رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حسن البنا المفترِى علينا


«مما لا شك فيه».. انتبه أيها القارئ فهذه المقالة تبدأ بالعبارة الشهيرة التى يبدأ بها الكُتَّاب مقالاتهم وهى عبارة: «مما لا شك فيه»، ولماذا أقول: «مما لاشك فيه»؟، لأن الواقع أثبت هذا الأمر فأصبح معلوما من السياسة والتاريخ بالضرورة، ولكن أى أمر أقصد؟!، طبعا أمر جماعة الإخوان وعلاقتها الروحية بمرشدها الأول حسن البنا.
مما لا شك فيه أن حسن البنا عند الإخوان هو فى مصاف الأنبياء، وما ذلك إلا لأن شخصيته كانت مؤثرة فى أتباعه، فمعظمهم كان قليل الثقافة والفكر، كانوا هم صغارا خاملين جهلاء، وكان هو أعلى منهم همة وقدرة ففتنوا به واعتبروه الإمام المهدى أو أعلى درجة، وهو فوق ذلك صنع لنفسه فى أذهانهم صورة ملائكية، فقد صوَّر نفسه كإمام تجرى الخوارق على يديه، ففى كتابه مذكرات الدعوة والداعية يقول عن أمر شق عليه عندما كان طالبا، ذلك أن امتحانه فى معهده كان على وشك الانعقاد وهو لم يستذكر دروسه بعد، فحدث كما يقول: «لا زلت أذكر أن ليلة امتحان النحو والصرف رأيت فيما يرى النائم أننى أركب زورقًا لطيفًا مع بعض العلماء الفضلاء الأجلاء يسير بنا الهوينا فى نسيم ورخاء على صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء، وكان فى زى علماء الصعيد، وقال لى: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هو ذا، فقال: تعالى نراجع فيه بعض الموضوعات، هات صفحة كذا، وصفحة كذا، لصفحات عينها، وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحًا مسرورًا، وفى الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات فكان ذلك تيسيرًا من الله تبارك وتعالى». ونجح حسن البنا فى الامتحان وتفوق فيه بسبب أن الله أرسل له فى المنام من يذاكر له الدرس الذى لم يقرأه، لم يرسل الله له رجلا عاديا، ولكن أرسل له بعض العلماء الفضلاء الأجلاء! فكان الدرس الخصوصى! وكان الغش عن طريق ملائكة المنام، وكان النجاح!، أما من ذاكر واجتهد طوال العام فلم تأت له ملائكة المنام لتغششه الامتحان، ولماذا تأتى له وهو ليس حسن البنا؟!.
وبذلك نستطيع القول بتأكيد إنه «مما لا شك فيه» أن إحساس البنا بإماميته للأمة كان ظاهرا حين أطلق على نفسه لقب «الإمام» حينما كان لا يزال فى مقتبل الشباب، ولكنه أيضا حينما آمن بهذه الإمامية قام بتوريثها لأتباعه، فيقول محمود عساف سكرتير حسن البنا فى مذكراته ناقلا كلمات قالها له البنا: «انظر يا محمود إن الإيمان بالإسلام يقوم على شهادتين: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولا تصلح الشهادة الأولى وحدها ليصير الشخص مسلما ذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم يتجسد الإسلام فى شخصه، وبالتالى يجب أن يكون الإيمان بالفكرة وصاحبها معا، فلسنا جمعية ولا تشكيلا اجتماعيا ولكن نحن دعوة فلابد من الإيمان بها والسير على نهج داعيتها والعمل على تطبيق أفكاره».
وضع حسن البنا نفسه فى مصاف النبى صلى الله عليه وسلم، فلطالما أن إسلام المرء لا يتم إلا بإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن إيمان الإخوانى لا يتم إلا إذا آمن بحسن البنا، وضع البنا نفسه فى مقام النبى، ووضع كلمة الدعوة فى مقام الإسلام، وعلى هذا الأمر سار الإخوان، فهم يقولون دائما عن حسن البنا إنه «صاحب الدعوة» وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنازل عنها للبنا، وسبحان الله!، مرة يقول فريق من الشيعة إن «الدعوة كانت لعلى بن أبى طالب» ومرة يقول الإخوان «إن البنا هو صاحب الدعوة» وكأن هناك تنازعا فى ملكية الدعوة.
ولأن البنا فى ضميره وضمير الإخوان هو صاحب الدعوة، لذلك يجب أن يكون فهمه للإسلام عندهم هو الفهم المعتمد الذى لا يجوز مناقشته أو الاختلاف فيه، وهذا هو ما أَكد عليه البنا لأعضاء الجماعة، إذ أوضح لهم أن الإسلام لا يُفهم إلا فى حدود الأصول العشرين التى وضعها لهم، لا يجوز لهم أن يضيفوا لها أو أن يحذفوا منها، فإذا ما أرادوا فهم الإسلام فيجب أن يطرقوا باب البنا الذى معه مفاتح الفهم وحده، ولتأكيد هذا قال فى تفسير ركن «الفهم» الذى هو أحد أركان البيعة: «إنما أريد بالفهم أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صحيحة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه فى حدود الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز».
وحينما وجد أن الجماعة ضمت بعض الشباب الذى يفكر ويناقش ويجادل أراد أن يخضعهم لطريقته وأسلوبه وفهمه هو وحده، ولم لا وهو عندهم الإمام المهدى الذى أرسله الله ليجدد للأمة أمر دينها!، هو الإمام الذى لديه كنوز من المعرفة الربانية كنزها لنفسه وأعطاها لأصحابه القطرة وراء الأخرى! ـ تبًا لهذه العقول التى صدقت تلك الخرافات البناوية ـ لذلك قال فى أحد الأيام للشيخ الشاب الدكتور عبدالعزيز كامل عندما وجده يفكر: «أنا أعلم نوع تفكيرك وتمسكك بالسنة، وستأتى أيام وظروف قد نختلف فيها، وأود فى هذه الظروف أن تترك رأيك لرأيى، ألا تطمئن إلىَّ؟».
وبذلك أغلق البنا على المسلمين أبواب الفهم، واحتكرها لنفسه، وما ذلك إلا لأنه فى نظر نفسه وعند أتباعه «الإمام المهدى» الذى طال انتظاره، والذى يصحح للناس أفهامهم الدينية ويجعلهم قالبا واحدا، أما أولئك الفقهاء الكبار الذين اجتهدوا ووضعوا قواعد ذهبية فى تنوع الأفهام وتعدد الصواب واختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان. فأولئك ليست الجماعة منهم فى شىء، إذ إنهم لا يعرفون إلا حسن البنا وحده، ولا يفهمون غير أفكاره، ولا يتقربون إلى الله بالدعاء إلا من خلال الأدعية التى جمعها البنا وجعل منها أذكارا للجماعة.
لذلك كان قتل حسن البنا نكبة وقعت على رؤوس الإخوان، فبكوه وأسرفوا فى البكاء، فهذا هو عمر التلمسانى يقول بعد مقتل البنا: «وكف القلب المعلق بالعرش عن النبض فى هذه الحياة لينبض فى مقعد صدق عند مليك مقتدر».
وبذلك يكون الإخوان قد دخلوا فى علم الله، وتألّوا على الله، وقطعوا بالغيب الذى لا يعرفه إلا الله، لم يقل التلمسانى وهو يرثى شيخه كلمة تفيد بشرية أفهامنا وعدم معرفتنا بالغيب مثل «نحسبه فى مقعد صدق عند مليك مقتدر والله حسيبه»، ولكنه قطع بمكانه ومكانته عند الله!، ولم لا أليس هو فى ضمائرهم الإمام المهدى؟.
ومرت سنوات والإخوان يزدادون تقديسا للبنا فيقرنون اسمه بعبارة «رضى الله عنه»!، ويقولون دائما عندما يستدلون بكلامه: «قال الإمام الشهيد»!، إلى أن جاء يوم فأصبح البنا هو الإمام المفترى علينا بجماعة ليس لها دين وليس لها وطن، ولكن لها إمام، ولكن لن يكون لها إن شاء الله «أمام» أو مستقبل لأنها مضافة إلى الماضى.