رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمسيس ويصا واصف.. مؤسس مركز الفن الشعبى بالحرانية


وُلد رمسيس ويصا واصف بالقاهرة فى عام ١٩١١، ونشأ فى أسرة قبطية تهتم بالعمل السياسى وتقدس الحياة الدينية. كان البيت الذى تربى فيه تتردد فى جوانبه كلمات: «الأمة ــ الدستور ــ العدالة ــ الاستقلال»، التى كانت فى ذلك الوقت هى المطلب والنداء والأمل الذى يسعى نحوه الجميع. وكانت الأم التقية التى تنتمى لعائلة «باسيلى الطوخى» من طنطا تهتم بأن تصطحب أولادها رمسيس وأوزيريس وأوريس وبنتيها إيزيس وسيرس إلى كنيسة العذراء المشهورة بالمُعلقة بمصر القديمة.

فى سن السادسة التحق رمسيس بمدرسة الليسيه بالقاهرة، واستمر فى دراسته حتى حصل على شهادة البكالوريا عام ١٩٢٨. فى تلك الأثناء كان يتردد على منزل الأسرة المثّال المصرى الفنان القدير محمود مختار، الذى كان مُهتمًا فى ذلك الوقت بنحت تمثال «نهضة مصر» الشهير. وكان ويصا واصف أحد أعضاء اللجنة التى تشكلت للإشراف على إقامة هذا التمثال. الأحاديث التى كانت تدور فى منزل ويصا واصف شدت انتباه الطفل رمسيس، والذى كان يتابعها بمنتهى اليقظة. وما أن بلغ الخامسة من عمره حتى أظهر مواهب فنية رائعة بتفوق واضح حتى إنه وهو فى هذه السن الصغيرة كانوا ينادونه بلقب «الفنان».

فى عام ١٩٢٩ سافر للدراسة بفرنسا والتحق بمدرسة الفنون الجميلة بباريس وتخصص فى الفن المعمارى. فى تلك الأثناء توفى والده العظيم ويصا واصف (١٨٧٣ – ١٩٣١) ولكنه تجاوز هذا الموقف الحزين واستمر فى دراسته حتى حصل على دبلوم العمارة عام ١٩٣٥، وكان مشروع تخرجه يحمل عنوان: (المبانى الفخارية فى مصر القديمة) ومنحته لجنة الممتحنين وقتها الجائزة الأولى. ثم عاد إلى القاهرة عام ١٩٣٦ والتحق بهيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة قسم العمارة وقام بتدريس الفن المعمارى وتاريخ العمارة، وظل يتدرج فى وظيفته حتى أصبح رئيسًا لقسم العمارة (١٩٦٥ – ١٩٦٩)، بالإضافة إلى قيامه بتدريس مادة العمارة القبطية والتاريخ القبطى بمعهد الدراسات القبطية بالعباسية.

كان يحرص على ضرورة الاحتفاظ بالتراث المصرى العريق فى بناء الكنائس وترميم الأديرة، وفى هذا يقول: (إن حالتنا الآن تدل على عدم الاهتمام بالآثار والتاريخ القبطى، وأنه يجب أن نوجه عناية كبرى إلى هذه الناحية، وبخاصة عند التفكير فى بناء كنائس جديدة، وسبق أن تقدمت باقتراح إلى المجلس الملى العام لتأليف لجنة من المهندسين الأقباط الإخصائيين فى هذا النوع من الفن لدراسته على ضوء تراثنا القديم، خاصة فى القرون ٥ - ٧، مع بحث أسباب التوقف فى القرون الوسطى، وقد بحثت فى هذا الموضوع بحثًا دقيقًا بجانب قيامى بتدريس تاريخ العمارة فى كلية الفنون الجميلة والمسائل التاريخية الأخرى، وبعد زيارتى الأديرة والكنائس القديمة أحسست بالفارق الكبير بين الطراز القديم والتراث الحديث.

لذلك أرى أنه يجب الاحتفاظ بالتراث القديم الموجود فى الأديرة والكنائس الأثرية، وأن تكون للفن القبطى شخصيته المتميزة. ويمكن لمعهد الدراسات القبطية القيام بهذه المهمة وتنظيمها إذا اقتضى الأمر، لأنه مؤسسة حيوية للأقباط ولو أنها مُهملة الآن للأسف بسبب إهمال تنفيذ تقاليد المؤسسين الأوائل).

وفى عام ١٩٥٧ عندما تشكلت لجنة لتشييد كنيسة باسم السيدة العذراء بضاحية الزمالك، اقترح رئيس اللجنة وهو المستشار إسكندر قصبجى اختيار المهندس المعمارى رمسيس واصف لبناء الكنيسة بفنه القبطى الرفيع، وذلك بعمل الرسومات لجميع مكونات الكنيسة.

وكثيرًا ما عبر رمسيس ويصا عن استيائه الشديد للعمارة المصرية الحديثة الخالية من أى تنسيق فنى، والتى غابت عنها المسحة المصرية الأصيلة، فالعمارات الحديثة لا تتناسب مع طبيعة حياة الشعب المصرى. وحدث فى أثناء إحدى رحلاته إلى جنوب مصر مع طلاب كلية الفنون الجميلة بالقاهرة أن لاحظ روعة المبانى فى القرى النوبية التى تأخذ شكل القباب. ذلك الطابع الذى يعود إلى العصر الفرعونى من بداية عصر الأسرات.

فقرر ــ بمصرية شديدة ــ أن يعيد إحياء هذا الطابع المصرى الأصيل، فاصطحب معه مجموعة من العمال من أسوان لتشييد الحجرات الأولى بمنطقة الحرانية التى كان قد بدأ يؤسس مركزه فيها، وكانت لديه فكرة أنه لو استطاع أن يغرس فى نفوس أطفال القرية الإعجاب بهذا الفن المعمارى لكى يستخدموه فيما بعد فى مبانيهم، يكون قد نجح فى تعميم هذا الفن.
وبالفعل وجد استجابة وتجاوبًا بين روح الفن المصرى وطبيعة الطفل المصرى بالفطرة، وكانت هذه هى النبتة الأولى لصنع جيل المستقبل. فعلى امتداد الفترة (١٩٤٠ ــ ١٩٦٩) واصل عمله المعمارى وتصميم العديد من المنازل الخاصة، من بينها منزله بالجيزة والحرانية، وبعض المدارس، منها مدرسة ابتدائية بقصر الشمع بمصر القديمة، ومدرسة الليسيه بباب اللوق، ثم عدد من الكنائس، منها كنيسة مار جرجس بمصر الجديدة، وكنيسة الآباء الدومينيكان بالعباسية، بالإضافة إلى كنيسة العذراء بالزمالك.
وعمل مع المهندس المصرى حسن فتحى فى قرية «القرنة» بالأقصر. فى عام ١٩٥٨ حضر المعرض الدولى الأول للنسيج الذى عُقد بسويسرا. وفى عام ١٩٦٢ كُلف بتصميم متحف النحت للمثّال محمود مختار بالجزيرة. وفى عام ١٩٦٣ أدخل فن نسيج القطن الرفيع بمركز الحرانية، وفى عام ١٩٦٤ علّم مجموعة من الأطفال، من مصر القديمة، بمدرسة الحرانية التى أسسها بالمركز، طريقة تطبيع الأقمشة وتلوينها يدويًا. ثم استقال من التدريس فى كلية الفنون الجميلة عام ١٩٦٩ ليتفرغ للعمل بمنطقة الحرانية، وفى عام ١٩٧٠ كان قد استكمل جميع المبانى بها، وأطلق على الحرانية منذ ذلك الحين مركز «الفن الشعبى». عام ١٩٦١ كرمته الدولة بجائزة الدولة التشجيعية فى الفنون، وفى ٤ سبتمبر ١٩٨٣ مُنح على اسمه جائزة «أغاخان» الدولية تقديرًا لإنتاجه المتميز فى العمارة.

وفى أثناء انعقاد المؤتمر الأول للمعماريين المصريين بالقاهرة عام ١٩٨٥ قرر المؤتمر أن يهدى «شهادة وفاء وتقدير» على اسم رمسيس واصف وفاءً للدور الكبير الذى أثرى به العمل المعمارى المصرى والعربى فى المجالين المهنى والعلمى. فى عام ١٩٧٤ توفى فجأة إثر أزمة قلبية حادة عن عمر ٦٣ عامًا. ومازال العمل مستمرًا بالحرانية تحت إشراف زوجته وابنتيه. كان رمسيس ويصا فى حياته مرآة صادقة كل الصدق للفن القبطى الخالد الذى لا يُعد ولا يُحصى. فنه كان فيه الأمل والإصرار، والذى يتطلع إلى أعماله الباهرة يرى فيها مصر. وما أعظمها رؤية تكتحل بها العين وتبتهج بها النفس وينشد لها اللسان.