رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. محمود الضبع يكتب: الصراع بين العقل العلمى والعقل الخرافى

د. محمود الضبع
د. محمود الضبع

لا يستطيع أحد أن ينكر تاريخ العقل العلمى العربى وإسهاماته فى تكوين العقل العلمى العالمى، وقد يطول الشرح إذا ما استعرضنا هذا المنجز منذ العصر الأموى، ثم ازدهاره من القرن السابع إلى السادس عشر الميلادى فى مصر وسوريا والعراق وتونس والمغرب العربى، ثم انتقال ذلك كله إلى الغرب واستفادته منه فى العلوم الطبيعية والفكرية والفلسفية، وتجاوزه كثيرا منه.
لكن يبدو أننا فى حاضرنا العربى نعود مرة ثانية لأسئلة تم طرحها منذ ما يزيد على المائة وخمسين عاما، مثل:
ما الفرق بين العلم والخرافة ؟
وما الحدود بين العلم والدين؟
ولماذا يرفض العقل العربى أن يتحرر؟
وكيف نقبل أن نعيش كل هذا الجهل المطبق من حولنا؟
ولماذا نؤمن بالماضى فقط ونثق فيه على حساب الحاضر والمستقبل؟
وغيرها كثير من الأسئلة الأولية، التى طرحها وأجاب عنها دعاة التنوير، وبناء عليه أحرزت كثير من البلدان العربية سبقا، تآكل الآن، إذ لا يزال الشعب العربى يتسابق فى إصدار الحكم دون تفكير، وفى التبعية دون الإنتاج.. فلماذا؟.
أسباب كثيرة أدت لذلك، غير أن أهمها أنه ينحاز للعقل الخرافى، ويؤمن بالسمع والمشاهدة فقط، وتجسد ذلك الأمثال المعبرة عن فلسفة الشعوب «رأيته بعينى، وسمعته بأذنى»، على الرغم من أن البصر خادع، والسمع خادع، وقد دلتنا التجربة على انخداعنا بالمظاهر والكلام المنمق المعسول المنظم، ورغم ذلك مازلنا نحكم فقط بالسمع والبصر، على الرغم من كل الكوارث التى ارتكبها العربى فى تاريخه بسبب إصدار الحكم الخطأ، وبالتالى اتخاذ الموقف الخطأ، ودون أدنى تفكير أو إعمال للعقل.
ولعل قصة الخليفة عمر بن الخطاب مع الإمام على بن أبى طالب، رضى الله عنهما، فيما أورده أبوحامد الغزالى فى «إحياء علوم الدين» من أن الخليفة عمر شاهد وسمع وقوع حالة زنا أثناء تجواله ليلا، ولما أراد التحدث عن ذلك من منبره، تصدى له الإمام على قائلا: لو نطقت باسمهما أقمنا عليك الحد.
لعل فى هذه القصة ما يدلنا على عدم التعجل فى إصدار الحكم بالسمع والرؤية فقط، ذلك أن الشرع وضع الضوابط لإصدار الحكم سواء فى حكم الحد بالزنا أو فى التكفير أو غيرهما، مما تساهلت معه الممارسات العربية الآن، فوصلت إلى حالات التكفير والقذف وإلقاء التهم الكثيرة والباطلة على كل من يخالف الرأى أو تنتفى معه المصلحة الشخصية، والواقع خير دليل على ذلك.
يؤمن العربى بما يراه ويسمعه فى حياته، ولكنه فى تدينه يؤمن بالروحى المطلق، غير أنه يمتلك القدرة على الفصل بين الإخلاص لفكرة الروحى الدينى، وبين فعل كل شىء قد يتناقض مع هذا الدينى الروحى من إيمان بما يراه ويسمعه ويفعله فى حياته الشخصية، إنه تناقض جوهرى فى حياة العربى، مرده الصراع بين العقل العلمى والعقل الخرافى، بين العلم والدين، بين ما يؤمن به، وما يفعله بعيدا عن الإيمان.. لأنه يغيب العقل العلمى كثيرا، حتى فى حالات ضرورة وجوده، وهكذا يتناقض عقل العربى، وتمضى حياته فى محاولة التوفيق بين المتناقضات، بدءا من المفهوم، وانتهاء بالممارسة.
العقل العلمى هو عقل يحتكم إلى المعرفة، ولا يقبل أى نتائج دون مقدمات منطقية تؤدى لها، فالمرض سببه نقص فى عنصر غذائى أو قصور فى وظيفة عضو من الأعضاء، وليس سببه قوى غيبية أو أرواحا شريرة مثلا، والتخلف عن ركب الحضارة سببه التخلف العلمى، لأن العلم هو مفتاح الحضارة، وهكذا، وبالتالى يبحث العقل العلمى فى أسباب حدوث المرض، وكيفية علاجه، ورصد حالات حدوثه وتكرارها بهدف الوقاية منها قبل أن يصاب بها آخرون، ويبدأ فى دراسة وتحليل أسباب التأخر العلمى ويربط بها كل النتائج، ويضع الخطط لإصلاح ذلك.
أما العقل الخرافى فهو لا يقبل المقدمات، وإنما يؤمن بالنتائج، ويرجع كل شىء يواجهه فى حياته، إيجابا كان أو سلبا، لقوى خفية خارجية هى التى أرادت له ذلك، وعلى الرغم من عدم القدرة على تجريب واختبار هذه القوى الغيبية، فإنه يؤمن بها ويثق بها ويطمئن قلبه إليها.
العقل العلمى يؤمن بالتجريب وفرض الفروض واختبارها، وبالتالى فإنه كما يورد جوناثان سى سميث فى كتابه «العلم الزائف وادعاء الخوارق، أدوات المفكر النقدى»: «إذا لم يكن ممكنا اختبار فرضية ما، أو عدم تأكيدها، فهى بصفة عامة فرضية لا جدوى منها لإثبات الحقائق، وهذا هو معيار الدحض (أو قابلية الاختبار)، وهو إحدى أهم أدوات التفكير النقدى، وقد اقترح كارل بوبر ١٩٥٩م أنه لا يمكن النظر إلى فرضية ما باعتبارها علمية، إذا لم تكن هناك أى وسيلة لإثبات خطئها»، وهذه الطريقة فى التفكير تفترض من البداية أن النتائج التى سيتم التوصل إليها ليست فى حالة ثبات، وإنما ستغيرها فرضيات جديدة تؤدى لنتائج جديدة، وهكذا دواليك، مما سيسمح للعلم بالتطور والتقدم بحياة الإنسان، وإلا كانت البشرية ما زالت متوقفة عند كل الأمراض باعتبارها نتيجة قوى شريرة تحل علينا.
وعلى المقابل يأتى التفكير الخرافى ليبحث عن الثبات المطلق فيما ورثه من أفكار وتصورات ومعارف عن الحياة من حوله، ولا يقبل التعامل معها بوصفها فرضيات قابلة للتغير، أو أنها يمكن وجود بديل لها وعنها.
والسؤال: لماذا يرفض العقل العربى التحرر فكريا ليطور أدوات عقله النقدى؟
لعل هذا السؤال كان محور البحث الفكرى والفلسفى لكثير من أبناء الوعى العربى على مدى قرون، غير أن النتائج التى تم التوصل إليها قد تكون من الصعوبة بمكان لطرحها فى صورتها المباشرة، لكونها صادمة تخالف وعى المجتمع، وقد تؤدى لصراعات بين الجماعات والأفراد، كما شهدت السنوات الأخيرة فى معظم بلدان وطننا العربى (وبخاصة الصراع الدينى المذهبى)، إلا أن إصلاح ذلك ليس مستحيلا، حيث يمكن التعامل مع هذه المشكلات جزئيا ومرحليا، وستحتاج إلى سنوات من التعليم والتنوير والتثقيف لإقرارها، والأهم هو وجود الدولة القوية الواعية لهذه الرؤية، والممتلكة لإرادتها.