رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شوارع مدينتنا


مدينتنا فى وسط الصعيد، أصبحت تتعامل معنا بجفاء، خصوصا بعد أن كبرنا وهرمنا، ولم تعاملنا كنباتاتها، التى تحتفظ بها فى شرفات على شاطئ ترعة الإبراهيمية، فيما يعرف بالمشتل، فترعاها وتسقيها وتهتم بها. ولكن مدينتنا تريدنا ألا نخرج من بيوتنا، فقيدتنا فى البيوت، فلم تعد لنا طاقة ولا قدرة على السير فى شوارعها، لأسباب عديدة آخرها الزحام الشديد فى الشوارع.

إذ يحتل التوك توك أو الجعران شوارع كل مدن مصر، وشوه صورتها الحضارية بشكله القبيح الخالى من أى جمال. وسائقيه الذين تجرد بعضهم من كل ما يمت للإنسانية بصلة، ابتداء بسلاطة اللسان وانتهاء بارتكاب الجرائم، أو ترك التوك توك والنزول لتأديب قائد مركبة كشر فى وجهه، مع وابل من السباب لقائد السيارة واللى خلفوه. وما لم يتحل قائد السيارة بالصبر وطول البال، فإنه سيخرج طبنجة ليفرغها فى كرش سائق التوك توك عديم التربية. وقبل أن يفتح الباب يتدافع الناس لمنعه، ويتطوع بعضهم بضرب سائق التوك توك قلمين على سبيل الترضية.
والسبب الثانى هو التراب الكثيف والناعم، والذى يجبر بعض السكان على محاولة التغلب على نعومته وتطايره فى الهواء، برشه بالماء العذب من الحنفيات، لتجفيفه ليصبح كتلة من الطين سرعان ما تجف وتصبح صلبة، ولكن السير عليها يحولها من جديد إلى تراب ناعم، وتتجدد الدورة كل أسبوع ويتكرر الرش، رغم صراخ شركة المياه. فأنت عندما تخرج للشارع وتعود للبيت، فإنه يجب أن تغسل وجهك بماء وصابون لإزالة ما ترسب من طبقات التراب فوق جبينك وملابسك، وأصبح من المألوف أن تجد بعض الموظفين ممن يجبرون على ارتداء البدل الكاملة كالمحامين ومأمورى الضرائب ورجال المكاتب الإدارية، تجد ملابسهم وكأنها أكل عليها الزمان وشرب من فرط تراكم كميات الأتربة عليها، ولا يجدى فيها تنظيف أو كى أو أى شىء، ونادرا ما تجد فى مدينتنا فى وسط الصعيد من يرتدى قميصا أبيض أو جلبابا أبيض إلا إذا كان ثريا ليستبدله كل يوم بجلباب آخر. أما أخطر ما نتعرض له فى شوارع مدينتنا فهو الحفر والمطبات، ومخلفات حفر هيئة الصرف الصحى، وشركة الغاز والكهرباء، ومخلفات المبانى، التى حولت الشوارع إلى طرق شبيهة بتلك الطرق التى تمر بها المجنزرات فى الأماكن الصحراوية، فما إن تمر بسيارتك حتى تشعر بأنها تهتز بصفة دائمة، وترتفع وتنخفض ليرتطم ركابها بسقف السيارة أو ببابها أو يرتموا ناحية اليسار أو اليمين، حسب موقعك. ويصبح السير فى تلك الشوارع قطعة من العذاب، وكان الله فى عون سيدة حامل تضطر لركوب توك توك لمراجعة طبيب النساء بحملها، وبطنها الذى يرتج فى تلك الشوارع الجبلية الوعرة. وربما كان هذا الزحام الرهيب فى عيادات أطباء النساء والولادة سببا فى العمليات القيصرية، وكثرة الأبراج والبيوت الفاخرة، التى شيدها الأطباء، خصوصا أطباء العظام والعمود الفقرى والعلاج الطبيعى.
مدينتنا تنادى المسئولين عنها بسرعة التحرك، لإنقاذها من أعدائها الثلاثة الخطرين. الزحام والتراب، والوعورة، نريد أن يعود لمدينتنا رونقها الذى كان، الذى وصفها به يوما أحد رؤساء المدن السابقين، وكان رومانسيا، قائلًا إنها فينسيا الصعيد. وربنا لا يعلم البعض أن مدينتنا فى وسط الصعيد عاش فيها الشاعر حافظ إبراهيم، وعمل فيها توفيق الحكيم ويحيى حقى، وكتب عنها الكاتب الرائع محمد مستجاب، أروع كتبه، وأصبح واحد من أبنائها وزيرًا للثقافة، وفيها نادى أدب يفخر برجاله من الكتاب والأدباء والشعراء، وفيها فرقة مسرحية.