رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكرم القصاص: السياسة أفسدت الصحافة.. والكتابة الساخرة تحتاج للحرية

عدسة محمد أسد
عدسة محمد أسد

* الصحافة على حافة الهاوية بفعل الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي
* ما زالت أحلم بتنفيذ عدد من المشروعات الصحفية والإبداعية
* «مبارك» مشروعي القادم

«أرجو ألا تعتبرني مبالغًا حين أقر واعترف بأنني من أكبر المهمومين بدموع صاحبة الجلالة التي تنزفها حاليًا، تداعبني الآمال وتُبكيني الآلام في منامي ونهاري، كلما خاض عقلي مفكرًا في مستقبلها، وتعلق قلبي بذكريات ماضيها الجميل، وبصرت عيني بواقعها الأليم والمرير».

أخرج من هذا الحصار النفسي الصعب، لأجد نفسي مضطرًا لأن أطُلق الرصاص، على ذلك الابن العاق، ممن خان الأمانة، ولم يراع رسالة الصحافة حق رعايتها، فاختار ضميره عبادة الحكام، وانحاز قلمه إلى مديح الأنظمة، يجمل قبيحها ويعظم مليحها.

القاسية قلوبهم هؤلاء آن الأوان لأن يرحلوا غير مأسوف على أقلامهم ولا كلماتهم، بعدما قطعت حروفهم حبال الود وحطمت جدران الثقة بين القارئ والصحافة.

فـ«صاحبة الجلالة» الآن بحاجة إلى رجال صدقوا عهودهم تجاه المهنة، رجال لا خوف على ضمائرهم من عصا السلطان، ولا هم يحزنون إذا ما ضاقت بهم الأحوال يومًا، لأنهم مؤمنون دومًا بأن جزاء صنيعهم هو الخلود في مقعد صدق داخل مملكة التاريخ.

حول تلك الخواطر دار حوار «الدستور» مع الكاتب الصحفي أكرم القصاص، رئيس التحرير التنفيذي لجريدة «اليوم السابع»، والذي طرح من خلاله رأيه في أزمات الصحافة الحالية، كاشفًا عن رؤيته للخروج من النفق المظلم، بالإضافة إلي الحديث عن مسيرته الصحفية الطويلة وأحلامه المستقبلية، وغيرها من الموضوعات.. وإلي نص الحوار:

* بدايًة.. أكرم القصاص كيف بدأ مشروعك الفكري والثقافي داخل عالم الصحافة؟
- منذ الصغر وأنا في حالة ارتباط فكري وروحي مع الأدب والشعر، أستمتع بالقراءة، وأعشق الكتابة حتي أصبحت هي مشروعي وهمي الأول، في وقت لم تكن فكرة العمل بالصحافة تملكت وجداني، أو دخلت ضمن أهدافي.

فور تخرجي في الجامعة عام 1983 حاولت استعادة واستئناف نشاطي مع الكتابة، فلم أجد أمامي وقتها إلا العمل داخل بلاط صاحبة الجلالة، وبدأت بالفعل وقتها في مراسلة عدد من الصحف، مثل «الشعب» و«الأهالي» وغيرها، حيث كنت مقيما بمسقط رأسي بمحافظة الغربية ولم أبرحها إلي القاهرة بعد.

* البدايات دائما ما تحفل بالصعوبات.. فكيف كانت الأجواء وأنت تخطو خطواتك الأولي تجاه صاحبة الجلالة؟
- في تلك الفترة من ثمانيات القرن الماضي، كانت الأجواء الثقافية والسياسية تعيش حالة من الثراء، حيث كانت الصحافة الحزبية تتمتع بنشاط ملحوظ، بجانب ذلك كان هناك رافد فكري شديد التأثير، يتمثل في الحركة السينمائية الجديدة، والتي شكلت مكونًا رئيسيا في تشكيل أفكار جيل الشباب آنذاك.

هذه الحقبة كانت البداية لما يعرف بظاهرة «سينما المقاولات»، بالإضافة إلي ظهور تيار سينمائي كان يسعي لتصفية الحساب مع الفترة الناصرية، كما شهدت أيضًا تلك الآونة ظاهرة انتقال الأدباء إلي عالمي الدراما والتليفزيون مثل أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن وغيرهما.

وسط تلك الأجواء ظهر جيل جديد من الصحفيين والكتاب، ساهمت السينما والكتاب في صهر أفكاره وتكوين معتقداته الثقافية.

* جريدة «العربي الناصري» كانت هي الميلاد الحقيقي لاسم أكرم القصاص.. فما هي الكواليس الخاصة بتك التجربة؟
- أولًا؛ بعد سنوات قليلة من عملي بالصحافة، ضاقت عليَّ صاحبة الجلالة بما رحبت، حيث كانت تمر وقتها بفترة شديدة الصعوبة وتحديدًا خلال العام 1986، وهو ما جعلني أرفع راية العصيان مؤقتًا بالسفر إلي العراق في فترة انقطاع لم تستمر سوى عام.

خلال تلك الفترة كانت هناك أنماط مختلفة من الصحفيين بدأت تطفو على السطح مثل «صحفي الشنطة والفاكس»، واستمرت تلك الحالة مصاحبة لنا، حتي منتصف التسعينات، والتي شهدت الظهور الأول لجريدة «العربي الناصري».

ثانيًا؛ في أواخر التسعينات من القرن الماضي منحني الراحل عبد الله إمام «نصف صفحة» بعنوان «الجورنالجية»، قمت من خلالها بالتعليق على الأحداث السياسية والاجتماعية بحس كوميدي ساخر، في ظاهرة لفتت الأنظار وحصدت الإعجاب.

ثالثا؛ وعندما تولي الأستاذ عبد الله السناوي رئاسة التحرير، منحني الفرصة والحرية كاملة لتحرير الصفحة، وقتها توهجت تلك التجربة بصورة لم يسبق لها أن حدثت من قبل، خاصة وأنها جاءت متوافقة مع حالة الغليان التي كان يشعر بها المواطن في الشارع المصري.


* وهل النزعة الساخرة التي ظهرت متوهجة على صفحات «العربي الناصري» عبر باب «الجورنالجية» كانت وليدة اللحظة أم سبقها ترتيب وإعداد؟
- الهدف النهائي لمشروع أي كاتب هو توصيل الفكرة للقارئ في قالب معين ومميز، أصعبها بالطبع يتمثل في نهج طريقة الكتابة بالحس الساخر، خاصة وأنه أكثر الألوان الصحفية جماهيرية، باعتباره يجمع بين المتعة والتشويق واللذة.

وعندما وليت وجهي شطر الكتابة الساخرة، بدأت في النهل من كافة المصادر التي اتخذت طريق الكتابة الساخرة سبيلًا، مثل كتابات عبد الله النديم، بجانب الإطلاع على مؤلفات الكاتب الأمريكي «مارك توين».. ونجحت في مزجها مع كتابات الأساتذة العظام أحمد رجب ومحمود السعدني والكاتب العالمي محمد الماغوط، لتكتمل السيمفونية بتعلقي بصفحة «الإهبارية» التي كان يقدمها الراحل صلاح عيسي، والتي مثلت النقلة الكبرى لرحلتي مع ذلك اللون الصحفي.

وقد نلت إشادات وشهادات كبيرة من قامات رفيعة أثنت علي قلمي وكلماتي، لتتوج مسيرتي باقتناص جائزة أحمد رجب للكتابة الساخرة من نقابة الصحفيين عام 2001.

* في وقت ما كانت الصحف تزخر بالعديد من الكتاب الساخرين أمثال أحمد رجب وجلال عامر وصلاح عيسي وأكرم القصاص وغيرهم.. برأيك ما هي أسباب ندرة أصحاب القلم الساخر حاليًا في الصحافة المصرية؟
- الكتابة الساخرة فن يتطلب مواصفات معينة حتي يتوهج؛ فلابد أن تكون هناك درجة مقبولة من الحرية تسمح بالاختلاف وتتقبل النقاش، بجانب احتياجه إلي مناخ تشع منه روح الاستقرار بدرجة معقولة.

ولكن نظرًا للظروف الانتقالية التي مرت بها الدولة المصرية خلال الفترات الماضية، تجدها قد أثرت بالسلب على ذلك اللون الصحفي، ومع ذلك هناك بعض الأقلام التي برزت خلال تلك الآونة مثل الكاتب الصحفي عمر طاهر.

* وهل أثر الانتشار الكثيف لمواقع التواصل الاجتماعي على فن الكتابة الساخرة؟
- مواقع التواصل الاجتماعي هي صدقة تبعها أذي، حيث نتج عنها خلط كبير في المفاهيم، ومعظم الأفكار الساخرة التي تنبع منها أغلبها ينطق عن الهوى، لأنها تندرج تحت إطار السخرية والاستهزاء وتهدف لتوثيق الكذب.

* أي من الأقلام الساخرة تجذب رشاقة كلماته انتباه أكرم القصاص؟
- يُمتعني عمر طاهر برشاقة كلماته، وأتابع بشغف كل ما يسطره قلمه، وكذلك أيضًا الكاتب السوري زكريا تامر.



* هناك من يري كتاباتك خلال فترة ما بعد ثورة يناير طغى عليها التحليل السياسي أكثر من الكتابة بالأدب الساخر؟
- الفترة من عام 1998 حتي عام 2010 كانت مرحلة جدل ورواج سياسي، بفعل قضايا التوريث والفساد، لذا كنت أعتبر الكتابة بالطريقة الساخرة التي أتبعُتها آنذاك أقصر طريق للمواجهة.

وكانت هناك اشتباكات كثيرة خضتها بالقلم مع أطراف النظام، أتذكر منها مقالي «إيش تعمل الماشطة في الحزب العكر»، وكنت أعقب خلالها على المؤتمرات التي ينظمها الحزب الوطني، وتلك زاوية.

أما الزاوية الأخرى هي أن فترة ما بعد ثورة يناير نجحت في تقديم خلطة صحفية جديدة تمثلت في تقديم التحليل السياسي بروح ساخرة في عمودي «من أول السطر»، تماشيًا مع مقتضيات الظرف السياسي وقتها، وما زالت إلى الآن قابضًا على هذا الحس الساخر في كتاباتي لم ولن أتخلي عنه.

* تقول إنك حصدت جائزة أحمد رجب للكتابة الساخرة.. فما هي تفاصيل الوصول إلي منصة التتويج تلك؟
- عندما كان الراحل عاطف عبيد رئيسًا لوزراء مصر، كان مولعًا جدًا بلغة الأرقام، حيث كان لا يخلو حديث له من ذكرها، وهو ما أثار انتباهي.. وعندها كتبت مقالًا في جريدة «العربي الناصري» بعنوان «الدكتور رقماوي»، وقدمت من خلاله نوعًا من الهندسة التحليلية لكافة الأرقام التي يسردها «عبيد» في حديثه بطريقة ساخرة، وهو ما كان سببًا في حصدي لتلك الجائزة.

* دعنا نخوض بالحديث حول دموع صاحبة الجلالة.. لنسأل ماذا جري للصحافة في بر مصر؟
- أولًا؛ منذ أن التحق جيلنا بركاب العاملين داخل بلاط صاحبة الجلالة، ونحن نسمع بأن الصحافة في أزمة شديدة تقترب من أن تطرحها أرضًا.

ثانيًا؛ ما حدث للصحافة خلال السنوات القليلة الماضية هو تقريبًا ما حدث لغيرها من المجالات الأخرى، والتي تأثرت بفعل الاضطرابات السياسية والركود الاقتصادي.

ثالثًا؛ دعنا نتعرف بوجود متغيرات كبيرة أثرت بشدة على سوق الصحافة، ففي وقت ما كانت الصحيفة المطبوعة هي المصدر الرئيسي الذي يستقي منه الجميع الأخبار، الآن صارت هناك منصات كثيرة للمعرفة تتصدرها مواقع التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال.

* بصراحة هل تتحمل ثورة يناير وزر ما حدث للصحافة الورقية؟
- السياسة هي من أفسدت الصحافة، فبعد ثورة يناير تحولت الصحف إلي منصات ثورية، بفعل اهتمام الجماهير المتزايد بالأوضاع السياسية؛ وهو ما جعلنا نفقد القدرة على توظيف المعلومة في إطارها السليم.

وحالة السيولة التي ضربت الدولة المصرية ألقت بظلالها على الصحافة والإعلام، باعتبارهما انعكاس لما يحدث داخل المجتمع.

* أرجو الإجابة بشكل حاسم.. هل انتهي بالفعل عصر الصحافة الورقية؟
- دعنا نعترف بأن الصحافة بشقيها الورقي والرقمي يعيشان على حافة الهاوية بفعل الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال مثلما ذكرت لك سابقًا.. بالإضافة إلي ذلك علينا إدراك أن الزمن الحالي لم يعد عصر الأبطال، لكنه عصر النجوم التي تضئ ثم ما تلبث أن تختفي، حيث لم تعد صناعة الأخبار مقتصرة على السياسيين والفنانين، إنما أصبحت النجومية بالإلحاح وثقل الدم، وهذا متغير لابد وأن يوضع في الحسبان.

الصحافة الآن بحاجة إلي من يعيد إليها روحها، وهذا لن يحدث إلا باستحداث أنماط جديدة من الكتابة، تقدم الحقيقة إلي القارئ بشكل ممتع ومسلٍ، وأؤكد أنني لن أخوض مع القائلين بقرب انتهاء الصحافة الورقية.. فهناك الكثير من التقارير التي كانت تؤكد بأن عام 2020 سيكون «عام الرمادة» على الصحافة الورقية، ومع ذلك فالمؤشرات تقول إنها ستستمر إلي ما بعد ذلك التاريخ.

* وهل تراجع مناخ الحريات خلال الفترات الأخيرة أفقد الصحافة جزءًا كبيرًا من جاذبيتها؟
- هناك حقيقة تقول إن الصحافة والإعلام دومًا ضد أي شئ فردي، وبالتالي عندما يسود إعلام الصوت الواحد ويطغي حكم الفرد وتنكمش الحريات، فمن الطبيعي أن تجد صاحبة الجلالة تعيش في حالة من الحيرة، ويبدأ الإعلام في البحث عن نفسه.

عادةً المجتمعات لا تتقدم إلا بوجود مناخ ملائم ومناسب من الحريات المسئولة، وبالتالي فعندما يزدهر المجتمع ستجد الصحافة وقتها بعثت من مرقدها لتقطف الثمار وتنعم هي الأخرى بالازدهار.

وبشكل عام هناك دومًا شد وجذب بين السلطة والصحافة، وطيلة الوقت هناك اتهامات متبادلة، وما جري في مصر طيلة الـ 30 عامًا الأخيرة خير شاهد ودليل.

* تجارب صحفية عدة خاضها قلمك، لكن تبقي تجربة «اليوم السابع» إحدى العلامات المؤثرة.. فماذا تمثل لك تلك التجربة؟
- «اليوم السابع» إحدى المحطات الصحفية المهمة في حياتي، ونجحت في تغيير مفاهيم كثيرة بالنسبة لجيلي، ومن خلالها اكتسبت مهارات إدارية وصحفية جديدة، بجانب نجاحها في إفراز جيل يتمتع بالمهارة للصحافة المصرية.. كما أنها نجحت في الكشف عن القدرات الإدارية التي يمتلكها خالد صلاح، ويكفيها فخرًا صناعتها لتجربة رائدة في الصحافة الإلكترونية، وأعتقد أنها التجربة الصحفية الأكثر تنوعًا واتساعًا خلال العقد الأخير.

* بعد أكثر من 30 عامًا داخل رحاب صاحبة الجلالة.. أكرم القصاص كم حققت من أحلامك الصحفية والمهنية؟
- الأحلام تجدد من نفسها، وكل مرحلة تجد نفسك محاطًا بسيل من الطموحات والأماني الجديدة، لذلك حين تسألني عن أحلامي التي حققتها أؤكد لك أن النسبة المحققة لا تتجاوز 1%؛ فما زالت أحلم بتنفيذ عدد من المشروعات الصحفية والإبداعية.

* أخيرًا.. ما هي آخر مشروعاتك الإبداعية التي تعمل عليها؟
- لدي عدد من المشروعات المكتملة أتمني أن ترى النور قريبًا، أولاها كتاب بعنوان «أحلام السلطة وكوابيس التنحي»، وهو عمل يتناول طريقة حكم مبارك لمصر وسياق تفكيره وتدبيره للأمور.. بالإضافة إلي ذلك هناك مشروع أدبي آخر، وهو عبارة عن قراءة في أهم كتب التراث والأدب الساخر مثل كتابي «العقد الفريد» و«الأغاني» وغيرهما.