رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

30 أبريل.. ذكرى رحيل نزار


مشكلتى مع «نزار»، أن حبى له أكبر من رحابة اللغة.. «نزار»، لم يكن رجلًا حاول بالكتابة أن يصنع تفرده.. بل هو «الكتابة»، فى ذروة تأنقها، وعصيانها، وافتضاح أسرارها. كان «الكلمة»، السلسة، العميقة، مثل جذور الشجر.. الموحية بالتمرد.. المشعة بالحكمة.. النازفة عشقًا.. النابضة بالغضب الثائر.. وأشجان الغناء. هو «الكلمة»، ضد احتلال الوطن.. وضد استعمار النساء. «نزار»، ليس واحدا من الشعراء. لكنه الِشعر نفسه، حينما يبقى متجددا، ومتوهجا، وساحرا.. تهل الذكرى العشرون لرحيل «نزار»، وهو الدمشقى الأصيل، فى وقت تحول فيه وطنه سوريا، إلى ساحة مفتوحة للخراب، والدمار، وتقاتل الدخلاء، وسفك الدماء، ونزوح الآلاف.
لقد تنبأ «نزار»، بما سماه «الخراب العربى الكبير الشامل»، وكتب عنه محذرا، وفاضحا المسئولين عنه، المتربحين منه. وقد كلفه هذا، الحرمان من وطنه، والعيش فى المنفى سنوات.. الإقامة الجبرية، خارج الوطن، ومصادرة قصائده «المغضوب عليها»، وإدانته بأبشع الاتهامات التى لم تفعل شيئا إلا أن تزيد قامته الشِعرية شموخا.. يؤلمه عصفور فى قفص.. تؤلمه امرأة تعامل كالجوارى، يؤلمه اختناق الوطن.. دون تفرقة.
كتب «نزار»: «صورة الوطن عندى تتألف كالبناء السيمفونى من ملايين الأشياء.. ابتداء من حبة المطر، إلى مكاتيب الحب، إلى رائحة الكتب.. إلى طيارات الورق.. إلى حوار الصراصير الليلية.. إلى المشط المسافر فى شَعر حبيبتى».. ويتعرض «نزار»، إلى مزايدات باسم الوطن وباسم الفضيلة، وباسم الدين، من كهنة الوطنية، والأوصياء على الأخلاق، والحرية، والدين.
تساءلوا: كيف للشاعر، الذى لا هم له، إلا امتداح عيون النساء، أن يهجو الخزى العربى؟، ماله وما للسياسة، والوطن والثورة، وهو الشاعر الذى تفوح من قصائده رائحة النبيذ، واشتهاء النهود؟.. كتب «نزار»:
لا أنتِ من صنف العبيد.. ولا أنا أهتم فى بيع العبيد
إنى أحبك جدولًا وحمامة.. ونبوءة تأتى من الزمن البعيد
وأنا أحبك فى احتجاج الغاضبين.. وفرحة الأحرار فى كسر الحديد
وكتب.. «لا تقلقى علىّ يا صديقتى.. فـكل ما اقترفته
أنى منعت البدو أن يعتبروا النساء كالوليمة.. وكل ما ارتكبته
أنى رفضت القمع.. والإيدز السياسى
والفكر المباحثى.. والأنظمة الدميمة.
قال نزار.. «تتظاهر – حين أحبك – كل المدن العربية.. تتظاهر ضد عصور القهر
وضد عصور الثأر.. وضد الأنظمة القبلية
وأنا أتظاهر – حين أحبك – ضد القبح.. وضد ملوك الملح
وضد مؤسسة الصحراء.. ولسوف أظل أحبك حتى يأتى زمن الماء.
مم كان يهرب «نزارى»؟.. يرد:
أنا هارب من كل إرهاب يمارسه جدودك.. أو جدودى
أنا هارب من عصر تكفين النساء.
أدرك «نزار»، أن ثقافة النفط، كارثة ذكورية، وفخ حضارى، ورجوع إلى الغزوات الجاهلية، يكتب:
وتزوجت أخيرًا.. بئر نفط
وتصالحت مع الحظ أخيرًا.. كانت السحبة- يا سيدتى- رابحة
ومن الصندوق أخرجت أميرًا.. لم يحركنى
حين شاهدتك فى كل الصور.. تتثنين كالطاووس شمالا ويمينًا
وتذوبين حياء وخفر.. وتشدّين على كف النبى المنتظر