رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاهن الذى أحب الوطن من خلال الكنيسة


مصر أمنا الغالية لها مكانة خاصة فى نفوس أبنائها المخلصين بمختلف طوائفهم وعقائدهم وانتماءاتهم وثقافاتهم، فهى الأم وهى الخير وهى الحب وهى الحصن. ومن بين الذين أحبوا مصر بإخلاص وصدق كاهن تقى ومحب رحل عن عالمنا، بينما أقباط مصر يحتفلون بعيد القيامة فى يوم الأحد ١٥ أبريل ٢٠١٢ بعد أن أكمل رسالته نحو الكنيسة والوطن على أكمل وجه، إنه هو «القمص جبرائيل غطاس».
هذا الكاهن من خلال محبته للكنيسة أثبت محبته للوطن ولم يقل يومًا إن «الوطن أهم من الكنيسة» وهى عبارة غير مفهومة بل تسىء للوطن نفسه، كما أنها تسىء إلى الكنيسة أيضًا بل لأبناء الكنيسة جميعًا، لأنها عبارة تتنافى مع الأبوة الحقة ومفهوم الوطنية!!.
فى ٦ مارس ١٩١٩ فى قرية «الهماص» بمحافظة سوهاج وُلد الطفل «غطاس حلمى جبرائيل غطاس» لأبوين تقيين هما الأستاذ حلمى جبرائيل غطاس والسيدة نبيهة يعقوب. كان الطفل غطاس الثالث بين تسعة إخوة (٧ بنات وولدين). كما أنه أيضًا كان ينتمى لأسرة كهنوتية، فجده القمص جبرائيل غطاس، وشقيق جده القمص برنابا غطاس، كما أن له أختين راهبتين الأولى الراهبة مارى كلير من راهبات الجيزويت المصريات، والثانية الراهبة مارى روبير من راهبات الراعى الصالح.
فى حداثة حياته تعلم فى كتاب القرية وعمره ثلاث سنوات، وفى سن السادسة أُرسل إلى القاهرة لدى عمه ليلتحق بمدرسة القديس بولس Saint Paul، وهى إحدى مدارس الفرير. ولتأثره بحياة التقوى التى كان يحياها ابن عمه الأب عادل حبيب التحق بالإكليريكية الصغرى للأقباط الكاثوليك، وكان يبلغ من العمر ١٢ عامًا. وبعد أن أتم دراسته الثانوية بمدرسة الجيزويت بالفجالة، بدأ دراسة الفلسفة واللاهوت بالمعهد الإكليريكى بطنطا وعمره ١٧ عامًا. فى عام ١٩٤٢ أتم دراسته الفلسفية واللاهوتية، وقام المسئولون بتقديم طلب إلى بابا روما للموافقة على سيامته كاهنًا، إذ كان يبلغ من العمر ٢٣ عامًا والقوانين لا تجيز رسامة كاهن تقل سنه عن ٢٤ عامًا. وفعلًا فى ٢٦ أبريل ١٩٤٢ تمت سيامته كاهنًا باسم الأب جبرائيل غطاس على يد البطريرك مرقس خزام فى كاتدرائية الجيزويت بطهطا. تم تعيينه بعد ذلك للخدمة فى مركز صدفا فى الفترة (مايو- سبتمبر) ١٩٤٢، حيث أقام القداسات فى أماكن مستأجرة، إذ لم يكن هناك مبنى للكنيسة. انتقل بعد ذلك للخدمة فى الإكليريكية بالقاهرة حيث عمل وكيلًا للمعهد فى الفترة (١٩٤٢ – ١٩٤٧)، ثم إلى إكليريكية طنطا فى الفترة (١٩٤٧ – ١٩٥٣) حيث كان يتولى رئاسة المعهد فى ذلك الوقت الأنبا «ستيفى سيداروس» (فيما بعد الكاردينال إسطفانوس الأول البطريرك المثقف والمدبر الحكيم والأب المُحب). خلال عام ١٩٥٣ خدم شعب الأقباط الكاثوليك فى منطقة الزمالك وجاردن سيتى دون وجود مبنى للكنيسة لهم. كما عمل مدرسًا للغة العربية والدراسات الاجتماعية لطالبات الصف الثالث الإعدادى فى مدارس راهبات الراعى الصالح بشبرا. ثم فى عام ١٩٥٤ تم تعيينه راعيًا لكاتدرائية الأنبا أنطونيوس الكبير (أب الرهبان) بالفجالة لمدة عامين. فى الأول من مارس ١٩٥٦ – وهو يبلغ من العمر ٣٧ عامًا – تم تعيينه وكيلًا عامًا لبطريركية الأقباط الكاثوليك بالإسكندرية وراعيًا لكاتدرائية القيامة الكائنة بشارع كلية الطب بمنطقة محطة الرمل بالإسكندرية، فى أجواء عصيبة وظروف صعبة من جميع النواحى كانت تحيط بالكنيسة الكاثوليكية بالإسكندرية، ولكنه باتضاعه وبُعد نظره ومحبته الصادقة للجميع قاد الدفة بكل حكمة واقتدار وأعاد الهدوء والسكينة إلى مدينة الإسكندرية وشعب الإسكندرية الذى أحبه وارتبط به ارتباطًا وثيقًا عن أبوة حقيقية لا عن قهر أو اضطرار. فاستطاع أن يوحد الطوائف المسيحية بتعاونه الصادق والمخلص مع عمالقة كهنة الكنيسة القبطية – دون الدخول فى مناقشات عقائدية - منهم القمص مرقس باسيليوس (كنيسة السيدة العذراء – محرم بك)، القمص بطرس رياض (كنيسة الملاك ميخائيل - غربال)، القمص جرجس رزق الله (كنيسة مار جرجس - المكس) والأعضاء الأفاضل بمجلس ملى الإسكندرية وعلى رأسهم سيادة المستشار الأستاذ فريد بك الفرعونى، ورعاة الكنيسة الإنجيلية وعلى رأسهم القس صموئيل وهبى (الكنيسة الإنجيلية - العطارين). كما عمل أيضًا على توحيد الجهود بالتعاون مع شيوخ المساجد المختلفة بالإسكندرية، فكان بالحقيقة داعيًا للسلام فى كل ربوع الإسكندرية. من هذا المنطلق رفض الأسقفية عدة مرات متخليًا عن أى درجة كنسية، مفضلًا أن يكون خادمًا بسيطًا لأبنائه، حارسًا أمينًا لأمن وطنه لأجيال عديدة متعاقبة دامت ٥٦ عامًا حتى رقاده الأخير فى سلام وهدوء ملائكى وشيخوخة صالحة. عاش خادمًا حقيقيًا للجميع – بالفعل لا بالقول – فلم يبخل عن فقير دون اعتبار لديانته أو طائفته، قدم النصيحة المخلصة لطالبى الإرشاد، أحيا رجاءً فى قلوب عدة، شدد الأرجل المسترخية، أعاد الأمل لفاقدى الرجاء، إذ كان يملك طاقة من الإيمان القوى. فى حياته أعطى توبيخًا بليغًا للذين يتصارعون على الكراسى والمتكآت الأولى، وفى رحيله أعطى عظة صامتة للذين تعبوا فى جهادهم وانطلقوا فى سلام حقيقى.
كنت أحرص على أن أتوجه إلى مكتبه البسيط ببطريركية الأقباط الكاثوليك بالإسكندرية فى ليلة الكريسماس- ٢٤ ديسمبر - لتهنئته بالعيد، فكان يستقبل التهنئة بفرح وانشراح صدر ومحبة ومودة. كان بسيطًا فى ملبسه، عظيمًا فى اتضاعه، حلوًا فى حديثه.
طوال ٥٦ عامًا بالإسكندرية قام بالعديد من الإنجازات الروحية والتعليمية والمعمارية منها: أسس المعهد الإكليريكى بدير العائلة المقدسة بالإسكندرية بمنطقة أبى الدرداء. امتلك للبطريركية العديد من المدارس منها: مدرسة سان ميشيل بالعطارين وأسس بها القسم الثانوى، مدرسة الرحمة الابتدائية وأسس بها القسم الإعدادى، إدارة مدرسة «جيرار» للراهبات الفرنسيسكانيات بمنطقة بوكلى. فى كنيسته بمنطقة محطة الرمل بالإسكندرية كان بمثابة الفنار المضىء يهدى- بضوئه اللامع كل من ضل الطريق، كل من ضعُفت محبته، كل من فقد ضوء الحياة، كل من هزمته مغريات الحياة الزائلة، كل من سار فى طريق التعصب الدينى أو الطائفى. أعاد لكل هؤلاء الحياة فيهم مرة أخرى. والآن يستحق أن يكافأ مكافأة الأبرار والصالحين. من أرض مصر نرسل لروحه الوثابة تحياتنا ومحبتنا وشكرنا وتقديرنا وفخرنا به، فهو المعلم، وهو القدوة، وهو القائد، وهو التلميذ الحقيقى فى طريق الرب.