رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نفسية المقاتل.. ما الذى يخفيه السيسى عن شخصيته؟


يمكن أن تعتبر السؤال فى غير محله، فهو لا يمكنه أن يُخفى شيئًا، وهو على المحك، يسعى خلفه الجميع، منْ يحبونه ويؤيدونه بشدة، ومنْ يكرهونه ويعملون بدأب على التخلص منه، ولذا من الصعب أن تجد جانبًا خفيًا فى شخصيته. لا يمكن التعامل مع هذا الكلام على أنه صحيح بإطلاقه، فمن زاوية الطبيب النفسى التى أركن إليها علميًا وتطبيقيًا، أرى بعض الجوانب التى يمكن أن تُخفى على من لا يدققون كثيرًا فى تفاصيل الشخصيات الفاعلة فى المجال العام. ولأن الرئيس عبدالفتاح السيسى هو الفاعل الأول فى المجال العام فى مصر، فهناك الكثير الذى يمكن أن نقوله عما خفى من شخصيته، سواء كان يخفيه عن قصد، أو أنه لم يرد ذكره فى أحاديثه العامة بشكل عفوى.

هل نحتاج إلى خريطة علمية ونحن نقرأ ملامح هذا الرجل النفسية؟، لِمَ لا، خاصة أن الخريطة جاهزة، فحتى نرى ما يرقد تحت أعصاب هذا الرجل وعواطفه، فلا بد أن ندخل إليه من زاويا ست، هى: المشاعر، والدوافع، والتفكير، والتعامل مع الضغوط المحيطة به، والطاقة الإيجابية، والقدرة على القيادة.
حتمًا سألت نفسك: كيف يفكر الرئيس؟، وحتمًا بحثت عن إجابات، ومؤكد أن لديك بعضًا منها، لكن هل حاولت أن تتابعه وهو يتحدث فى خطاباته التليفزيونية؟، وهل أنصتّ إليه لو أتيحت لك فرصة أن تسمعه عن قرب؟ ــ وهو ما حدث معى عندما دعيت إلى مناسبات عامة، حضرها الرئيس ــ، وهى المرات التى وصلتنى فيها مشاعره دون حواجز، وبعيدًا عن عدسات الكاميرا، التى لها حكم لا يستطيع أحد أن يتخلص من سطوته.
قد تشعر من كلامى أننى لست محايدًا، وحتى لا أخدعك فأنا بالفعل لست كذلك، لذا لا تتعجب عندما تجدنى منحازًا لما يقوله ويفعله الرئيس عبدالفتاح السيسى، لكن أعدك ألا يأخذنى حبى له من حيادى العملى فيما يخصه.
على عكس ما توقع كثيرون من وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى، الذى تولى منصبه فى أيام فارقة، كان المزاج العام يميل إلى الخضوع التام ناحية جماعة الإخوان، التى بدا لكثيرين أنها وصلت إلى كرسى السلطة، ولن تتركه مرة ثانية.
أوجس ملايين المصريين فى أنفسهم خيفة، اعتقدوا أن ما يروج عن «إخوانية» وزير الدفاع صحيح، وهو ما يعنى أن الجماعة التى امتلكت الشرعية المعنوية بقوة الصناديق، امتلكت أيضًا شرعية القوة المادية بوضع يدها على الجيش.
خرج عبدالفتاح السيسى بملايين المواطنين من ضِيق هذه الفكرة إلى رحابة فكرة أفضل وأقرب إليهم.
تتذكرونه عندما قال: «تتقطع إيدينا قبل ما تتمد على المصريين»، كان ذلك فى نهايات أبريل ٢٠١٣، عندما كانت الجماعة تهدد وتتوعد كل من يفكر فى الخروج عليها، وبكلمة واحدة استطاع السيسى أن يُنهى الصراع النفسى الذى يدور فى قلوب المصريين، فهدأت خواطرهم، وأدركوا أنه المخلص الذى لن يروا منه شرًا أبدًا، وهو موجود بينهم.
كسر السيسى عندما قال هذه الكلمة الحاجز النفسى الذى كان قائمًا بينه وبين المصريين، كان الفنان محمد فؤاد مشاركًا فى الاحتفال الذى تحدث فيه السيسى، وهو الحفل الذى نظمته جامعة «المستقبل» لتكريم قيادات القوات المسلحة والاحتفال بذكرى تحرير سيناء، قال له: «خلى بالك من مصر يا فندم»، فرد السيسى: «ماتخفش يا أستاذ محمد».
يومها جاء من يقول لى: «هل سمعت ما قاله وزير الدفاع؟»، ولما أجبته: «نعم»، قال لى: «إحنا ردت فينا الروح باللى قاله».
وصلتنى فى هذه اللحظة أول سمة من سمات شخصية عبدالفتاح السيسى النفسية، فهو ملهم للآخرين، يشجعهم ويحفزهم ويغير من سلوكهم، وعندما تأملت ما فعله فى الآخرين، أيقنت أننى أمام قائد مكتمل تمامًا.
لقد حلا لجماعة الإخوان بعد ٣٠ يونيو التعامل مع الرجل على أنه مخادع، ويستشهدون على ذلك بأنه كان يبالغ فى صلاته وصومه أمامهم، حتى يخدعهم بصلاحه وتقواه، والحقيقة أن السيسى لم يخدع الإخوان، لكنهم انخدعوا به.
والثابت أن تدينه ليس مثل تدينهم، فهو صاحب روحانيات اكتسبها من حالة صوفية صقلتها أجواء حى الجمالية الذى تربى فيه، وهى الحالة التى جعلته قادرًا على الفرز بين من يحملون الدين على أعناقهم بشكل حقيقى، ومن يستخدمونه لتحقيق أهدافهم.
لقد قال لـ«محمد مرسى» فى لقاء بينهما بعدما تولى أمر وزارة الدفاع: «أنا مش إخوانى.. ومش هابقى إخوانى.. ومش سلفى ومش هابقى سلفى.. أنا إنسان مسلم بس»، قال ذلك لكن «مرسى» لم يصدقه، أو أنه اختار ألا يصدقه، ربما اعتقادًا منه أنه يمكن أن يجذب السيسى إلى طريق جماعته.
عمل السيسى كثيرًا تحت ضغوط، لا أقصد ضغوط العمل، لكن الضغوط النفسية الهائلة، وتخيل مثلًا أنه ذهب ليستمع إلى خطاب محمد مرسى، فى ٢٦ يونيو ٢٠١٢، وهو الخطاب الذى انتظر فيه السيسى انفراجة، لكن مرسى حشد مؤيديه ضد معارضيه وكأنه يعلن الحرب.
ظل السيسى طوال الخطاب صامتًا، لم يصفق ولو لمرة واحدة، لم يبتسم ولا لمرة واحدة، التفسير السطحى لموقفه يقول إنه كرجل مخابرات لا يمكن معرفة رد فعله، لكن من يعرفونه كانوا يدركون أنه كان منزعجًا، لأن ما يقوله مرسى سيفرض مواجهة ما.
كان رد فعل السيسى مطمئنًا جدًا، أدرك الناس أنه لا يميل إليهم فيما يريدونه، لأنه بدا منزعجًا مثلهم مما يقوله مرسى ويهذى به.
بعد أن استمع المصريون لبيان عبدالفتاح السيسى، فى ٣ يوليو ٢٠١٣، أصبح وزير الدفاع بالنسبة لهم هو المخلص، وهو ما بدا فى تجاوبهم معه عندما طلب منهم تفويضًا لمواجهة الإرهاب المحتمل، عرف السيسى كيف يصل إلى قلوب المصريين، فلم يتأخروا عنه أبدًا، نزلوا إلى الشوارع بالملايين، هتفوا له، ليدشنوا بطلًا شعبيًا شعروا أنه خارج من صفوفهم وليس غريبًا عنهم.
كان طبيعيًا بعد ذلك أن يحدث ما يشبه التوحد بين الجماهير وقائدها، وهى الحالة التى دفعتهم لأن يطالبوه بأن يكمل جميله، ويرشح نفسه فى الانتخابات الرئاسية، ولم يحدث هذا إلا لأن الشعب شعر بمصداقية الرجل الذى لم يتعهد له بشىء وتراجع عنه.
كنت أتابع ما يحدث لعبدالفتاح السيسى وفى ذهنى ما قاله أحد الصالحين عمن يحكم مصر وقت الشدائد، قال: «حاكم مصر وقت الشدة يأتى قدريًا.. إذ يجد الحاكم نفسه مدفوعًا إلى الحكم دون اختياره.. يأتى للإنقاذ ولديه شجاعة وإقدام، لا يطلب الحكم لنفسه ولكن يطلبه الناس له».
لقد دخلت بكم إلى مساحة روحانية، وأعتقد أن البعض يمكن أن يعترض، إذ ما علاقة الروحانيات بالطب النفسى؟، والإجابة ببساطة أن علم النفس الإيجابى يبحث فى الجوانب الروحانية، وهى جوانب طاغية على الشخصية المصرية، التى تعيش حالة دينية صوفية فطرية.
وثق المصريون فى السيسى أكثر، عندما وجدوه يرشح نفسه وهو يرتدى بدلته العسكرية، أدركوا أنهم أمام رجل لا يتخلى أبدًا عن ماضيه، بل يتمسك ويعتز به، وهى سمة تبعث على الاطمئنان.
فى هذه اللحظة رأيت السيسى مقاتلًا يعتز بتاريخه، رأيت فى عينيه يقينًا كاملًا بأن القدر أتى به لحكم مصر، وعليه أن يستمر بهذه النزعة، فلا رفاهية فى حكمها.
عندما ارتدى السيسى بدلته العسكرية مرة أخرى فى يوليو ٢٠١٥، وهو يزور الجنود، يومها رأيته يمارس أعلى درجات الحرب النفسية ضد خصومه، وأعلى درجات رفع الروح المعنوية لجنوده، فهو مثلهم مقاتل فى أرض المعركة، ولن يتخلى عنهم أبدًا.
البدلة العسكرية تقول إننا أمام مقاتل شريف، لذا لم يكن غريبًا من الناحية النفسية أن يقول السيسى أكثر من مرة إنه «ليس سياسيًا»، فهو يمتلك عقيدة مقاتل، ونفسيته التى لا تقبل اللين ولا اللوع ولا أنصاف الحلول، تميل إلى الإنجاز والصرامة والشرف والنبل.
لقد تسربت صورة عبدالفتاح السيسى إلى ضمير المصريين، فتشكلت ملامح حقيقية لشخصيته، لأنه لا يخادع، ولا يحاول إظهار نفسه على غير الحقيقة.
فقبل أن يُصبح رئيسًا كان بالنسبة لهم صاحب «الكاريزما» الصارم، الصوفى النزعة، المنجز النشيط المعتز بنفسه، الحنون الذى يمكن أن يقتحم القلوب بكلماته الرقيقة.
وبعد أن أصبح رئيسًا بدا لهم مفاجئًا وصادمًا وسريعًا فى رد فعله، وهو ما جعل البعض مرتبكًا بعض الشىء، لكن عندما تبدت النتائج تأكد الجميع أن السيسى كان على حق.
فى مرآتى الخاصة، كانت هناك سمات رصدتها فى شخصية الرئيس، كنت أراه أكثر تحررًا وارتياحًا وهو يتحدث فى مؤتمرات الشباب، وفيها يبث طاقة أمل وإيجابية وبهجة.. وكنت أراه صارمًا فى لقاءاته العملية، لذا لم يكن غريبًا علىّ ما قاله فى افتتاح حقل «ظُهر»، حين كان غاضبًا، ربما أكثر من أى مرة أخرى كان غاضبًا فيها، واندهش البعض من لهجة الرئيس الحادة، لكننى لم أندهش أبدًا.
الرئيس السيسى يتسق مع نفسه حتى فى لحظات غضبه، وهى سمة من سمات الشخصيات السوية، التى تعرف متى تهدأ، ومتى تنفعل.