رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلمانية يا ولى العهد




أيها الملك السعيد الثابت على المبدأ والرأى الرشيد.. لا نرسل لك خطابًا ولا حتى مناشدة.. ما يطلب هنا أرادته شعوب وجماهير خرجت خروجًا كبيرًا ملأ الشوارع والأزقة والطرقات ليسقط حكم ‏المرشد وحكم الملا والفقيه وكل من سولت له نفسه تأليه نفسه.. وسقط حكم المرشد فى مصر بإرادة شعبية جمعية ثورية راديكالية.. فصلت الدين عن السياسة، وذلك لب العلمانية فى الفصل ما بين ‏الدين والدولة.. الدولة بتشريعاتها وقوانينها الوضعية المتمدينة.‏
شعوبنا علمانية بالفطرة يا جلالة الملك.. وإن لم يدركوا ذلك، أو بعبارة أدق لم تكن تعنيهم التسميات التى تعنينا، وسنناضل من أجلها ومن أجل رفع التشويه الممنهج والغبن الذى وقع عليها لسنين ‏وبشكل متعمد.. لقد انشغلت الشعوب والجماهير بالفعل دون تسميته أو توصيفه، وما قد يعتبره البعض (هواجس التسمية) يراه آخرون ضرورة قصوى بعد أن عمد الظلاميون وبشكل ممنهج- أعود ‏وأكرر لتشويه كل المصطلحات والمفاهيم التى بات من الضرورى بل الحتمى تصحيحها ورفع الغبن عنها وحمى التشويه، لم تسلم الليبرالية ولا حتى الديمقراطية من ظلامية عباد العتمة.. ممن ‏يودون ليس فقط طمس معالم أى تنوير بل العودة بنا لعصور القبح ضد أى بهجة أو ألق راغبين فى أن يقود القبيح الأعمى بصيرًا!.‏
وبالمثل لم تسلم العلمانية من تشوهات هؤلاء الفكرية والعقلية والفطرية.. يهاجمونها وكأنها الطاعون، وهم الداء عينه والسم الأكيد. العلمانية بالنسبة إليهم غول وعنقاء وهم ليسوا ولن يكونوا خلنا ‏الوفى. أدعياء الفضيلة يلصقون أبشع الأوصاف والتهم بمكتسبات الحضارة الإنسانية ومن آمنوا بها على مر العصور وعلى قدم المساواة، لم يسلم من شرورهم من مات ورحل عن عالمنا ليسلم ‏الأحياء، باسم الفضائل قتلوا مفكرين وشردوا وهجروا أناسًا وأخرجوا مسيحيين من ديارهم وسمموا أفكارًا وخصوا عقولًا ودمروا شعوبًا وأجيالًا بجهل منقطع النظير وظلامية مقيتة.‏
وآن الأوان وبعد ثورات وموجات غضب هنا وهناك أن ينحسر مد هؤلاء فيلزموا بيوتهم أو جحورهم.. هم كالزبد يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض، الأفكار والرؤى تحلق دومًا ‏بعقولنا عاليًا لتثبت أقدامنا على الأرض الصلبة.. أرضية الوطن الواحد بتماسكه وصلابته وهيبته ضد من يدعى وصاية عليه باسمه أو باسم الإله.. الوطن وأهله أدرى بشعابه ومكوناته الثرية ‏المتحولة.. أوطاننا مرت بها ثقافات وحضارات وأناس جاءوا إليها ليأخذوا ويعطوا.. لدينا إرث لم يعد ولا يمكن أن يظل لنا وحدنا وهنا بيت القصيد.. إرثنا ليس لنا.. هو إرث كونى إنسانى يشترك ‏ويشتبك معنا فيه جميع سكان الكوكب على اتساعه.. ولا يمكن بحال تطويعه لصالح جماعة أو جبهة أو حزب يفرض هيمنته وثقافته الأحادية المنغلقة على جموع البشر.. تدخل الدين وجماعاته فى ‏السياسة والحياة العامة يؤدى لفرض طابع ثابت على أمور متغيرة.. تغيرها خاضع لقانون السيرورة وسنن التطور ومكتسبات الحضارة التراكمية.‏
ومن هنا تأتى الفواجع الكبرى والحروب التى سببتها القراءة السياسية للنص الدينى.. والتى تهدف دومًا لجذب النصير ونبذ المخالف بما فى ذلك من هيمنة وسلطوية النص الدينى على مر العصور ‏ليتحول الأمر إلى معارك وسلاح لا إلى تفاعل ولقاء. تأويل النصوص المقدسة كان يصب دومًا لصالح الجماعة التى قامت بتأويله لا لصالح الإنسان فى العموم.. وبالتالى أصبح التأويل حكرًا على ‏هؤلاء دون غيرهم.. ثم صار لكل جماعة تأويلاتها.. وهذا قد يبدو عاديًا واختلافًا برحمة فى حين أنه وفى واقع الأمر اختلاف تحركه أهواء ومآرب أدت فيما بعد لخلافات حادة بل كوارث.. ‏وللتخلص من تلك الكارثة الخلافية وهذا الالتباس القاتل فى أغلب الأحيان والمربك دومًا والذى تستحيل معه قواعد السلامة وحيث النهايات التى لا تحمد عقباها.. بات من الأحوط والأسلم أن يكون ‏الدين تجربة فردية خاصة حرة، واعتقادا والتزاما فرديا لا يلزم إلا صاحبه، وذلك يضمن حرية الفرد المطلقة والكاملة فى اختيار ما يشاء ومن ثم احترام ذلك احترامًا كاملًا... ويجرد فى نفس الوقت ‏الدين من العنف الكامن فى تسييسه وتوظيفه لمآرب هذا أو ذاك.‏
والمآرب عادة ما تكون حروبًا وقهرًا وقتلًا.. تحول الدين لأداة سلطة وقمع الجماعات والكيانات- حتى الرسمى منها والذى أسبغت عليه صفة الوسطية- كيانات تستولى دومًا على النص الدينى.. ‏والاستيلاء عليه يعنى أولًا احتكاره ثم تحديده فى حدود ضيقة تؤدى فى النهاية لتوظيفه على النحو الذى أشرت إليه.‏
حفر الدين حفرًا معرفيًا فى أذهان البشر.. يربى بدوره (ذهنية) هى الأصل فى التطرف.. تلك (الذهنية) والتى بمرور الوقت تتحول لصورة راسخة تطبع فى الأذهان وتصبح نمطًا للتفكير وتربية ‏للوعى تتطور بدورها إلى حالة من الجمود الفكرى والعقلى والتى تؤدى حتمًا للتطرف فى السلوك عندما تحين الفرصة أو يسمح الظرف، فمن مارس العنف- أقصد من تسنى له ذلك واستطاع إليه ‏سبيلًا- لم يولد عنيفًا.. إنها العوامل التى خضع لها وأثرت فيه بشكل تراكمى طيلة حياته.. إنها المعطيات والبدايات والمقدمات التى أدت لتلك النتيجة النهائية، ومن لم يمارس العنف (بعد) لكن تربى ‏عليه وعلى ذهنيته.. دون أن يعى أو يعتبر ما تربى عليه عنفًا.. هو فى ذاته مشروع عنف مؤجل حتى يحين الوقت أو تحين الفرصة، فمن يسير فى ركب إرهابى فى مسيرة يظنها سلمية وهى ترفع ‏شعارات عنصرية أو طائفية أو يعتصم فى مكان ما مع آخرين ليسوا على شاكلته تمامًا فى تلك اللحظة لا يبعد ذلك عن نفسه شبح وعدوى التطرف ولا يسلم فى هذه الحالة أيضًا من المساءلة ‏القانونية فى دولة القانون.‏
لذلك القرب ولتلك المتلازمة مخاطر قد لا يلمسها صاحب التجربة فى حينها، ولا نحترس نحن لها أيضًا أحيانًا ولا نحسب لها حسابًا. من مارس الإرهاب ليس وحده الإرهابى، الإرهاب يبدأ فكرًا ‏وتربية وذهنية وينتهى سلوكًا.. والذى يربى الفكر اليوم يربى بدوره (الذهنية) وهى بذرة العنف والإرهاب فى المستقبل.. وللتذكير، فقط، شعار الإخوان المسلمين من عشرات السنين كان (الإسلام هو ‏الحل) جملة عادية رشيقة وبسيطة وجذابة ولا ضير منها أو فيها.. وبمرور الوقت تحولت العبارة لقنابل وأحزمة ناسفة وسيارات مفخخة يقودها انتحاريون!!.‏
وإن أراد من أراد تبرئة هؤلاء من أفعال العنف التى مارستها جماعات أخرى كأنصار بيت المقدس وداعش وغيرهما من الجماعات.. فهذا فصل فى ظاهره حقيقى.. فهؤلاء ليسوا كهؤلاء، ولكن ‏ما علمكم وما الضامن أن هؤلاء لن يصبحوا كهؤلاء؟! من لم يستخدم السلاح اليوم- أو حتى الآن- لا يعنى ذلك بالضرورة أنه لن يستخدمه لاحقًا.. كما لا يعنى أيضًا بالضرورة أنه سيستخدمه. ‏المشكلة الأساسية تكمن فى الفكر أو (الذهنية).. فإن نحترس ونخطط ونقتلع رأس التطرف (مجازًا) فهذا لا يعنى أننا نحاسب على النوايا أو باعتبار ما سيكون وقد لا يكون.. بل يعنى أن نراعى ‏المقدمات وندحضها فهى حتمًا ستؤدى لنتائج لا تحمد عقباها.‏
الدين بمعناه العام.. أفق معرفى يواجه الآن العلمانية.. ويواجه أيضًا الإسلام السياسى، وهذا اختبار وجودى هام يتلخص فى كلمتين «إما أو، إما التجديد أو الموت.. إما العلمانية أو الإسلام ‏السياسى».. والواقع يقول لا خيارات أخرى!!.‏
أعرف أن الوضع المتحفز يطرح أسئلة متشابكة تستوجب وتستدعى قراءة متأنية.. لكن الزمن متعجل، والثورات جُعلت فى الأساس لإحداث تغيير جذرى فى الرؤى والأفكار وأنماط الحكم أيضًا، ‏ولفرض القانون وسيادته وبالقوة، ولا تعنى فقط استبدال حاكم بآخر عن طريق الخلع أو العزل (أى بالقوة أيضًا)، تغيير (الذهنية) الآن مطلب شعبى واجتماعى عام لا نخبوى.‏
ضرورة حتمتها الأوضاع المتفجرة، والدين كان وما زال وسيظل حقًا للفرد لا ينازع فيه.. والدولة أيضًا حق للجميع رغم أنف الجميع، ولن نصبح دولًا بالمفهوم العمودى للكلمة إلا بتطبيق ‏العلمانية كضرورة آنية ملحة ومطلب جمعى شعبوى.. اليقظة الآن.. الحسم الآن.. العلمانية الآن أيها الملك السعيد ذو الرأى الرشيد.‏