرار رقم ٣٧٧، لها قوة قرارات مجلس الأمن، ومخالفتها تستوجب فرض عقوبات دولية تحت الفصل السابع، تتراوح ما بين العقوبات الاقتصادية واستخدام القوة العسكرية.
لكن.. وماذا وبعد؟!
الواقع يقول إن شيئًا لن يحدث ولا جديدًا فى ذلك، إذ لم يحدث أن التزمت الولايات المتحدة بأى قرار أممى، صدر عن غير رغبتها أو يتعارض مع مصالحها، كما لم يحدث أن قوبلت انتهاكاتها المتكررة للقانون الدولى والقرارات الأممية، أو وُجه خرقها للشرعية الدولية، بأى رد فعل، غير الكلام. وصدور شهادة وفاة جديدة للأمم المتحدة، تضاف إلى شهادات الوفاة الكثيرة التى صدرت منذ يوم ولادتها. وسبب ذلك ببساطة، هو أن الحق بلا قوة لن ينتصر فى أى معركة يخوضها ضد قوة بلا حق. ورحم الله من قال «ما أُخذ (بضم الألف) بالقوة.. لن يُسترد (بضم الياء) بغير القوة».
.. والوضع كذلك، لن نكون مبالغين لو قلنا إن «تحية» الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامى، لن يرد عليه العدو «العاقل» إلا بابتسامة صفراء، متبوعة بتحية أحسن منها: وعليكم الكلام ورحمه الله وبركاته. والإشارة هنا مهمة وواجبة إلى أن طلب الرحمة، خلافًا لما هو شائع، يجوز على الحى والميت!.