رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود الضبع يكتب: مفارقة العام والخاص «السر والعلن»

محمود الضبع
محمود الضبع

يحيا الإنسان العربى اليوم مستويين من مستويات التعايش (وجهين)، أحدهما يعلنه متبعًا فيه ما ينبغى أن يكون وما يفرضه عليه التواضع الاجتماعى (جملة ما اتفق عليه المجتمع من حوله) من التزام أخلاقى ودينى وأعراف وتقاليد، وثانيهما هو القناعات أو التصورات الخاصة التى ينطلق فيها من تبريراته الفكرية، التى اكتسبها عبر حياته من مخالطة لحضارات أو جماعات متحررة أو قراءات، أو حتى اتباع لأهواء شخصية تحقق له التوازن النفسى والإشباع.
هذه الازدواجية على بساطتها ينكرها الجميع، ولا يعترف بها إلا القلة، وفى الآن ذاته يتعايشون بها، ولا يكاد ينجو منها أحد، وكل له مبرراته، والأمثلة على ذلك كثير فى كل المستويات:
الجرائم التى تتكشف بعد انتهاء زمن كثير من الحكام وأصحاب السلطة أو بعد انقضاء حياتهم، والتى تشير إلى حياة سرية خاصة (كانت خفية على أقرب المقربين)، وتعود إلى دوافع نفسية لم تكن معلنة طوال حياتهم، ويمكن فى ذلك مراجعة تاريخ الحكم العربى منذ نشأة الدولة الأموية، للوقوف على ما جاد به الزمن، وتكشفت بعض تفاصيله من أبعاد تتعلق بممارسات أخلاقية واجتماعية بعضها يدخل فى إطار حرية شخصية تتناقض مع المعلن عنه، وبعضها يدخل فى إطار النزوات والانحرافات النفسية، وبعضها يدخل فى إطار عالم الدسائس والمؤامرات الذى يلازم أنماط الحكم العربى، بشهادة كثير من المؤرخين والعلوم السياسية.
الحياة الخفية لبعض العلماء والمفكرين وأصحاب الكلمة، والأساتذة الجامعيين والمعلمين والأطباء والمسئولين ممن يمتلكون الهيبة، ويتعامل معهم المجتمع بأقصى درجات التبجيل والاحترام، انطلاقًا من الصورة العامة المعلن عنها، غير أن التاريخ العربى القديم والمعاصر، كشف عن صورة أخرى لم تكن معلنة، وتم الكشف عنها بسبب خلاف سياسى أو منافسة أو رغبة شخص فى الانتقام منهم، وهى نماذج كثيرة تكررت فى كل عصر، منها انحراف بعض الأساتذة مع طلابهم والتغرير بهم أو استغلالهم، ومنها ما يفعله بعض الأطباء مع مرضاهم، وما يفعله بعض المسئولين مع الضعفاء من موظفيهم، وغيره كثير مما لا يصعب البحث فيه واقعيًا.
الحياة الخفية لكثير من المقتدرين ماديًا واجتماعيًا من رجال أعمال وتجار وأصحاب شركات ومصانع ومقاولين وأصحاب أملاك ومن على شاكلتهم، وهم شريحة غير قليلة من أى مجتمع عربى، وكثير منهم يقدم للمجتمع صورة مستترة بالدين أو النموذج الأخلاقى المثالى أو غيرها من الصور التى تكتسب قبولًا لدى المجتمع، فى حين يمارس فى حياته الخاصة صورة أخرى، ولعل كثيرًا من نماذج الأدب لنجيب محفوظ مثلًا، تكشف عن هذه المفارقة بين العام والخاص لبعضهم، اشتهر منها «سى السيد، السيد أحمد عبدالجواد» فى الثلاثية، التاجر الملتزم أخلاقيًا فى تجارته، والصارم الحازم فى إدارة أسرته، وفى المقابل حياته السرية وعلاقاته مع شلة الأنس والراقصة إذا حل الليل ونامت العيون.
الحياة الخفية جدًا لشرائح عديدة من عموم الشعوب العربية، وبخاصة فى انتهاك الأخلاق، وتبرير استلاب حقوق الغير، والكيل بمكيالين، وغيرها مما ترصده دراسات علم الاجتماع فى المناطق العشوائية والريفية والشعبية والحضرية، وهو ما يمكن العودة إليه فى مئات الدراسات المنجزة فى الجامعات والمنشورة فى الدوريات وعبر شبكات الإنترنت.
فهل تكفى هذه النماذج للتدليل على مفارقة الحياة العربية بين العام والخاص، وبين السرى والمعلن، وبين متطلبات الصورة التى يريدها المجتمع وبالتالى يقدمها له الإنسان ظاهريًا، والصورة التى يعيشها المجتمع بالفعل عبر أفراده.
لعلنا لا ندعو هنا للحرية المطلقة، ولكننا نشير إلى أهمية الانتباه لأننا نعيش فى ازدواجية، وبالتالى علينا البحث عن الأسباب التى تجبرنا على العيش فيها، وبخاصة سطوة المجتمع، والأهم كيفية البحث عن تحديد مفهوم الحرية الشخصية، وتأهيل المجتمع للتعايش مع ذلك، وقد دلتنا مراحل عديدة من التاريخ، على أن ذلك ممكن باقتدار، وتكفى الإشارة إلى مرحلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، وحجم المدنية والتطور الحضارى والحرية الشخصية التى حصل عليها كثير من شعوب العالم العربى، مما جعلته متوازنًا لا يحتاج لأن يعيش فى تناقض بين السر والعلن (المجتمع المصرى واللبنانى والعراقى والمغرب العربى)، وكيف أسهم ذلك فى التعايش السلمى والإنتاج الفكرى والفنى والثقافى، وبالتالى تطور التعليم وترتب عليه تطور حضارى وارتفاع فى معدلات التنمية.
ولعلنا أيضًا لا نسعى لإقرار الأحكام الأخلاقية الجوفاء، والتى تجعلنا نصادر على حريات الآخرين تحت أى مسمى، ولكنا نأمل أن تتبنى الحكومات تصورًا واضحًا عن بلادها تحدد فيه كيف ترى هذه الأمة ومساراتها، وكيف تجعلها نموذجًا لذاتها وليس مسخًا شائهًا لغيرها، نموذجًا يمارس حريته فى إطار من حماية الدولة، وليس فى غيبة عنها.
فلماذا إذن تعيش البلدان العربية فى سياقين أحدهما معلن والآخر مخفى؟
لماذا تصر على الالتزام بمنظومة أخلاقية، لم تعد صالحة للتداول المعاصر دون أن تسعى لتحديثها وتطوير مفرداتها؟
لماذا تفرض القوانين التى تعرف أنه لن يتم الالتزام بها وإنما سيتم خرقها دومًا؟
لماذا تحاول فرض نموذج أحادى للدين يفرض بالتبعية هيمنة سلطوية على المجتمع (الدولة الحاكمة باسم الدين حتى لو لم يكن ذلك معلنًا)؟.
وأين موقع الحقوق الدستورية التى تنص عليها مواد الدستور فى كثير من البلدان العربية أو مدوناتها التشريعية؟.
ولماذا لا نعود لجوهر الدين الصحيح، والمحاولات قريبة العهد لعلماء كانوا فى الغالب الأعم ينتمون لمؤسسات دينية كبرى مثل الأزهر الشريف، من أمثال على عبدالرازق، وعبدالمتعال الصعيدى، وغيرهما من الإصلاحيين الوسطيين؟
أليست هناك حريات مكفولة للتدين فى كل الديانات، تترك للإنسان حق اختيار معتقده، وممارسات شعائره، وهو المسئول فيها عن مصيره؟.
وأخيرًا إلى متى ستستمر محاولات التوفيق بين قوانين وضعية وتشريعات دينية لم يتم مزجهما على نحو يسمح ببناء مواطن سَوِىٍّ خالٍ من العيوب والأمراض والتناقضات؟..
ألا يستحق الأمر المحاولة؟!.