رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. نجيب محفوظ.. قديس الطب المصرى


فى يوم الخميس ٥ يناير ١٨٨٢م وُلد نجيب ميخائيل محفوظ بمدينة المنصورة محافظة الدقهلية. التحق نجيب بمدرسة الأمريكان بالمنصورة أثناء المرحلة الابتدائية ثم انتقل منها إلى المدرسة الأميرية الابتدائية. وبعد وفاة والده ووالدته ذهب مع شقيقه إلى القاهرة وأقاما بمنزل فى شارع «شرم الفجالة». وفى القاهرة التحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية، ولنبوغه حصل على شهادة البكالوريا فى ثلاث سنوات بدلًا من خمس.
التحق بمدرسة الطب بالقاهرة عام ١٨٩٨م. وفى عام ١٩٠٢ وهو فى السنة النهائية بمدرسة الطب ظهر وباء الكوليرا فى بلدة «موشا» التابعة لمحافظة أسيوط وطُلب منه أن يعمل مراقبًا للقادمين من الصعيد، وحدث أن مات زميله الطبيب فى «موشا» بهذا الوباء، فطلب الدكتور نجيب أن يذهب إلى هناك ليؤدى واجبه. وأجرى دراساته وبحوثه، واهتدى إلى وجود بئر موبوءة بهذا الوباء، فأمر بردمها وبذلك انتهى أصل الداء. وتسبب هذا العمل فى ذيوع صيته. وفور تخرجه عام ١٩٠٢ طلبه الدكتور «كروزويل» للعمل معه فى مستشفى الفيوم بمرتب كبير، لكن الدكتور نجيب اعتذر لأنه أراد العمل فى طب أمراض النساء، إذ إن والدته تعسرت عند ولادته ثلاثة أيام، فاحترم الدكتور «كروزويل» مبادئه، وقدمه للسير «هوراس بتشنج» المدير العام لمصلحة الصحة، وطلب أن يُعين بقصر العينى وفعلًا عُين مساعدًا بقسم الجراحة بقصر العينى. وفى عام ١٩٠٤ عُين مشرفًا على عمليات التخدير الجراحى فى المستشفى. ولما وجد أن العمل فى غرفة العمليات لا يبدأ قبل التاسعة صباحًا، طلب السماح له بافتتاح عيادة خارجية خاصة بأمراض النساء يعمل فيها بين الثامنة والتاسعة من صباح كل يوم، وفى غضون عام واحد قام بفحص ٨٥٠ حالة من حالات المرضى، وما إن حل عام ١٩٠٥ حتى أصبح عدد من عالجهن ضعف هذا العدد تقريبًا، فكان ذلك نواة لإنشاء القسم الخاص بالولادة وأمراض النساء بكلية الطب وخصصت الكلية فيه جناحًا يحتوى على عشرة أسرة للتوليد وأمراض النساء. ولما زاد عدد الحالات على عدد الأسرة كان يقوم بمعالجة مئات الحالات المرضية المُعقدة مجانًا فى بيوت المرضى. وحدث فى يوم ١١ ديسمبر ١٩١١ أن تعسرت إحدى السيدات فى الولادة، فأشار عليها الأهل والجيران باستدعاء طبيب النساء والولادة د. محفوظ. وتمت الولادة بفضل الله على خير. وفى الصباح توجه زوج هذه السيدة ويُدعى «إبراهيم عبدالعزيز الباشا» إلى مكتب الصحة، وفى خانة اسم المولود كتب «نجيب محفوظ» وهكذا أصبح اسم أديب مصر العالمى «نجيب محفوظ إبراهيم عبدالعزيز الباشا».
ساهم مع الدكتور إبراهيم المنياوى والدكتور إسكندر جرجاوى فى العمل القومى الرائع الذى قامت به الجمعية الخيرية القبطية برئاسة جرجس أنطون باشا فى إنشاء المستشفى القبطى بالقاهرة، على أن يكون للمستشفى الصفة القومية. وقد افتُتح عام ١٩٢٦. وطوال ثلاثين عامًا (١٩٠٢- ١٩٣٢) حافظ الدكتور نجيب على جميع المواد التى حصل عليها من العمليات التى أجراها بنفسه فى المستشفى القبطى وكتشنر وقصر العينى، وفى عام ١٩٣٢ قدم هذه المجموعة هدية لكلية الطب التى قبلتها مشكورة وحافظت عليها كوحدة مستقلة باسم «متحف محفوظ» الخاص بالولادة وأمراض النساء، وفى مارس ٢٠١٨ قام قصر العينى بافتتاح متحف د. محفوظ والذى يُعد أسطورة علمية طبية فنية متطورة بأحدث التقنيات الحديثة. وقبل أن يعتزل العمل فى الجامعة نشر على نفقته الخاصة دليلًا مصورًا عن متحفه والرسوم فيه موضحة بسبع لغات. وقام بإعداد أفلام سينمائية ملونة ناطقة للجراحات التى ابتكرها للأمراض التى كانت تُعتبر قبلًا غير قابلة للشفاء، كما قام بتأسيس جمعية الولادة وأمراض النساء المصرية.
حصل على ماجستير فى الجراحة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) عام ١٩٣٠ ثم دبلوم عضوية الكلية الملكية البريطانية للأطباء الباطنيين عام ١٩٣٢ ثم زمالة الكلية الملكية البريطانية للولادة وأمراض النساء عام ١٩٣٤، وفى العام التالى منحته الكلية الملكية لأطباء أمراض النساء والولادة البريطانية الزمالة الفخرية، وفى عام ١٩٣٧ حصل على زمالة الكلية البريطانية للأطباء الباطنيين ثم زمالة أكاديمية الطب بالولايات المتحدة الأمريكية ومقرها نيويورك. ثم منحته كلية الجراحين الملكية بإنجلترا الزمالة الفخرية عام ١٩٤٣ فى نفس الاجتماع الذى نال فيه مستر «تشرشل» نفس الدرجة. ثم فى عام ١٩٤٧ منحته الجمعية الملكية الطبية البريطانية الزمالة الفخرية فى نفس الوقت الذى مُنح فيه هذا اللقب للسير «الكسندر فلمنج» مكتشف البنسلين، وفى العام نفسه منحته الجمعية الملكية لأطباء النساء والولادة بـ«أدنبرة» الزمالة الفخرية.
حصل د. نجيب محفوظ على العديد من الجوائز والألقاب وآخرها فى عام ١٩٥٩ عندما رشحته الجمعية المصرية لتاريخ العلوم لنيل جائزة الدولة التقديرية للعلوم وقد أيد هذا الترشيح: الاتحاد العلمى المصرى وكلية الطب بجامعة القاهرة، فقرر المجلس الأعلى للعلوم برئاسة السيد كمال الدين حسين، وزير التربية والتعليم، فى ذلك الوقت منحه هذه الجائزة. وفى الاحتفال بعيد العلم عام ١٩٦٠ تسلم الجائزة من الرئيس جمال عبدالناصر. وقد طالب د. خالد منتصر فى كتاباته الكثيرة بضرورة رفع الظلم عن د. محفوظ والرد على محاولات تلويث سمعته واتهامه باضطهاد الأطباء المسلمين فى الالتحاق بأقسام النساء والتوليد، إذ أكد كل من د. محمد أبوالغار ود. خالد منتصر أن كل البعثات العلمية التى أرسلها إلى الخارج كانت لتلامذته المسلمين. نشر دكتور نجيب محفوظ حوالى ٣٣ بحثًا باللغتين الإنجليزية والفرنسية فى خلال الفترة (١٩٠٨ - ١٩٤٠). وله العديد من المؤلفات باللغة العربية، وباللغة الإنجليزية له: تاريخ التعليم الطبى فى مصر، الموسوعة العلمية فى أمراض النساء والولادة. وفى عام ١٩٦٦ صدر له كتاب «حياة طبيب» باللغة العربية- الطبعة الثانية- وباللغة الإنجليزية أصدرته شركة «لفنجستون» للطباعة والنشر بإنجلترا، وكتب د. طه حسين، عميد الأدب العربى، تقديمًا له قال فيه: (هذا كتاب ممتع إلى أقصى غايات الإمتاع..). وبعد أن أكمل جهاده بسلام وأعطى الناس نفسه وخدم وطنه بحياته واتقى ربه فى عمله، رقد فى سلام عام ١٩٧٢ تاركًا تاريخًا حافلًا بجليل الأعمال الصالحة.