رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار مع النار


يا لها من ليلة ليلاء وكأنها ليلة «كربَّلاء»، وكربلاء هذه إن لم تكن تعرف أيها الأستاذ كلمة واحدة مكونة من مقطعين، المقطع الأول هو «كرب» والمقطع الثانى هو «بلاء» وقد تقول لى وأنت ترمقنى بعينيك: أنت ها تتفلسف وتتناصح علينا يا حضرة!، لماذا جعلت من حرف الباء حرفين؟، مرة فى كرب، ومرة فى بلاء، مع أن الباء حرف واحد لم يرد إلا مرة واحدة فى كربلاء!.

وقتئذ سأقول لك: حلمك علينا يا سيدنا، فأنا أعرف اللغة العربية من ساسها لرأسها، وقد أخذت الدكتوراه فى حرف «الباء» بجلالة قدره، فهو حرف يساعد بعض الأفعال على التعدى، كما يقول النحاة، وأنا لا أحب التعدى ولا المتعدين، كما أن حرف الباء من حروف القلقلة، ويا خوف قلبى من القلقلة واضطرابها، وفوق هذا يا أستاذنا الفاضل فهو حرف إذا تم تشديده بالشدة المغلظة فإنه وأيمان الله التى لا أحلف بها كذبًا يتم نطقه مرتين، وهو طبعًا، أى حرف الباء كما تعرف جاء فى كربلاء مشددًا، لذلك فإننى نطقته مرتين والأجر والثواب عند الله.

هه ماذا تقول؟، ما الذى أدخل زعيط فى معيط؟!، اتق الله يا أستاذنا فى أخيك المسكين، وعلى العموم الله يسامحك، لن أدخل معك فى مناوشات، وسأقول لك وجهة نظرى على داير الحرف الواحد، يا سيدى «كربلاء» هذه كانت موقعة حربية حامية الوطيس، وكان المتحاربون فيها يرفعون راية الإسلام!، ولكنهم كانوا يقصدون المُلك والحُكم والذى منه، فكانت هذه المعركة فيها من القلقلة والاضطراب وفيها من الشِدة ما يجعلها معركة كرب، ومعركة بلاء، وما زلنا إلى الآن نكتوى بنار فتنتها رغم بعد الشقة بيننا وبينها، وأنت طبعًا سيد العارفين، وتعرف أن هناك فريقًا من المسلمين قبل موقعة كربلاء بسنوات رفعوا المصحف فى وجه سيدنا على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، وكأن عليًا ابن عم رسول الله كان من الهندوس أو البوذيين!، مشكلتنا يا أستاذنا فى الشعارات والذى منه، طوال تاريخنا ونحن نرفع الشعارات ولكننا، وكما يقول الشاعر ولا مؤاخذة يا سيدنا الأفندى، «كالعيس فى البيداء يقتلها الظما.. والماء فوق ظهورها محمولُ»، لا أبدًا المسألة لا تحتاج قاموسًا لتعرف معنى كلمة «العيس» العيس هذه يا سيدنا معناها الإبل لا مؤاخذة، لا يا أستاذ لا داعى للتجريح، أنا لا أشتم ولكننى أصف حالنا والذى منه.

هه لم أسمعك، ماذا تقول؟، تتهمنى بالرغى وكثرة الكلام، تقول إننى لم أشرح لك ما هى تلك الليلة الليلاء التى بدأتُ بها كلامى!، والله عندك حق، لا تؤاخذنى يا سيدى الأستاذ على هذا الرغى، ولكن بعض الحكمة تأتى من الرغى، ومع ذلك فأنا لا أرغى ولا يمكن أن يصفنى أحد الخبثاء بالرغى والذى منه، ولكن وعهد الله حدثت لى حادثة عجيبة هى من عجائب الدنيا السبع، هل تريد أن تعرف ما هذه العجيبة؟، عجيبة لماذا لا ترد علىَّ؟!، ألست من مقامك؟، نعم نعم عرفت، أصابك الصداع، هذا شىء عادى خاصة فى هذه الأيام التى تكثر فيها الهيصة، الدنيا هيصة يا أستاذ، على رأى عمنا المرحوم خيرى شلبى، طبعًا تعرفه فأنت مثقف، وكما قال العم خيرى: كل واحد منهم أصابته فى دماغه هيصة كبيرة ويلزمه رجالة تعمل له أكبر هيصة.

يبدو أننى قضيت على البقية الباقية من صبرك، ولكن حِلمك يا شيخنا، واحدة واحدة يا أفندى، عهد من هذا؟، طب وعهد الله وعهد الله لقد حدثت لى القصة التى سأحكيها لك بحذافيرها، اصبر يا أستاذنا لا تتعجل، فإن العجلة من الشيطان، والموتوسيكل من أنثى الشيطان!، هههه معلهش القافية تحكم ونحن أولاد بلد مثل بعض والذى منه، حاضر يا سيدى سأترك الهذر وأتكلم فى الأمر الجلل الذى حدث لى.
كنت ذات يوم أسير بمفردى، وكان الشتاء البارد يفرض نفوذه على عظمى ويقرص لحمى وكأن بينى وبينه «تار بايت»، وإذا بنار عظيمة تهبط علىَّ من السماء وتقول لى: يا ويلكم يا أهل الأرض، وما إن سمعتُ لهيب النار يتكلم حتى أصابنى الفزع وكدت أفر فرار الإخوان إلى قطر، إلا أننى تماسكت تماسك حسنى مبارك بعد الثورة عليه، وقلت: من أنتِ أيتها النار؟، هل أنت من جمر البرق سعى إلىَّ ليبعث فى نفسى الدفء؟، قالت النار: بل أنا من خلق الله، أتيت من مكانٍ ما من هذا الكون الواسع الأرجاء!.

وكما يقول الروائيون وكُتّاب القصص «فغر فاه» كان هذا هو أنا، أنا الذى فغر فاه بعد أن سمعت هذه الكلمات، ثم قالت النار بصوت شديد الشبه بصوت الممثل الراحل محمد الطوخى وهو يعلق على أحداث الأفلام الإسلامية: ألا تعرف أن الله سبحانه وتعالى قال فى كتابه الكريم (ويخلق ما لا تعلمون)، أنت لست وحدك فى الكون أيها الأبله. ارتعدت فرائصى رعبًا وهلعًا وقلت بصوت مبحوح متعرج: يا لطيف اللطف يا رب، يا رب الدنيا تمطر حتى تنطفئ تلك النار.
ضحكت النار وهى تقول: أنا لست أسكن فى التجمع الخامس حتى تُغرقنى الأمطار، ثم انتظر يا أخينا، أنا لا أنطفئ بالماء وإلا لكنت أنت أيها الإنسان تتفتت وتذوب إذا وضعنا عليك بعض الماء فأنت من طين.
أشيطان أنت ؟!، قلتها للنار وقلبى ينتفض.
يا لك من جاهل، إن الله خلقك من طين وخلق خلقًا آخر من الطين فهل هذا يعنى أن كل من خُلق من طين هو إنسان؟، قالتها لى النار ثم استطردت: ليس من المهم أن تعرف من أنا ولكن الأهم أن تعرف لماذا أتيت لك.
قلت للنار وأنا أستظرف: أكيد أتيت لتعيدى لنا ذكرى أغنية عبدالحليم حافظ «نار يا حبيبى نار».
قالت النار وهى تمط شفتيها الملتهبة: يبدو أنكم أيها البشر تتميزون بالخفة، لا يا خفيف، لقد أتيت لأتحدث معكم فى أمر مهم، لقد رأيت من العالم الذى أعيش فيه دنياكم، ورأيت أن عالمكم منقسم إلى دول متقدمة ودول متخلفة، ثم رأيتكم يا أهل مصر من العالم المتخلف، وقد أسعدنى أن قامت فى بلادكم ثورات على الحكم المستبد، ومع ذلك وجدت الخلافات بسبب الدين قد وصلت عندكم إلى حد القتل وسفك الدماء، مع أن الدين يَجمع ولا يُفرِّق، وهو رحمة للناس جميعًا!.
وجدتها فرصة فجلست من النار موقف الأستاذ من التلميذ وقلت: والله يا أخت نار المسألة معقدة، إذ إن كل أنصار الإسلام السياسى يُكفرون المجتمع، ولكن بعضهم يستخدم التقية، وهم فى ذات الوقت يتلاعبون بمشاعر البسطاء من خلال شعارات الدين.
وماذا فعلوا بعد أن وصلوا للحكم فى بلادكم؟، هل نشروا الرحمة والسلام؟، قالتها النار وحسيس صوتها يتلمظ.
قلت بأدب: لا، عندما قويت شوكتهم خرج دعاتهم يقولون: إن الفن حرام، والغناء حرام، والموسيقى حرام، والرسم حرام، وآثار الفراعنة حرام، والسياحة حرام، والحرام حرام، والحلال حرام، والليبرالية والاشتراكية والقومية ومناهج الحكم التى فكر فيها البشر وأنضجتها قريحتهم كفر وحرام.
ومَن هم العلماء الذين يقولون هذا الكلام الغريب؟، قالتها النار وهى تضرب أخماسًا فى أسداس.
قلت بصوت منخفض كالهمس: الأسماء لا تهم، ولكن هؤلاء الدعاة خدعوا الشباب ولا مؤاخذة، وأفهموهم أن ثورة الشعب عليهم هى ثورة ضد الإسلام، وأنهم يجب أن يعيدوا الإسلام للحكم.
قالت النار وهى تبدى التعجب: ولكن الذى وصل للحكم هم الإخوان، والإخوان ليسوا الإسلام، ولا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن أن نقول عليه إنه هو الإسلام أو إنه يمثل الإسلام!.
قلت: ولكنهم يقولون للشباب المخدوع إنهم هم الإسلام، وإنهم سيعودون للحكم مرة أخرى!.
هزت السيدة المحترمة «نار» رأسها النيرانية يمينًا وشمالًا ثم قالت بصوت انطلق لهيبه: لن يفعلوا شيئًا لأنهم على باطل، والله قال فى القرآن الذى أرسله إليكم «إن الله لا يصلح عمل المفسدين»، وخذ بالك أيها الرجل، الله لم يقل فى القرآن إن الله لا يصلح عمل الفاسدين، ولكنه قال المفسدين، ولفظ الفاسد لم يرد فى القرآن، ولكن ورد فقط لفظ الفساد، أما من شدَّد الله عليهم فهم المفسدون، وهل تريد أن تعرف لماذا هم مفسدون؟.
أخذتنى الرهبة من الحِدة التى كانت النار تتحدث بها، ولفنى الخوف واعتقل لسانى فلزمت الصمت، فقالت مسترسلة: اسمع يا رجل، هؤلاء الإخوان ومن معهم كلهم من المفسدين، ولذلك كن على ثقة من أن الله لن يصلح عملهم، فى كل تاريخهم كان عملهم يبوء بالخسران، حتى عندما وصلوا للحكم باء عملهم بالخسران، لأنهم من أمة هذا الزمان، انشغلوا بالآخرة ولم يعملوا لها، واستعمرهم الله فى الأرض ولم يعمروها، نهاهم الله عن الكذب فكذبوا، ونهاهم عن النفاق فنافقوا، وجعلوا كل فقههم حرمان خلق الله من رحمة الله، وقتلوا وخرَّبوا وهم يرفعون راية الله.
ثم أخذت النار ترتفع إلى السماء، فقلت لها قبل أن تختفى: أريد أن أعرف يا نار، هل نار الآخرة شديدة بالفعل كما سمعنا؟.
قالت النار: قد تدخل الجنة ولكنك فى النار.
تعجبت: كيف هذا؟!
قالت: إذا لم تر الله وأنت فى الجنة فأنت فى النار.