رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعليم بين التطوير والتعريب


سيظل التعليم أحد الملفات الأساسية التى نتطلع إلى إصلاحها وتطويرها، لأنه الأساس الأول الذى يترتب عليه أى تقدم ننشده لمستقبل أفضل لبلدنا ولأبنائنا.. ولأنه أساس كل تقدم لا بد أن يتم إصلاح أحواله من كل النواحى، ولكن فى نفس الوقت لا بد أن نضع أهدافًا نريدها من التعليم، وأن نضع المصلحة العامة للتلميذ دون أن نحدث ارتباكًا فى البيوت المصرية التى يُشكل التعليم إحدى المشاكل الأساسية لأى أسرة مصرية، سواء أكان التلميذ فى التعليم الرسمى أو التجريبى أو الخاص أو الدولى.
ولأنه موضوع يهم كل أسرة لارتباطه بمستقبل الأبناء، فإنه لا بد أن تؤخذ الأسرة المصرية فى الاعتبار.. صحيح أننى كنت من المطالبين بتطوير التعليم وتطوير المدرس وتطوير المدارس، ولكننى أيضًا أرى أنه لا بد من وضع أولياء الأمور فى الاعتبار لأنهم هم أساس المجتمع وأعمدة استقراره، ولا يجوز أن نحدث هزة فى الأسر المصرية، بتغيير التعليم بين يوم وليلة، دون أخذ رأى أولياء الأمور والخبراء فى الاعتبار.
لقد عانينا كثيرًا وطوال العقود الماضية من تغييرات فى التعليم، فكل وزير يأتى يُغير وفقًا لما يراه، وكأن التلاميذ حقل تجارب تحت يده، فمرة يتم إلغاء الثلاث سنوات فى الثانوية العامة، وتحسب السنتان الثانية ثانوى والثالثة ثانوى.
ثم ما يلبث وزير آخر بعده أن يقرر أن تكون الثانوية العامة ٣ سنوات.. وأصبحت المناهج تمثل عبئًا، حيث يعتمد نظام التعليم فى مصر على الحفظ والتلقين وليس على الفهم وبناء الذكاء والقدرات الإبداعية للتلميذ.. وتم إلغاء حصص التربية الموسيقية فى كثير من مدارسنا وتم تحجيم النشاط الرياضى الذى كان سائدًا فى مدارسنا رغم أهمية الرياضة فى بناء الجسم والشخصية.. وأصبحت المناهج مكدسة إلى حد أن التلميذ يعجز فيها عن التحصيل، ولدينا نسبة عالية فى التسرب من التعليم ولدينا مدارس فى القرى فى المحافظات بعيدة عن مكان سكن التلاميذ.. وأى مراقب منصف للأوضاع سيدرك أن ضعف اللغة العربية ليس بسبب تدريس اللغات، بل بسبب ضعف المدرسين وكراهية التلاميذ للمدارس ولنظام التعليم ككل الذى يعتمد على الحفظ والتلقين، واختفاء حصص الهوايات والتدبير المنزلى والموسيقى والرياضة التى تربينا عليها فأحببنا مدارسنا ومدرسينا.
إننى أتوقف هنا عند الضجة التى حدثت بإعلان د. طارق شوقى، وزير التعليم الحالى، عن تغيير نظام التعليم والتعريب للمواد فى المدارس الرسمية والتجريبية، وأكد فى حديثه، الذى تناقلته كل مواقع الأخبار والتواصل الاجتماعى، أن هذا قرار نهائى.. وأتوقف هنا عند نقطة مهمة جدًا، فأنا مبدئيًا ليس لدى أى شك فى حسن نوايا الوزير أو فى نبل أهدافه من تطوير التعليم الحكومى فى مصر.. إلا أننى أتوقف عند بعض الملاحظات التى أرى ضرورة ملاحظتها حتى يكون التغيير لمصلحة التلميذ ومستقبله.. أولًا: إنه حتى مع تسليمنا بنبل أهداف الوزير من التغيير، فإنه كان ينبغى أن يكون التغيير بعد حوار مجتمعى طويل وشفاف، تشارك فيه أطراف كثيرة مثل عدد من خبراء التعليم المتميزين وكبار الكتّاب والمبدعين وأولياء الأمور والشخصيات العامة، ومسئولى التعليم المتميزين من ذوى الخبرة فى بلدنا.. إن كل هؤلاء كان يمكن أن يقدموا رؤاهم التى يمكن أن تكون فيها فائدة إيجابية عند التغيير.. وثانيًا: كان ينبغى الاطلاع على أنجح نظم التعليم فى العالم التى تصلح للتطبيق عندنا فى مصر، ثم اختيار أفضلها مع عرضها على الرأى العام عبر وسائل الإعلام المصرية.. ثالثًا: إنه من الصعب أن يكون التلاميذ حقل تجارب فى مسألة التغيير، حيث سمعت تصريح الوزير لدى إعلانه عن ملامح التغيير، حيث قال الوزير بالحرف الواحد: هنجرب مع بعض.
إننى أتوقف عند هذه الكلمة لأنها تعنى أن أبناءنا حقلٌ للتجارب.. وهو أمر مرفوض من أى ولى أمر.. رابعًا: إن فرض نظام تعليمى جديد فجأة- لم تتم مناقشته مع الرأى العام أو طرحه على المواطنين- أحدث ارتباكًا مجتمعيًا وبلبلة وقلقًا وحيرة لدى الناس وفى معظم البيوت.. كما أن كلمة «أدّى الناس فرصة تشوفه.. وإنه قرار نهائى» هو أمر يؤكد تصميم الوزير على رأيه وإصراره على نظام جديد كتجربة قد تفشل أو قد تنجح.. ولا أظن أن لدى الشعب القدرة على تحمل مشاكل إضافية فى التعليم.. ولا بد أن يتم فتح حوار ديمقراطى قبل إعلان التغيير بقرار نهائى.. إن أبناء مصر ليسوا حقلًا للتجارب ولن يكونوا.. ولا تزال هناك بنود فى النظام المقترح من الوزارة غير مفهومة وغير واضحة، ولا بد أن يكون التطوير مقبولًا مجتمعيًا وبعد دراسة متأنية لتكون نسب نجاحه مؤكدة ومريحة للأسر فى البيوت.
خامسًا: إن لدينا مدارس تعانى من ضعف المدرسين، أو من مدرسين يمارسون العنف مع التلاميذ، كما أن لدينا مدارس تابعة لذوى العقليات المتشددة التى تفرض على البنات الحجاب فى سن صغيرة.. وهذه قضايا كبرى تهدد التطوير الذى ننشده ولا بد من نظرة فاحصة ومصححة لها.. لا بد من وجود آليات لتطوير المدرسين وتدريبهم وحسن اختيار المدرسين ذوى العقليات المتفتحة.. ولا بد أيضًا من مواجهة مشكلة الدروس الخصوصية، حيث إنها آفة فى نظام تعليمنا الحالى.
أنا مع تطوير التعليم كمبدأ، لكننى أيضًا مع تعليم اللغات منذ الصغر ولست مع تعريب المواد الأساسية التى يتم تدريسها فى كل العالم باللغة الإنجليزية.. لأن اللغة الإنجليزية هى اللغة الأكثر تداولًا فى كل العالم، وفى تدريس مواد مهمة مثل العلوم والطب والأحياء، كما أننى أيضًا أتوقف عند قضية مهمة للغاية وهى ضرورة التفاهم والتعاون مع أولياء الأمور وعدم الاستهانة بهم أو تجاهل وجهات نظرهم، لأنهم فى البداية هم الآباء والأمهات الذين من الضرورى أن تتعامل معهم الوزارة بشفافية وبتفهم لآرائهم ومخاوفهم ودون استبعادهم من التغيير.. ولأنهم هم المسئولون عن أبنائهم أولًا وأخيرًا، ولا بد من التعاون بين البيت والمدرسة إذا أردنا أن نُخرِّج من مدارسنا تلاميذ أسوياء ومتميزين.