رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«صوت الثورة».. رد اعتبار جلال معوض


على صفحات «الدستور»، ١١ أبريل الجارى، تساءل الدكتور مينا بديع عبدالملك عن سبب إحالة المذيع جلال معوض، عميد الإذاعيين المصريين والعرب، حسب وصفه، إلى المعاش وهو فى سن الـ٤١.

والسبب، الذى أكشف عنه لأول مرة للحقيقة وللتاريخ، قاله لى جلال معوض نفسه، ثم أكمل لى الدكتور عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام آنذاك، الجزء الآخر من الحقيقة.

هذه قصة تستحق أن تُروى، فهى تَعرض لمأساة شاب لامع موهوب، غلبت عليه عاطفته، وهو ما يلخص محنة عدد من الإذاعيين الموهوبين الذين أضرت بهم السياسة وقضت على مستقبلهم مثل أحمد سعيد وعلى خليل.

رفض تقديم رئيس آخر بعد ناصر.. والسادات استبعده بسبب «مش عايزين الأسود يحكمنا»
وجد جلال معوض نفسه مفصولًا من الإذاعة، وهو يبدأ عقده الأربعين، قمة سن العطاء، حتى محاولة عمله فى ليبيا فشلت كمحاولة أحمد سعيد، بعدما حاول «القذافى» استثمار هؤلاء المذيعين المناوئين للنظام المصرى أو على الأقل الذين لا يرضى عنهم النظام ليستخدمهم وقت اللزوم ضد «السادات»، الذى كانت علاقته به بين مد وجزر.
لكنهم كمذيعين شرفاء لم يبيعوا ضمائرهم من أجل المال، وفضلوا العودة خالى الوفاض، ومنهم «معوض» الذى فُصل من الإذاعة بقرار من السادات، زميله القديم فى السجن قبل الثورة. أليست هذه دراما إنسانية تستحق فك ألغازها؟
أما السبب فى فصله من الإذاعة فقد بدأت دواعيه بعد تولى السادات رئاسة الجمهورية خلفا لـ«عبدالناصر»، حينما لاحظ زملاؤه المذيعون، ومنهم فهمى عمر، أن «معوض» لم يعد يقدم مؤتمرات الرئيس الجديد، بل كان ينتدب أحد المذيعين ليقوم بالمهمة وهو ما جعل صديقه فهمى عمر يفاتحه فى الموضوع، فلم ينبس ببنت شفته، وظل صامتا إلى أن حدث ما حدث وأطيح به خارج «ماسبيرو»، مُحالا إلى المعاش بعد أحداث الخامس عشر من مايو، أو «ثورة التصحيح»، كما أطلق عليها السادات.
وبرر فهمى عمر بعد ذلك إبعاد «معوض» بأن بعض النفوس الضعيفة أوغروا صدور بعض المسئولين، وقالوا عن «جلال» كلامًا عجيبًا فى التحقيقات التى جرت فى ذلك الحين، أدت إلى أن يحال إلى المعاش.
سألت الدكتور عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام فى تلك الفترة، عن «هؤلاء الذين اُستبعدوا فيما سُمى مذبحة الإذاعة فى ١٥ مايو ١٩٧١»، وقلت له: «ألم تحاول التدخل لحمايتهم خاصة رجاء النقاش، الذى كان رئيسا لمجلس إدارة وتحرير مجلة (الإذاعة)؟».
أجابنى الدكتور حاتم: «رجاء النقاش رجل محترم ولكننى لا أعرف لماذا تم استبعاده هو أو غيره من الإعلاميين، فلا دخل لى بالذين استبعدوا ولا أعلم ماذا فعلوا لكى يتم استبعادهم».
كررت السؤال على الدكتور حاتم: «ألم تحاول أن تفعل شيئا لمنع مذبحة الإذاعيين باعتبارك مسئولا عنهم كوزير للإعلام؟».
فقال لى مستنكرًا «كيف أمنعها؟ فهى عملية أمنية، ورئيس الجمهورية يقول إنهم متآمرون عليه.. الوحيد الذى لمست حالته كان هو جلال معوض».
وأوضح «حاتم» أن أحدهم ادعى على «معوض» أنه قال فى فناء مبنى الإذاعة والتليفزيون: «الرجل الأسود لا نريده أن يحكمنا»، فأرسله الأمن إلى المدعى العام الاشتراكى الدكتور مصطفى أبوزيد، الذى حقق معه وسأله: «أنت قلت؟» فقال: «أنا قلت»، فقال له: «الاعتراف سيد الأدلة».
تحدث المدعى الاشتراكى إلى الرئيس، فطلب «السادات» استبعاد «معوض» من الإذاعة، واستدعيت «جلال» وقلت له «رايح للمدعى الاشتراكى تعترف له؟! طيب قول حاجة تانية».
وأضاف «حاتم»: «وحتى لا ينقطع عيشه، تحدثت إلى الرئيس السادات بشأنه وقلت له: (أنا أعرف إنه غلط ورأيى نشغله فى مكان آخر غير الإذاعة، نوديه المسرح)، ثم ذهب إلى ليبيا بعد ذلك وقبل أن يسافر استقبلته وقلت له: (يا جلال إوعى تشتم مصر أو الرئيس السادات، خلى بالك يا ابنى ما تعاديش الدولة، خليك فى عملك، لا تتدخل فى السياسة، المرة دى لحقتك بعد كده يمنعوك من دخول مصر. فقبلنى وشكرنى)».
هذه رواية الدكتور حاتم بنصها كما سمعتها منه.

«الوفد» أدخله الإذاعة رغم اعتراض «السراى».. وتمزيق صورة الملك أبعده عن الميكروفون
أما جلال معوض نفسه فقد قال لى وقت أن تحدثنا- مشترطا ألا أنشر ما يقوله- إنه أحب الرئيس جمال عبدالناصر، ولم يتصور يوما فى حياته أن يقدم حديثا أو مؤتمرا لرئيس آخر غيره، لذلك كانت صدمته فادحة وخسارته لا تعوض حين توفى رئيسه وزعيمه وحبيبه فانكسرت نفسه وشعر أنه لم يعد قادرا على تقديم الرئيس الجديد بحكم موقعه ككبير للمذيعين.
جاء ذلك رغم صداقته القديمة لـ«السادات» قبل الثورة، حين جمعهما سجن واحد فى معتقل «قرة ميدان» لمدة ٣ أشهر، إثر تمزيقه صورة الملك فاروق ثم دهسها بقدميه على مرأى ومشهد من طلبة الجامعة حين كان طالبا.
إلا أن علاقة المعتقل القديمة بين جلال معوض وأنور السادات لم تشفع للأخير عنده لكى يقدمه كرئيس للجمهورية، فضلا عن استنكاره باعترافه أن يكون رئيسًا، مع أن المنطق الذى يحدث بالنسبة حتى للإنسان العادى أن يستغل علاقته القديمة بمن صار رئيسا للدولة لكى يأخذ مكانه العالى فيها فى العهد الجديد، ولكن من يعرف جلال معوض سيكتشف أن الرجل لم يكن انتهازيا ينتقل من مائدة عبدالناصر إلى مائدة السادات على طريقة «مات الملك يحيا الملك» أو حين يأفل نجم يبحث عن الالتفاف حول نجم جديد.
كان جلال معوض رجل مبادئ، وإن لم يستطع أن يفرق بين مشاعره وحبه لـ«عبدالناصر» ووفائه له وواجبه كمذيع عليه مسئوليات ينبغى أن يؤديها، لأنه فى هذه الحالة يخدم بلده من خلال موقعه كمذيع ولا يخدم رئيس البلد.
ولم تكن إحالة جلال معوض إلى التقاعد فى عهد الرئيس السادات هى الإحالة الأولى وإن كانت الأخيرة، فقد جرت قبلها محاولات حتى فى عهد الرئيس عبدالناصر نفسه.
فقد كان تمزيقه صورة الملك فاروق واعتقاله على إثرها سببا فى عدم قبوله للعمل بالإذاعة، حلم حياته منذ المرحلة الثانوية، لأن التعليمات كانت صادرة من السراى إلى المسئولين بالإذاعة بعدم قبول جلال معوض.
ومع ذلك، دخل الإذاعة تحت ضغط من حكومة الوفد ووزير الداخلية فيها فؤاد سراج الدين، ولكنه لم يستطع العمل مذيعًا كما تمنى وإنما عمل محررًا بقسم الأخبار، وشعر بالارتياح لدخوله الإذاعة، ومن خلال وجوده فيها حاول الوصول إلى الميكروفون وبذل فى سبيل ذلك ثلاث محاولات فاشلة على مدى ثمانية شهور، فكان يتقدم لامتحان المذيعين مرة وثانية وثالثة ولكن لجنة اختبار المذيعين - طبقًا للتعليمات - كان لديها حكم مسبق بأن جلال معوض لا يصلح أن يكون مذيعا يقولون له «لا.. ما تنفعش».
كانوا يؤكدون له فى صرامة ووضوح أنه لا فائدة من محاولاته للوصول إلى الميكروفون، وظل هكذا حتى تغيرت لجنة اختبار المذيعين بلجنة جديدة كانت تضم د. على الراعى وعبدالوهاب يوسف وأنور المشرى.
وأمام هذه اللجنة تقدم جلال معوض للامتحان وتحقق أمله ليصبح مذيعا دون قضاء فترة التمرين، فقد اعتبرت اللجنة أن الفترة التى قضاها محررًا بقسم الأخبار كانت كافية، ليصبح مذيعًا على الهواء يوم ٣ يوليو ١٩٥١ الموافق أول أيام عيد الفطر، ليكون يوم عيد حقيقى له.
كان معظم زملائه المذيعين القدامى فى إجازة، فتولى قراءة نشرة الأخبار مشاركة مع زميلته همت مصطفى، التى كانت قد تخرجت معه فى نفس السنة، ١٩٥٠، وكان من زملاء هذه المرحلة الدراسية ممن أصبحوا زملاءه بالإذاعة: سامية صادق، آمال فهمى، ثريا عبدالمجيد، عواطف البدرى، فوزية فهيم، ثريا حمدان، سميرة الكيلانى، سعد القاضى، وغيرهم.

خُصم من راتبه فى جلسة إلغاء معاهدة 36.. ونُقل إلى التموين بسبب بيان
العقوبة الثانية التى نالت جلال معوض كانت هذه المرة خصما من مرتبه إلى جانب رفته، فكان لا يدرى أكان من حسن حظه أو سوئه أن أول إذاعة خارجية يقوم بها على الهواء مباشرة، كانت من مجلس النواب فى الجلسة التاريخية التى أعلن فيها رئيس الحكومة مصطفى النحاس، إلغاء معاهدة ١٩٣٦، فى ٨ أكتوبر ١٩٥١.
وقبل أن تبدأ جلسة مجلس النواب بدأ الإرسال على الهواء، وكان «جلال» قد سأل عبدالسلام فهمى جمعة باشا، رئيس المجلس، عن موعد إلقاء النحاس باشا بيانه، فقال له: «بمجرد افتتاح الجلسة»، ولكن شاء حظ معوض قبل أن يلقى النحاس بيانه، أن وقف زعيم المعارضة نور الدين طراف ليقدم استجوابًا للحكومة عن منح الجنسية المصرية لبعض ندماء الملك فاروق مثل «بوللى» وغيره من الأجانب الذين يحركونه كألعوبة من وراء الستار لخدمة أغراضهم. وظن الوزير المشرف على الإذاعة آنذاك -عبدالمجيد باشا عبدالحق- أن صوت زعيم المعارضة واستجوابه غير المتوقع لرئيس الحكومة، قد وصل إلى أسماع الناس عبر ميكروفون الإذاعة على الهواء، فلما سأل الوزير جلال معوض أوضح له أن شيئا مما ظنه لم يحدث، لأن صوته وهو يذيع قبل جلسة الافتتاح قد غطى على صوت زعيم المعارضة، فلم يصل من صوته شىء مفهوم إلى جمهور المستمعين.
ومع ذلك لم يقتنع الوزير، وقال له: «أنت مرفوت ومخصوم منك خمسة عشر يومًا»، ولم يتراجع الوزير عن قراره رغم أنه استمع بنفسه إلى تسجيل كامل لوقائع جلسة البرلمان، والتى أثبتت براءة «معوض»، حيث طبق الخصم، ولم يطبق الرفت.
لكن هذا الرفت، تحقق فعلا فى نهاية حكومة النحاس، حين قرأ جلال معوض نشرة أخبار الحادية عشرة مساء ٢٧ يناير ١٩٥٢- اليوم التالى لحريق القاهرة - وفيها أذاع مراسم إقالة حكومة النحاس باشا، وقرأها بصوت «متهدج»، وهو التعبير الذى تم الاستناد إليه فى صدور قرار بنقله بعد يومين إلى وزارة التموين، مرفوتا من الإذاعة، ليفاجأ بالسيدة أم كلثوم تشد من أزره فى محنته وتشجعه على الصبر وتعده بأنها ستبذل كل جهودها لمحاولة إعادته أمام الميكروفون مرة أخرى.
هذه الواقعة تثبت مرة أخرى أن جلال معوض كانت تحكمه مشاعره وانفعالاته وعواطفه أكثر مما تحكمه مسئولياته وواجباته كمذيع.
وعندما جاء وزير جديد للتموين هو صليب سامى باشا وعلم بوجود ما يزيد على عشرين مذيعًا بالوزارة، قرر إعادتهم على الفور إلى الإذاعة، إذ لا حاجة له بهم، كان ذلك فى يونيو ١٩٥٢، لتقوم الثورة فى الشهر التالى.

أمين الرئاسة أقاله فى حفل «أضواء المدينة» بالسودان.. ومدير مكتب عامر عنّفه بسبب «موال الكحلاوى»
فى الثانية عشرة ظهر ٢٣ يوليو، تم استدعاء المذيعين إلى اجتماع أبلغوا فيه بأنهم بين قوتين، قوة شرعية تملك ولا تحكم، وقوة غير شرعية تحكم ولا تملك، وعليهم كمذيعين إمساك العصا من منتصفها، بمعنى عدم الانحياز لأى من القوتين.
لكن جلال معوض كعادته لم يستطع أن يمسك العصا من منتصفها، فحينما طلب أحد الضباط الذين احتلوا الإذاعة منه إعادة قراءة بيان الثورة الذى ألقاه أنور السادات ولم يتم تسجيله، وأذاعه بعض الضباط بلغة غير سليمة، وافق «جلال» دون أن يلقى بالًا لتحذير زملائه أن مصيره سيكون الإعدام إن فشلت الثورة.
بعد ذلك طلبه أحد المسئولين بالإذاعة ليصدر قرارًا بإيقافه عن العمل، ولكن وكيل الإذاعة على خليل - القائم بأعمال رئيس الإذاعة الذى كان فى إجازة - ألغى القرار ليصطحب حافظ عبدالوهاب- مراقب التنفيذ على الهواء- جلال معوض إلى الاستوديو ليذيع كل البيانات، ليصبح «مذيع الثورة»، ولكنه لم يسلم من لسعات نارها، والتى كانت مجرد «قرصة أذن».
فقد حدث أثناء زيارة الرئيس عبدالناصر السودان، أن أقيمت أربعة حفلات لأضواء المدينة التى كان جلال معوض نفسه مسئولا عنها، وفى الحفل الرابع طلب طلعت فريد، وزير الاستعلامات السودانى وقتها، إلقاء كلمة مفادها أن الرئيس عبدالناصر وافق على إقامة حفلين إضافيين لـ«أضواء المدينة»، ما أغضب عبدالمجيد فريد، أمين رئاسة الجمهورية، لإذاعة خبر عن الرئيس ليس مكانه حفلا فنيا، ولذلك أصبح جلال معوض «مرفوتًا» لسماحه بإذاعة هذا الخبر.
حاول «جلال» شرح موقفه لأمين الرئاسة، باعتبار أنه ضيف على السودان، ولا يجوز منع مسئول سودانى من الكلام فى بلده، حتى اقتنع وألغى القرار، إذ إن الفصل فى تلك المرحلة لم يكن يحتاج إلى قرار مكتوب، بل إلى مجرد كلمة.
وتكررت كلمة «الرفت» لجلال معوض، ولكن هذه المرة فى سوريا، حيث كانت التعليمات الموجهة لجلال معوض فى حفلات «أضواء المدينة» بدمشق ألا يُذكر اسم عبدالناصر فى أى أغنية، إلا أن محمد الكحلاوى حينما جاء دوره فى الغناء، شدا بأغنية «لجل النبى» إلا أنه أتبعها بموال يحيى فيه عبدالناصر، وما هى إلا لحظات حتى فوجئ «جلال» وهو فى كواليس الحفل، باندفاع اللواء أحمد زكى، مدير مكتب المشير عبدالحكيم عامر، متجها إليه قائلا: «أنت مرفوت»، وخيم الوجوم على كل الجالسين معه، وحين أنهى الكحلاوى أغنيته وعرف ما حدث، طيّب خاطر معوض بكل طيبة قلبه، ووضع يده على صدره قائلا: «ولا يهمك.. رقبتى سدادة».
أما سفر جلال معوض إلى ليبيا، فاستمر لمدة سنتين، ولم يكن وليد تقاعده بعد تولى الرئيس السادات المسئولية، بل كانت هناك رغبة من أيام عبدالناصر، من المسئولين الليبيين فى أن يعمل «جلال» فى إذاعتهم، ولكنه كان يهرب ويتهرب.
ففى آخر زيارة لـ«عبدالناصر» إلى ليبيا ١٩٧٠، طلب مصطفى الخروبى، عضو مجلس قيادة الثورة الليبية، من «معوض» البقاء فى ليبيا، فسارع بركوب الطائرة إلى مصر قبل وصول الرئيس عبدالناصر، وبعد إقلاع الطائرة سأله هيكل لماذا لم يبق، فلم يكن يتصور أنه سيأتى يوم ليعمل خارج بلاده، ولكن لم يمض عام واحد من إحالته للمعاش، حتى توجه بنفسه إلى ليبيا ليقيم بها سنتين.