رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصاغ الأحمر


برحيل المناضل الكبير «خالد محيى الدين» تكون صفحة قادة ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، من رعيل الصف الأول لمؤسسى تنظيم «الضباط الأحرار» قــد انطوت بصورة نهائية: بحلوها ومُرّها.. بنجاحاتها وإخفاقاتها.. بما لها وما عليها. حساب المرء عند خالقه، لكن فى محكمة التاريخ سَيُدان من أساء، ويُكافأ من أحسن، وفى مقدمة مَن سينصفهم التاريخ «الصاغ الأحمر»، الذى قدّم، مع رفيق فكره وكفاحه، «يوسف صديق»، نموذجًا فذًّا للتجرد والتفانى، والعطاء والبذل المستمرين، وللانحياز المطلق لقيم العدل والحرية، دون حسابات صغيرة أو مطامع رخيصة.
عاش «الأستاذ خالد»، كما اعتدنا أن نسميه، حتى قضى وفيًا لحلم سيطر على مداركه، منذ نعومة الأظافر، وملك عليه نفسه، وهيمن على دخائل وعيه، وملأ وجدانه. غير أن هذا الحلم لم يكن حلمًا شخصيًا، أو أمنية ذاتية، فهذا أمره كان سهلًا لمن هم فى وضعيته، ووضعية أسرته، ميسورة الحال، وإنما كان حلمًا للخلاص العام: «وما أصعب أن يكون الحلم ملكًا لوطنك وشعبك»، كما يقول فى مذكراته المعنونة بـ«.. والآن أتكلم».. حلم الانتقال بمصر العظيمة من واقع البؤس والتخلف والارتهان لإرادة «السراى» والاحتلال، لكى تصبح «طرفًا عربيًا وإفريقيًا وآسيويًا.. بل عالميًا فاعلًا، حيث تمتلك القدرة على الزهو بمصريتها وعروبتها وإفريقيتها وإسلاميتها. زهوًا لا ينبع من كبرياء، وإنما من فعل وأداء وتأثير».. وما أعظمه من حلم، وأكبرها من أمنية!.
وقد كلف الوفاء لهذا الحلم، صاحبه، التعرض لويلات كبيرة، ليس أقلها حياة المنفى والحصار والمطاردة والتضييق، حتى بعد أن رأس «منبر اليسار»، عام ١٩٦٧، فى ظل «الديمقراطية الشكلية»، أو «التعددية المقيدة»، لكنه كان دائمًا صوتًا جريئًا، لم يخضع لابتزاز، أو يركن لمداهنة حاكم، وكم شهدته القاعات والساحات، صوتًا صادقًا لا يخشى فى الحق لومة لائم.
ويعرف كل من اقترب من «الأستاذ خالد»، أنه امتلك تركيبته الإنسانية الخاصة الخالصة، تركيبة عزَّ أن يكون لها نظير: فهو الصوفى اليسارى، الاشتراكى الديمقراطى، المقاتل العنيد من أجل التغيير والمُدافع الصلب عن السلم ونبذ الحروب، الثورى الرومانسى والمعارض للاستبداد تحت مزاعم الثورة، وفى كل الحالات كان إنسانًا نزيهًا بكل ما تعنيه كلمة نزاهة، وشجاعًا كأفضل ما يكون المرء شجاعةً، ونبيلًا نبالة الفرسان، فى زمان كان الشائع فيه أنصاف الرجال!.
ويطول الحديث عن الرفيق «خالد محيى الدين»، الذى عرفته فى بدايات السبعينيات، اليسارى الزاهد، والمقاتل الصلد، والمشارك فى الإطاحة بالنظام الملكى البالى، الذى رفض الاستمرار فى موقعه فى الصف الأول للسلطة، انتصارًا للديمقراطية فى أزمة مارس ١٩٥٤، والمدافع الجسور عن حقوق البسطاء من ملايين المصريين، حينما هبّوا ذودًا عن لقمة الخبز فى انتفاضة ١٨ و١٩ يناير، والرافض الشجاع لاتفاقية «كامب ديفيد»، التى رأى فيها خيانةً لحلمه بالوطن المنتصر العظيم، وتخليًا من مصر، عامود الخيمة العربية، عن دورها القيادى للعدو الصهيونى، والمساند الصادق الذى يُعتمد على دعمه لقضية العرب الأولى والمركزية: فلسطين، والمدافع فى العالم كله عن حقوق الشعوب، وآمالها فى الاستقلال واالحرية.
رحل «خالد محيى الدين»، هكذا دون أى أوصاف أو ألقاب، لأنه أكبر منها جميعًا، تاركًا فراغًا كبيرًا، وفى وقت عصيب، حيث تحيط بمصر والوطن العربى وفلسطين، المخاطر والتهديدات، ويحيق بملايين الفقراء والكادحين، الحصار والتهميش، واليسار المصرى ليس فى أفضل حالاته!.
رحل وفى القلب غصّة، وفى العين دمعة، وفى العقل ألف تساؤل وتساؤل: ترى أيجود زماننا العنين، ذات يوم، ولو فى الغد البعيد، بمثيل له، ولمن ساروا على نهجه، واتبعوه على دربه؟!.